د.طلال مصطفى
دكتوراه في الدراسات الفلسفية والاجتماعية. أستاذ علم الاجتماع في جامعة دمشق، له العديد من البحوث السوسيولوجية المحكمة المنشورة وعدد من الكتب. باحث في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، سجين سياسي سابق.
أوراق- العدد10
أوراق الدراسات
يمثل الشباب رأس المال الحقيقي للمجتمع السوري من حيث الإمكانيات والقدرات على التفاعل والمشاركة في القضايا الوطنية والمجتمعية السورية كافة، والأكثر توجهًا للمستقبل كفاعلين في الشأن الوطني العام.
في عهد الأسد الأب الاستبدادي، الشباب السوري أول من تصدى لاستبداده وخاصة طلبة الجامعات، حيث قضى الألاف منهم أغلب سنوات أعمارهم في المعتقلات والسجون الأسدية من أجل الحريات كافة والدفاع عن القضايا الوطنية السورية والعربية.
الشباب السوري أول من تصدر ثورة 2011 بالتظاهر والاحتجاج السلمي وشكلوا الأشكال التنظيمية المناسبة لها من خلال التنسيقيات في كل المدن والبلدات السورية مصرين على مطالبهم الحقة بالحرية والكرامة للسورين كافة
شعارات الشباب السوري في ثورة 2011 أعادت بذاكرتنا التاريخية الى نهاية الستينات وتحديدًا الى ثورة الشباب في فرنسا 1968، حين كتب الشباب الفرنسي على جدران جامعة السوربون ” ثورتنا ثورة ثقافية نفسية وليست برجوازية أو بروليتارية” كتعبير عن احتياجات الشباب الفرنسي في تلك الفترة التاريخية. حيث عدت ثورة جديدة على مجتمع البعد الواحد – مجتمع الوفرة- الذي ساهم في انتاج الإنسان المدجن الأحادي البعد من وجهة نظر ” هربرت ماركيوز” منظرها الفكري.

كذلك مشاركة الشباب السوري في الثورة السورية، وبالعودة قليلًا الى أرشيفها في المرحلة السلمية يتبين غياب الشعارات الاقتصادية المعيشية والايديولوجية، بل التركيز على الحرية والكرامة ووحدة سوريا دولة وشعبًا، أي عبرت عن تصوراتهم ورغباتهم بالحرية والديمقراطية للسورين كافة.
السائد تاريخيًا في تقييم انتصار الثورة أو هزيمتها هو مدى وصولها الى سلطة الحكم، ومع أهمية هذا المؤشر لكن أعتقد الأهم هو مدى تشرب جيلها (من قام بالثورة) والأجيال التالية لقيمها الثقافية والسياسية في ثقافاتهم وممارستها في الحياة اليومية.
في الثورة السورية، رغم سنوات الحرب، التهجير، اللجوء و ظهور تنظيمات مسلحة على خلفيات دينية مذهبية ،طائفية وعرقية ان كان في مقلب النظام السوري ام في مقلب بعض المعارضة، والحديث عن هزيمة الثورة أو ما يسمى انتصار النظام السوري، إلا أن الشباب السوري تبين أنه مصرًا على الثوابت القيمية للثورة، الذي يعد المؤشر الرئيس على انتصار الثورة السورية من خلال نتائج دراسة ميدانية أنجزها قسم الدراسات في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، على عيّنة من الشباب السوري بلغت (800) شابة وشاب، في مناطق وجود السوريين كافة[1].
