“بحر اليعسوب” لإيفون أدهيامبو أوور… تحت غيوم زرقاء داكنة

0

تصدر قريباً عن مجموعة كلمات، رواية “بحر اليعسوب The Dragonfly Sea” لإيفون أدهيامبو أوور، كاتبة من كينيا، ومن ترجمة الروائية جنى الحسن.تتعقب الرواية، بلغتها الشاعرية، رحلة أيانا في البحث عن الذات، انطلاقاً من جزيرة بيت في المحيط الهندي قُبَالة سواحل كينيا الأفريقية، مروراً بالصين وتركيا ومحطاتٍ أخرى. تطرح الرواية الكثير من الأسئلة حول الانتماء والجذور والدين والسلطة وتهميش أجزاء من البلاد لحساب المدن المركزية وأحلام بناء دول كبرى. تقول المترجمة: “البديع أن الرواية الأفريقية أشارت إلى أشعار حافظ ورابعة العدوية وأغنية لعمرو دياب. وفي بعض الأماكن، بدت قريبة جداً من ثقافتنا العربية، وأضاءت على مشاكل التطرّف الديني. ومنذ مئات السنين، استوطن في جزيرة بيت السكان العرب المهاجرون من شبه الجزيرة، ما أنتج امتزاج الثقافة الأفريقية الأصلية مع ثقافة المُهاجِرين العرب والمُسلمين، ويظهر ذلك في تأثر اللغة السواحلية باللغة العربية. الرواية نقلتني خلال ترجمتها إلى عالمٍ مختلف وواسع لم أكن أعرف عنه الكثير، على أمل أن أزور يوماً أرخبيل لامو وجزيرة بيت وكينيا”.

مقطع من الرواية: 

خذي هذه التميمة، أيّتها الطفلة، واحفظيها بحب وشرف. سأصنع لكِ سلسلة من اللؤلؤ المرجاني المشع. سأعطيك قفلًا، جيدًا من دون أيّ عيب، لارتدائه حول رقبتك. . . اغتسلي وعطّري نفسك وضفّري شعرك؛ اقطفي الياسمين وانثريه على اللحاف. زيّني نفسك بالملابس مثل العروس وارتدي الخلخال والأساور. . . رشي ماء الورد على نفسك. ارتدي الخواتم في أصابعك ودائمًا زيّني كفّي يديكِ بالحناء… 

– موانا بنت مشام ترجمتها ج. و. آلن واقتبستها إيفون أدهيامبو أوور

الروح زائرة

1

عبور المحيط المطلّ على الجنوب، كانت اليعاسيب تطارد المياه مع أسلافها في شمال الهند وقد انطلقت في رحلةٍ هادئة “بين الفصول” مع ريح الصباح. في أحد الأيام من عام 1992، أي بعد أربعة أجيال، تحت غيوم زرقاء داكنة، استقرّت تلك الكائنات العائمة على الساحل الجنوبي الغربي لجزيرة فتاة صغيرة ملأتها أشجار المانغروف. تآمرت رياح المالتاي مع اكتمال القمر المتلألئ لشحن الجزيرة وصياديها وأنبيائها وتجارها وبحاريها وسيدات البحر ومداويها وبناة السفن والحالمين والخياطين فيها ومجانينها ومعلّميها وأمّهاتها وآبائها بحماسةٍ عكست بحرها الفيروزيّ الهادئ.

طارد الغسق أكبر جزر لامو وأرخبيلها، متجولًا من سيو على الساحل الشمالي، صعودًا باتجاه أساطيل الصيد في كينزينغيتيني قبل أن يطير جنوبًا غربًا إلى الحضنة فوق مدينة بيت التي كانت تتلاشى بالفعل في حالة من التوق الشديد. تميّزت مدينة بيت، التي كانت مكتظة بأفعال لا نهاية لها من الغش والحصار والحرب والإغواء، مثل الجزيرة التي احتوتها، بوقتٍ للحزن. سكبت سماؤها الثقيلة الضوء الأحمر الباهت على حشد من الأشباح المنقطعة، والنزاعات الخاملة، والأمجاد المفقودة، والطرق غير المرئية، والمؤامرات التي تعود إلى آلاف السنين. رشح فيها ضوء خافت بين الشقوق والمقابر والأطلال القديمة، مشيرًا إلى أنّ الناس هناك كانوا على استعداد للتعايش مع المأساة، واثقين بأنّ الوقت كفيلٌ بتحويل حتى أصعب الكوارث إلى أصداء.

