تُعدّ المختارات التي أنجزها الناقد فخري صالح، للشاعر محمود درويش، وأصدرتها دار “الأهلية” في عمّان، المحاولة الجادّة الأولى باللغة العربية للإضاءة على مراحل تطور هذا الشاعر، والذي يشكل ظاهرة فريدة في الشعر العربي الحديث. ورغم أن درويش شاعر غزير الإنتاج، فإن جَمع أعماله اقتصر على صدورها في مجلدات فقط، ولم يسبق لناقد متخصص أن أخذ على عاتقه مهمة انتخاب مختارات من أعمال الشاعر. وقد يعود السبب إلى أن هذه الفكرة لم تكن مطروحة خلال حياة الشاعر، لكنها بعد رحيله باتت واردة أكثر، وتجد سبباً لها قد يضع حداً لمحاولات عشوائية يقوم بها البعض لنشر مختارات من شعر درويش في مواقع الكترونية، تبحث عن التكسب على حساب المشهورين من كتّاب وغيرهم.
الدافع الأساسي لما قام به صالح مردّه محاولة تكريم درويش على طريقته الخاصة، فقرر أن يعيد قراءة منجزه الشعري الذي كان مواكباً له ويعرفه جيدا، وأراد من ذلك تقديم صورة درويش من منظوره الخاص، ولوضع لمسة خاصة، أرفقَ مع المختارات مقدمة ودراسة. تشرح المقدمة، الفلسفة الخاصة به التي تقف من وراء المختارات، وتقوم على قراءة تطور درويش الشعري، “لغته وموضوعاته، وفكره، ورؤيته السياسية، وطريقة نظره إلى الشعر وفهمه العميق للتحولات التي مرت بها تجارب الشعراء في العالم”. واحترم في ذلك رغبة الشاعر بعدم إدراج بعض كتاباته الشعرية، التي نشرها ضمن نصوصه النثرية، مثل تلك التي صدرت في كتابه “أثر الفراشة”، رغم أنها “ضمت شعراً ونثراً لا يقل أهمية عما ضمته مجموعاته الشعرية”، بحسب صالح.
صدرت العام 2005، مختارات من أعمال درويش ثنائية اللغة، فرنسية عربية، غطت مساره الشعري منذ بداية التسعينيات، وضمت قصائد مأخوذة من سبع مجموعات: “أحد عشر كوكبًا”، “لماذا تركت الحصان وحيداً”، “سرير الغريبة”، “الجدارية”، “حالة حصار”، “لا تعتذر عما فعلت”، “كزهر اللوز أو أبعد”، واختارها بالتشاور مع الشاعر الناشر فاروق مردم، وترجمها الكاتب الفلسطيني إيلي صنبر. وهناك أكثر من مجموعة مختارات باللغة الإنكليزية، يبقى أكثرها شمولاً ما أنجزه الشاعر منير العكش، مع آخرين، مثل كارولين فورش، سنان أنطون، وأميرة الزين، واستغرق العمل عليها سنوات، واختار درويش قصائدها بنفسه، وتدخل حتى في اختيار مترجم أميركي على صِلة بكتابة الشعر، كي يضمن بذلك أن تأتي الترجمة وفيّة للسياق بالإنكليزية. وركزت هذه المختارات على دواوين “ورد أقل” (27 قصيدة)، “أرى ما أريد” (قصيدة واحدة)، “لماذا تركت الحصان وحيداً” (17 قصيدة)، “سرير الغريبة” (7 قصائد)، وثلاث قصائد من النتاج القديم، منها القصيدة الشهيرة “جندي يحلم بالزنابق البيضاء” من ديوانه الثاني “أوراق الزيتون”.
كان درويش، حسب معرفتي به ،شديد العناية بالمختارات باللغات الأجنبية، على عكس المختارات باللغة العربية. واهتمامه بالترجمة أمر مفهوم، له صِلة بالإقبال العالمي على شعره الذي عرف ترجمة واسعة جداً، وكان يريد أن يحقق نصه شروط الوصول للقارئ الأجنبي. أما عدم التركيز على مختارات باللغة العربية، فمردّه أن الدارج هو الأعمال الكاملة، لا المختارات، طالما أنه على قيد الحياة. وهذا لا يعني أنه لا يفضل قصيدة على أخرى أو يسقط بعض شعره، بل كان جريئاً حين حذف ديواناً كاملاً، ولم يدرجه في أعماله الكاملة، ويخص ذلك مجموعته الشعرية الأولى “عصافير بلا أجنحة” الصادرة العام 1960، كما ألغى قصائد ظهرت في الطبعة الأولى من مجموعة “أوراق الزيتون” الصادرة العام 1964. وكان واضحاً في تفسير الأمر، فتحدّث عن قصائد كثيرة أنها بنت زمنها وظرفها السياسي مثل “سجّل أنا عربي” و”عابرون في كلام عابر” التي قال عنها “لم أدرج هذا النص في مجموعة شعرية لحرصي، كما قلت دائماً، على تخليص الشعر مما ليس شعراً… وليس للشاعر أن يقدم برامج سياسية للقارئ، وهذا التمييز يسمح لي بإعادة النظر في قصائد كتبتها وقصائد أكتبها الآن، بإعدام قصائد كاملة بحثاً عمّا أسميه الخلاص الجمالي من الأزمة التاريخية المعاصرة”. وهذا ما يتوقف عنده فخري صالح في المختارات التي أنجزها، ويبرر إغفال قصائد من هذا القبيل وغيرها، بأنه جاء بناء على احترام إرادة الشاعر، لا سيما “احترام الحفاظ على وحدة العالم التصوري والنظري للشعر عند درويش”.