بداية هذه الثوابت القيمية برزت في رغبة الشباب السوري في إقصاء الأيديولوجيات كافة عن الدولة السورية المنشودة في المستقبل، التي ارتبطت في ذهنية الشباب بالاستبداد و معتقلات نظام الأسد والأنظمة الاستبدادية الشمولية الشبيهة له في العالم، لذلك فضل الشباب هوية الدولة السورية في المستقبل، هوية سورية تستبعد الأيديولوجيات، الأديان، القوميات وفي الوقت نفسه تلتزم بالشرعية الدولية وبحقوق القوميات الأخرى وبمعنى آخر دولة المواطنة التي تقوم على مبادئِ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وسيادةِ القانون وبناء المؤسسات، والابتعاد عن الفئوية الطائفية والمذهبية والجغرافية، وفي الوقت نفسه الدعوة الى الحفاظ على وحدة سورية دولة وشعبًا بحدودها السياسية ما قبل 2011 من خلال رفض أغلبية الشباب السوري لأي صيغة تقسيمية لسورية، وفي الوقت نفسه تضمنت أراءهم الموافقة على منح القوميات الغير عربية حقوقها الثقافية والتعليمية كافة. وهذا اتجاه ثقافي سياسي قيمي إيجابي خاصة بعد عقود القمع الذي مارسه النظام بحق المكونات السورية غير العربية، لاسيما الأكراد منهم.
أيضًا، كان تصور الشباب السوري للحياة السياسية والحزبية في سورية يستند الى ضرورة توفر البيئة التشريعية الحاضنة لتأسيس الأحزاب السياسية التي تحدد الأطر والمعايير القانونية الناظمة لعمل الأحزاب السورية داخل الدولة السورية في المستقبل، بالإضافة الى التطلع لقيام أحزاب سياسية غير مؤدلجة وبالتالي غير تابعة لخارج سورية أيديولوجيا، تعتمد البرامج العملية التي تخدم السوريين بالدرجة الأولى، حيث تكون معايير استمرارها هي القدرة على العطاء للسوريين وفي الوقت نفسه تؤمن بحق غيرها في الوصول الى السلطة من أجل خدمة السوريين.
كذلك فضل الشباب السوري حيادية الجامعات عن الأحزاب السياسية كافة، وهو يعود بتصورنا إلى رفضهم لسيطرة حزب البعث ومؤسساته على الحياة الجامعية طول عقود حكم البعث وحتى الآن، وهو ما كرس المحسوبية والواسطة والوشاية وتصفية الحسابات الشخصية بناء على تلفيق التهم والتقارير، وهو ما طال الأساتذة والطلاب على حد سواء.
اتجه الشباب إيجابيا نحو حرية الإعلام بشتى أنواعه. حيث واجه الإعلام في سورية، قبل وأثناء الثورة، من الرقابة الأمنية وعدم حرية النشر في القضايا التي بالمستويات السياسية والاقتصادية والأمنية وغيرها، وهو ما غيّب دور الإعلام في سورية كسلطة رابعة في ظل نظام ديكتاتوري يسيطر عليه الإعلام الرسمي بوسائطه كافة.
كذلك الربط الإيجابي بين قضية حرية الرأي والتعبير مع حرية الإعلام، وهو ما يفسر رفضهم لسياسة كم الأفواه والاعتقالات التي كانت تسجل تحت اسم “قضايا الرأي والتعبير” في ظل النظام البعثي الديكتاتوري.
والأهم كان رغبة الشباب السوري بتوافر عقد اجتماعي يكرس الشفافية والمساءلة والتداول السلمي للسلطة في سورية المستقبل.
أظهرت الدراسة مرونة تجاه القضايا الدينية، التي نظر إليها الشباب على أنها اختيار شخصي وعلاقة دينية خاصة بين الإنسان والتشريعات السماوية وغير السماوية كذلك. وهو يدل من ناحية أخرى على أن الثورة السورية عام 2011 لم يكن هدفها ديني وتغيير في الطبقة الحاكمة المستندة على أسس دينية طائفية، وإنما كانت ثورة تنادي بالحقوق الأساسية للمواطن السوري، والتي من ضمنها الحريات الدينية والاعتقادية.