في أعماق بلدة بيت، صاح الديك، ومن أعماق الفضاء، استدعى الأذان. كانت رياح البحر تجرّ حجاب فتاة صغيرة بلون الأخضر الليمونيّ، لتكشف عن شعر أسود مجعد وكثيف ينفجر فوق عينيها. من داخل مخبأ غابات المانغروف، راقبت الفتاة البالغة من العمر سبع سنوات، وهي ترتدي فستانًا زهريًا كبيرًا كان من المفترض أن تنمو فيه، غيومًا عاصفة كثيفة تتمايل داخل البلدة. قرّرت أنّ هذه كانت خطى الوحش، وحش تركت خطواته شرائط من الضوء الوردي في السماء. ركبت مياه البحر على ركبتيها، وأغرقت قدميها العاريتين في الرمال السوداء بينما تمسّكت بكائنٍ آخر هش، وهو هريرة بيضاء قذرة.

كانت تراهن على أن العاصفة – وحشها – ستصل إلى الأرض قبل أن يسقط مركبًا محمّلًا بالركاب الآن ويتحطّم في طريقه نحو رصيف الميناء المكسور إلى يمينها. كانت تحبس أنفاسها. “القادمون إلى المنزل”، هكذا دعت جميع الركاب. كانت الطفلة تعتمد على هؤلاء القادمين ليهتزوا مثل العرائس كلما الأمطار غزيرة. كانت تضحك تحسبًا لأن المركب المتوسط الحجم، المطلي باللون الأصفر، تقدّم باتجاه الخليج الصغير. تناثرت قطرات المياه النديّة. دفع هدير الرعد كلّ راكب إلى رفع عينيه إلى السماء وإلى الزعيق كصوت البوق. أصيبت الفتاة بالدهشة وهي تربّت على ظهر قطّتها، وتقرص فروها من فرط الحماسة. ماءت القطة. “صههه”، همست الفتاة وهي تختلس النظر بين أشجار المانغروف، لكي تتمعّن في وجوه الركاب من مسافةٍ أكثر وضوحًا – كانت طفلةً تبحث وتجمع الكلمات والصور والأصوات والأمزجة والألوان والأحاديث والأشكال، لكي تخزّنها في أحد رفوف روحها، ولتسحبها لاحقًا وتفكّر بها.

كل يوم، في الخفاء، ذهبت ووقفت قرب بوابات هذا البحر، بحرها. كانت تنتظر شخصًا ما. نقلت الفتاة الآن القطة الصغيرة من يمينها إلى كتفها الأيسر. تابعت عيناها الزرقاوان الكبيرتان جدًا رقصة ثمانية يعاسيب ذهبية حامت بالقرب منها. رعدت السماء. أصبح المركب في مكانٍ موازٍ تمامًا للفتاة. ركّزت نظرها على رجل ارتدي بدلة عاجيّة اللون واستند إلى حافة السفينة. كانت على وشك أن تتمتم حين قاطعها صوت عالٍ ومتعجرف: “أياناااااا”. انقطعت مراقبتها للرجل بينما صعق البرق السماء. “أيانااااا”. كانت والدتها تناديها.

في البداية ، تسمّرت الفتاة الصغيرة في مكانها. ثم جثمت منخفضة، راكعةً تقريبًا في الماء، وربتت لقطتها الصغيرة. همست لها “هايدورو – لا تبالي. لا يمكنها أن ترانا”. كان من المفترض أن أيانا تعافت في الصباح من نوبة ربو. كانت والدتها منيرة قد دلّكت صدرها بزيت القرنفل وحشت فمها ببذور الكالونجي السوداء. كانتا قد جلستا معًا عاريتين تحت البطانية، مع وعاء من الأعشاب المتبخرة، شملت الأوكالبتوس والنعناع، لتخفيف احتقان رئتيهما.

كانت أيانا قد استنشقت ما تمكّنت من الهواء، ثمّ حبست نفسها لتبتلع ستّ ملاعق من زيت كبد سمك القد. كادت أن تتقيّأ من المرارة، ثمّ هدهدت لها والدتها أغنية كي تنام. استيقظت على الأصوات التي أصدرتها والدتها وهي تعمل: رنين الزجاج والنحاس والخزف؛ رائحة الورد والقرنفل واليلانج وزهرة القمر وأصداء أصوات النساء داخل صالون تجميل والدتها في المنزل.

كانت أيانا قد حاولت. أخذت قيلولةً قصيرة حتّى اخترقت نومها رياح البحر العالية وقاطعت أحلامها.  سمعت صوت الرعد بعيدًا، لكنّها ثبّتت نفسها في السرير حتّى ثبت لها أنّ العاصفة المستمرة في الخارج لا تقاوم. عندها خرجت من السرير، ورتبت وسائد إضافية لتبدو كما لو أنّها على شكل جسد، ثمّ غطّتها بالملاءات. اندفعت من نافذة عالية، وتزحلقت أسفل أنابيب التصريف المشدودة على الجدار المرجاني المنهار.