وهذا الأمر ليس محل إجماع، فهناك من يرى أن قيام ناقد مشهود له، مثل صالح، بإنجاز مختارات لدرويش، كان يجب أن يقفز فوق هذا الاعتبار، طالما أنه لا إساءة للشاعر في نشر قصائد له سبق له أن أسقطها من حسابه. وأميل شخصياً إلى تضمين جزء مما جاء في تجربة كتاب “أثر الفراشة” الذي “ضم شعراً ونثراً لا يقل أهمية عما ضمته مجموعاته الشعرية”، على حد تعبير صالح، بل إن درويش اقترب فيه من قصيدة النثر التي كانت تراوده كثيراً في سنواته الأخيرة، وتطور موقفه تجاهها في صورة إيجابية. ولو أن صالح اجتهد واختار من “أثر الفراشة”، لكان اجتاز عتبة تهيّب أمامها الآخرون الذين إما ينظرون بقداسة إلى تجربة درويش، أو انهم يتعاملون بسطحية مع المحاولات الجريئة في التخلي عن ديوان كامل وبعض القصائد وعناوين ومقاطع من القصائد، وهذا موضوع شائك يحتاج إلى دراسة مستفيضة.
في المقابل، هناك بين النقاد والكتّاب مَن يعارض فكرة المختارات حين يتعلق الأمر بشاعر بقامة درويش العالية، ويعتبرها نوعاً من المسّ بجزء من إنتاجه، الذي لا يقبل تفضيل بعضه على بعضه تحت أي مسمى كان. وهذا رأي فيه الكثير من الوجاهة، لو أن المسألة حصلت من دون مبرر تاريخي وجمالي وظرفي، يتعلق بتغير كبير حصل تجاه مكانة الشعر، وإن كان درويش لا يخضع لهذا الاعتبار إطلاقاً. وبحسب احصائيات وأرقام مبيعات دور النشر، فإن قرّاء أعماله في تزايد، في الوقت الذي يتراجع فيه قراء الشعر عموماً. ولا يفوت فخري صالح هذا الأمر، فهو خاض التجربة، علّ القارئ يتمكن من “اكتشاف الخيوط الأساسية التي تشكل نسيج التجربة الدرويشية الفذة”، ولذلك أرفقها بدراسة مطولة نسبياً أرادها مفتاحاً لشعر الشاعر وللمختارات. وتذهب الدراسة إلى محاولة تفكيك نجومية الشاعر التي يعزوها إلى “قدرته على جعل نصه الشعري يتمتع بطبقات متراكبة من المعنى.. في الوقت الذي يسعى فيه الشاعر الخلاق إلى جعل فلسطين مجازاً لعذابات الإنسانية”.
لكن ارتباط اسم درويش ونجوميته بفلسطين لا يسقط عنه أنه “علامة في الشعر المعاصر. قبل درويش، كان الشعر العربي شيئاً، وصار بعده شيئاً مختلفاً”، لأنه قاد قرّاءه إلى قمة الشعر. وبذلك تأتي مجموعة “لماذا تركت الحصان وحيداً” لتكتب الحكاية الجماعية الفلسطينية، بينما تتحقق الانعطافة في شعر درويش في المرحلة الباريسية، بدءاً من مجموعتيه “هي أغنية” و”ورد أقل” (1986)، عندما بدأت القصيدة لديه تصبح “أكثر تكثيفاً واختزالاً”، أو ما يسميه صالح بـ”الصفاء التعبيري” الذي سيكون شاغل درويش الأساسي حتى نهاية حياته.
احترم صالح في المختارات رغبات درويش، فحذف كلياً ديوانه الأول “عصافير بلا أجنحة”، بينما اختار من ديوانه الثاني “أوراق الزيتون”، خمس قصائد، من بينها “بطاقة هوية” المعروفة بمطلعها “سجّل أنا عربي” التي كان درويش يبدي تبرماً كلما طلب منه الجمهور إلقاءها. واختار 32 قصيدة من شعره السابق على العام 1986، وأكثر مجموعة اختار منها هي “ورد أقل” (1986) التي نالت نصيب 16، بينما حظيت سابقتها “هي أغنية” بأربع قصائد. والسبب يعود، على ما أظن، إلى حجم القصيدة والميل الذاتي من قبل الناقد، الذي ذهب إلى تسمية المختارات بـ”على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، القصيدة التي وردت في ديوان “ورد أقل” الصادر العام 1986.
صحيح إن هدف المختارات هو انتخاب باقة من أعمال الشاعر الكاملة، تفتح الطريق أمام القارئ إلى عالم درويش الواسع، إلا أنها أكثر من ذلك، رؤية نقدية جريئة تراه في مساره الطويل بعد سنوات من رحيله.
*المدن