من خلال هذه التصورات السياسية والاجتماعية لدى الشباب السوري نجد التوافق بينها وبين أهداف الثورة السورية وهو الوصول إلى صيغة من العقد الاجتماعي يتساوى فيه المواطنون وتكون مرجعيته المواطنة، بالرغم من عسكرة وشيطنة الثورة من قبل النظام السوري الاستبدادي من جهة وتنظيمات إسلامية راديكالية أمثال جبهة النصرة وداعش وفصائل إسلامية أخرى من جهة ثانية.
أيضًا، يتبين أن للثورة والشعارات التي طرحت في مناخات اكثر حرية، وانتشار وسائل التواصل الإعلامي كافة، وخاصة التهجير واللجوء الى تركيا ودول أوروبا كافة، الذي خلق إمكانية الاحتكاك والتفاعل للشباب السوري بثقافات جديدة لشعوب اخرى، مما ساعد على ترسخ قيم الحرية والشفافية وقيم المواطنية وتداول السلطة والمجتمع المدني ومكافحة الفساد … الخ، للبروز في ثقافة الشباب – عينة الدراسة – و في الوقت نفسه استمرت بعض القيم التقليدية سواء وراثة من جيل الأهل أو بتأثير ظروف الصراع، ونمو القوى المذهبية على طرفي جبهة الصراع بين الموالاة والمعارضة، ورغم هذه الثنائية للقيم، فإنها تضع الشباب السوري على طريق القيم المعاصرة للمجتمع الحديث،(قيم تنمو لتحل تدرجًا محل قيم تقليدية أصبحت في تناقض مع مستلزمات العصر) وخاصة في حال تحقق انتقال سياسي وعودة السوريين لبناء سورية الجديدة على انقاض سلطة البعث الأسد، قيم ستساعد في بناء سوريا المستقبل.
أن مقارنة أولية، بين ثقافة الشباب (تصوراتهم لسورية المستقبل) وشعارات الثورة السورية في أشهرها الأولى السلمية لعام 2011، تُظهر التماهي الكبير بينهما، وهذا مؤشرٌ على رسوخ ثقافة الثورة في ذهنية الشباب السوري وانتصارها، بالرغم من كل المحاولات التي بذلها النظام الاستبدادي في سورية وأبنائه الشرعيين من ميليشيات مذهبية وطائفية سيطرت على بعض المدن السورية كقوى أمر واقع بهدف إعطابها، التي نجحت الى حد ما لدى بعض من يتصدر قيادة المعارضة السورية سياسيًا.
التصريح بهذه الثقافة الوطنية السورية المتماسكة من قبل الشباب ربما تعود الى الشجاعة التي يمتلكوها حين ينفرد بإجابته بعيدًا عن عيون السلطة بكافة أشكالها ورقابتها، وهذا بحد ذاته مؤشر الى الميل للتحرر من مراعاة قيم السلطة السائدة على صعيد الأنساق الاجتماعية والسياسية كافة،
أخيرًا، يتوجب على مؤسسات المعارضة السورية كافة القيام بأمور كثيرة في سورية، التي ما زالت تحت وطأة حرب مركبة (داخلية وخارجية) دمّرت كل شيء فيها تقريبًا، منذ تسع سنوات وما زالت، وأول هذه الأمور العودة إلى ذواتهم السورية بالدرجة الأولى، والالتفات الى طاقات الشباب الحيوية المتجددة وعدم أقصائها عن العمل السياسي الوطني من خلال توفير بيئة داعمة ومحفزة للعمل الوطني السوري المبني على استراتيجية شاملة تركز على التخطيط المسبق المعتمد على دراسات ميدانية في الواقع السوري المعاش، وتوفير الإمكانيات وأدوات التنفيذ بما يساهم في إيجاد البيئة السياسية المناسبة المواتية للرفع من قدراتهم العلمية والوطنية على مواجهة صعوبات بناء دولة سورية، الوطنية الديمقراطية الموحدة.
[1] تصورات الشباب السوري لسورية المستقبل https://bit.ly/2Oib6Qv