على الأرض، عثرت على القطة الصغيرة التي كانت قد أنقذتها من مصرف طيني قبل عدة أيام، متمددة على عتبة بابها. التقطتها ووضعتها على كتفها الأيمن، وهرعت باتجاه الواجهة البحرية ، ثم تحولت أخيرًا شمالًا إلى قسم المانغروف في الخليج، حيث كانت تتجسس على العالم غير المرئي.

“أياناااا”.

برّدت الريح وجهها. لامست الهرة الصغيرة. شاهدت أيانا المركب. رفع الغريب المسن المرتدي بدلةً عاجية رأسه. التقت أعينهما. تراجعت أيانا، وضغطت على ظلال المانغروف، بينما تسارعت دقّأت قلبها. كيف حدث ذلك؟

“أياناااا”.

كان صوت والدتها أقرب. “أين هذه الطفلة؟ أيانا؟ هل يجب أن أتحدث إلى الله؟”. نظرت أيانا نحو القارب ومرة أخرى إلى السماء السوداء. لن تعرف أبدًا ما الذي هبط أولاً، القارب أو العاصفة. لقد تذكرت العينين اللتين التقتا بعينيها. هل سيشي بها صاحبها؟ قامت بمسح الممر، بحثًا عن تلك العينين مرّة أخرى. ضغطت الهرة المستلقية على كتفها بوجهها على رقبتها.

“أياناااا! يا عدالة الله…!”. أتى الوعيد من بين الشجيرات إلى يسار غابات المانغروف.

“أوه، يا ابنتي، لماذا تضطهدينني؟”.

كان الصوت أقرب. تخلّت الفتاة عن غطاء رأسها، وهرعت من خلال المد المنخفض للوصول إلى الرمال المفتوحة. تدافعت أيانا من حجر إلى حجر، بينما تشبثت الهريرة بعنقها. ثمّ غابت عن الأنظار.

رأى الغريب، رجل من نانجينغ، مخلوقًا صغيرًا يرتفع على خلفية سماء سوداء، يحوم، ثم يسقط مثل غصن مقطوع. بينما رآها هكذا، انطلقت منه قهقهة طويلة. نظر إليه زملاؤه المسافرون، المتعاطفون بالفعل مع دوار البحر المزمن الذي عانى منه وأصابه بعدم الارتياح. لم يكن من غير المألوف أن يحوّل دوار البحر الأشخاص العاقلين إلى مجانين. ركز الرجل نظره على الأرض وبرزت عيناه بنشاط في ملامح وجهه الهادئ. أعطى إعتام عدسة العين في عينه اليمنى لمعانًا في رأسه المصلع على رقبته المبطنة. التفت إلى صوت امرأة تصرخ “أياناااا”. أصدرت معدته صوتًا. تواقًا للشعور بالأرض، حاول قياس المسافة بين القارب ورصيف الميناء، على أمل العودة ليرسو المركب هناك قريبًا.

بعد ذلك بخمسة عشر دقيقة، نزل الزائر من القارب. كان عليه أن يمشي في المياه الضحلة للوصول إلى شاطئ الرمال السوداء. على الرغم من أن أيادٍ مجهولة ساعدته على التقدم، إلا أنّه تعثر. لمست يداه التربة. تنشّق الهواء. شعر بحفيف الأشباح، واستمع إلى الدندنة الوحيدة لأولئك الذين ماتوا بعيدًا عن الديار ولم يتذكرهم أو يبحث عنهم أحد لفترةٍ طويلة.

امتدّت يدٌ سمراء طويلة أمام وجهه. أمسك بها. ساعده أحد البحارة على النهوض قبل أن يسلّم حقيبته الرمادية اللّون. ردّد الرجل “لقد تمّ النظر إلى البروتوكول”، ومن بعدها ضحك كما لو أنّ العبارة تحمل نكتة سريّة. رمش المسافر بعينيه، مرتبكًا ومغمورًا بروائح المساء المتناثرة والساحرة. ميّزت أنفاسه رائحة البرتقال المر والبلسم الحلو وسخّن عرق البحر الذي اختلط بالهواء عظامه.

استسلم للروائح واستنشق الهواء. ثمّ مال برأسه نحو سرب الوافدين من البشر. سمع موسيقى المد والجزر، ولمح عاصفة تكاد تحوم في الأفق. ماذا كان هذا المكان؟ تقدّم إلى الأمام، وهو يلفّ بكعبه كما لو أنّ أصابع قدميه كانت لها أعين متجولة. أضاء ضوء شاحب على بتلة وردية تتساقط من شجيرة وردة برية منفردة ونحيلة. تعثر الرجل. انتظر أن تقع البتلة وتستقر على الأرض قبل أن يلتقطها. عندها فقط رفعها إلى شفتيه، وأرفقها بيد واحدة بينما عدّل باليد الأخرى المحتويات المكثفة لحياة تتلاءم مع حقيبة قماش معلقة من كتفه.

*المدن