في حوار شهير بين ميشيل فوكو ونعوم تشومسكي، أنجزه الفيلسوف الهولندي فونس إلدرس لصالح التلفزيون الهولندي عام 1971 لمنافشة أطروحة «الطبيعة البشرية: العدالة في مواجهة السلطة» حاول المفكران معالجة موضوع إن كان البشر، رغم اختلافاتهم، لديهم طبيعة عامة، بحيث يمكنهم النظر إلى كونهم «جنسا بشريا» واحدا، وقد اتخذ المفكر فوكو، مقاربة فكريّة يمكن اعتبارها تجسيدا لاختلافه الكبير، ليس عن تشومسكي فحسب، بل عن مجمل منظومة التفكير الغربية (باستثناء نيتشه ربما).
معتمدا في ذلك على نظريته في قواعد اللغة العامة، اعتبر تشومسكي أن البنية الداخلية للطبيعة البشرية موجودة حقيقة في الدماغ البشري، بينما رأى فوكو أنه لا يمكن مقاربة مسألة الطبيعة البشرية من خارج البنى الاجتماعية.
تجنب فوكو، خلال الحوار، تجريد السؤال: هل الطبيعة البشرية موجودة؟ وسأل بدلا من ذلك: كيف يوظف مفهوم الطبيعة البشرية ضمن المجتمعات. آخذا علم الحياة خلال القرن الثامن عشر كمثال، يفكّ فوكو الارتباط بين الطرق المستخدمة ضمن حقل محدد، خلال لحظة تاريخية معينة، ويشير إلى أن المفاهيم المجردة العامة مثل «الحياة» أو «الطبيعة البشرية» كان لها تأثير غير مهم في التغيرات التي جرت في قواعد العلوم، فاللغويون «لم يكتشفوا قوانين تغيّر الحروف بدراسة «الحياة البشرية» وفرويد لم يكتشف مبادئ التحليل النفسي من الأحلام، ولم تظهر الأنثروبولوجيا الثقافية من دراسة بنى الأسطورة». والخلاصة أن مفهوم الطبيعة البشرية لا معنى له، من دون رؤيته ضمن الخطابات المتصلة باللاهوت والتاريخ وعلم الأحياء.
فوكو: ليس هناك «وعي عالمي»
يظهر فوكو شكا عاليا في المزاعم بوجود حقائق عامّة عالمية، وبدلا من دحضها فإنه ينشغل عمليا بوضع هذه التجريدات الكبرى ضمن سياقاتها التاريخية، يغيّر فوكو طريقة التعاطي مع موضوع «الطبيعة البشرية» بتحليل التوظيفات الاجتماعية لطرق اشتغال مثل هذه المفاهيم في سياقات كالاقتصاد، التكنولوجيا، السياسة والاجتماع. بالنسبة لفوكو، ليست هناك وضعية يقينية يمكن استقاؤها من الخارج، وليس هناك «وعي عالمي» خارج التاريخ والمجتمع، وطريقته في تطبيق هذا هي التحليل لأبعد مدى ممكن من دون الرجوع إلى قواعد عالمية شاملة (أو نعتقد، بالأحرى، أنها قواعد عالمية شاملة). والهدف لدى فوكو هو فهم تنوع الأدوار، التي يتخذها المنطق العقليّ خلال الممارسات الاجتماعية، وليس استخدامه مقياسا لتلك الممارسات.
تضيء مقارنة رؤيتي فوكو وتشومسكي للسياسة على الاختلاف بينهما، فتشومسكي مهتم بالسياسة، لأن هناك حاجة إنسانية شاملة للعمل الإبداعي والبحث الحر، ولأن هذه الحاجة مقيدة في مجتمعاتنا، فإن المشكلة الرئيسية التي علينا مواجهتها هي مشكلة سياسية: كيف نبني مجتمعا عادلا يحكمه الإبداع والعقل؟

كيف قبعنا في «ظلام كامل»؟
ما هي مهمة المثقفين في هذا الصراع؟ استخدام مفهوم الطبيعة البشرية كمقياس لمحاكمة المجتمع، واستخدام منطقهم العقلي لصياغة مفاهيم دقيقة لمجتمع ونظام أكثر عدالة وإنسانية. يرفض فوكو، في المقابل، أن يجيب لماذا هو مهتم بالسياسة، فهو يعتبر ذلك أمرا بديهيا. بدلا من الإجابة على سؤال غير مهم، فإنه يستخدم سؤال «كيف» بدل «لماذا» كيف أنا مهتم بالسياسة؟ «بالتأكيد ليس بتخيل نمط اجتماعي مثالي لتنظيم مجتمعنا التقني أو العلمي». أحد العلامات المميزة في الفلسفة السياسية الغربية، حسب تأويل فوكو، كان إخلاصها لتجريدات كهذه، المبادئ أولا، واليوتوبيا ـ مثل إنتاج نظرية. في الغرب قمنا بمقاربة مستمرة لمشكلة النظام السياسي، ببناء قوالب للنظام الاجتماعي العادل، أو البحث عن مبادئ عامة لتقييم الظروف الحالية. لكن هذا التأكيد، حسب فوكو، و«إرادة المعرفة» هذه، هي التي تركت فهمنا لكيفية اشتغال السلطة في المجتمعات الغربية، في ظلام شبه كامل.
