مجلة أوراق- العدد9
ملف منفى الحسرات والمسرات
حين كنت أقيم في بريطانيا كنت كثيراً ما ألتقي شبّاناً من بلدان عربيّة غادروا بلدهم لاجئين: لبنانيّين وسودانيّين فرّوا من حروبهم الأهليّة، وعراقيّين وليبيّين فرّوا من استبداد أنظمتهم.
كانت أكثريّة هؤلاء تتحدّث بأصوات عدّة: صوت الحنين إلى البلد المتروك، والأهل والأصدقاء فيه، مصحوباً بالألم الذي رافق المغادرة، وصوت الصعوبة في التكيّف مع البلد الجديد لغةً أو سكناً أو في طرق تدبير الحياة اليوميّة، وكذلك صوت الأمل في تذليل هذه الصعوبة.
وهي أصوات من الطبيعيّ أن تعلو وأن تُسمع. غالبها صادق وأسبابها مفهومة والهموم التي تعكسها جدّيّة. مع هذا، كان ثمّة صوتٌ آخر لا يُستهان به يتخلّل تلك الأصوات، هو ذمّ العالم ورذل البلد الذي يُنتَقل إليه. هنا، كان الحنين يتحوّل إلى واحد من اثنين: إمّا مرض يتأدّى عنه الانكفاء وإمّا وظيفة يتأدّى عنها الاستعراض، وفي الحالين يترتّب الكثير من العطالة كما ينمو الكثير من الهذاء. بعد ذاك ترتدّ النتيجة ارتداداً سلبيّاً على سببها، فلا ينشأ عن ذلك سوى تسخيف الحنين نفسه وترخيصه.
ومع السوريّين الذين أصابتهم محنتهم باللجوء الكثيف، قد تُضرب النتائج تلك، الإيجابيّ منها والسلبيّ، بألف. وهذا نابع أساساً من ضخامة العدد. بيد أنّ المعادلة العامّة لا تتغيّر كثيراً: فهم، من حيث هم، يمكنهم أن يُغنوا أنفسهم كما يمكنهم أن يُفقروها. فإذا اختاروا الخيار الأوّل أضافوا إلى سوريّا تجارب وألواناً يحتاجها البلد الأصليّ وتحتاجها منطقتنا كلّها. وإن اختاروه لكنّهم آثروا البقاء حيث هم، أغنوا أمكنتهم الجديدة ودفعوا حرّيّتهم في الخيار إلى مدى بعيد، هو الحقّ في اختيار الوطن.
أمّا الذين يختارون إفقار أنفسهم، ففضلاً عن إضرارهم بها يُضرّون بالبلدين: الذي غادروه والذي قصدوه.
ودائماً يبقى السؤال الحارّ والحارق: كيف نحوّل الحنين والألم إلى طاقة فاعلة تُثري صاحبها وكلّ من يحتكّ بها، وتنمّ عن إدراك منّا بأنّ العالم لم ينشأ لحظة لجوئنا، وليس نسخة عنّا. إنّه كثير لكنّه قابل دوماً للتكثير ولاستقبال إضافتنا إليه التي تجعله أكرم وأجمل.