مهمتنا إذن، حسب فوكو، هي ترك هذه الخطط الطوباوية، البحث عن المبادئ الأولى، والسؤال بدلا من ذلك عن كيفية عمل السلطة في مجتمعاتنا فعليا، وتجد هذه الفكرة تعبيرها الأفضل من خلال نظرة المفكرين للسياسة، ولماذا علينا أن نواجه العنف السياسي. علينا، حسب تشومسكي، أن نناضل ضد الظلم في مجتمعاتنا، التي نعيش فيها لتحقيق هدف أعلى هو العدالة، وإذا لم تكن لدينا مبادئ مرشدة فلن يكون بإمكاننا أن نميّز بين أفعال وأخرى، فمن الممكن أن نجد أنفسنا في ثورة تقوم بأفعال أسوأ من النظام الذي كانت تناضل ضده، وما لم تكن لدينا مقاييس عقلانية لتقرير أي مجتمع أفضل من الآخر، فسوف نضيع البوصلة.
الثورة وفكّ شيفرات علاقات القوة
مستندا إلى نيتشه يرفض فوكو هذا الطرح، قائلا إن «فكرة العدالة نفسها تم اختراعها وتطبيقها في أنواع مختلفة من المجتمعات، كأداة لقوة سياسية واقتصادية معينة أو كأداة ضد تلك القوة» و«بقدر ما أن هذا الأمر مؤسف، فإننا لا نستطيع استخدام هذه الفكرة لتبرير القتال لقلب الأركان المؤسسة لمجتمعاتنا».
يؤكد فوكو أننا منخرطون دائما في صراعات سياسية، والهدف من الانخراط في صراع سياسي، من وجهة نظره، هو تغيير علاقات القوة بين الأطراف. كما ينبه إلى أن المعرفة بكل أنواعها (العلوم بمجموعها والمفاهيم بالتالي) مشتبكة بشكل شامل في الصراع على أشكال السيطرة الصغيرة، كما على المعارك الكبرى التي تشكّل صورة عالمنا، وبالتالي فإن المعرفة ليست حيادية أو خارجية، وهي لا تشكل طريقا للخروج من النزاع (أو الإطلال عليه من فوق) بالطريقة التي يصفها تشومسكي، والعمل على حيازة المعرفة، في ثقافاتنا، هو جزء من الخطر، وأداة لمواجهة ذلك الخطر.
بالعودة إلى السؤال المؤرق الذي افترض تشومسكي أن ضمانته هو استخدام المبادئ العالمية للعدالة كمقياس لمنع الثورات من تكرار دورة الاستبداد، يقول فوكو في سؤال لبول رابيناو (ضمن كتابه «قراءة فوكو»): إن الدولة تتشكل عبر خلق شيفرات في عدد كبير من علاقات القوة، التي تجعل هيمنتها ممكنة، والثورة هي نوع آخر من التشفير لعلاقات القوة نفسها. هذا يعني أن هناك أنواعا عديدة من الثورات، بقدر ما يوجد من عمليات ثورية لفك التشفير في علاقات القوة، وبالانطلاق من هذا يمكننا أن نفهم تماما الثورات التي لا تلمس علاقات القوة الأساسية التي تجعلها تشغّل الدولة».
أعتقد أننا لا نستطيع، لأسباب عمليّة، التخلّي عن فرضيّة تشومسكي حول «المبادئ العالمية» لكنّها تبـــدو مثالية ومتعالية، بالمقارنة مع منظومة التفكير التي يطرحها فوكو لمقاربة العالم، ومنها طبعا تفسير التنوّع الكبير للثورات وتحوّل بعضها إلى مركز جديد مولّد للقمع والاستبداد.
*القدس العربي