الطريق الى الرقة، وطائر الشقراق.. نصوص عابرة للأشكال التعبيرية

0

 ابراهيم الخليل، كاتب، قاص وروائي سوري، صدرت له عدة مجاميع،شعرية وقصصية، وروايات، نقل بعضها الى غير العربية.

أوراق 19- 20

نصوص

الطريق إلى الرَّقة

* هي الرَّقة التي على الفرات / تخرج من عباءة العجاج أنثى / ووردة من دم ..

عرب / وكرد / وأرمن / وتركمان / سلالات الماء ..

وهذا القرميد / الفخار / حرائق لذاكرة القتلى ..

مولاي / سَمّني باسمي / واسقني من نبيذ الحضرة / علُني اصحو ..

فالجسر القديم / النهر / باب بغداد / قبر الأسماء ..

اللون / الوجوه / أعواد القصب ..

ومن القصب / خرج النشيد / الكتابة بماء الذهب ..

هي الرقة / عبقرية المكان  / وذاكرة الماء ..

* هي الرّقة / ذاكرة الطمي / والزل وأغاني الورّادات والصيادين ..

وهذا النهر شجرة للأنساب / في حروب الردة والرايات ..

أكفان للأطفال / دمعة للأيتام / جمدها البرد/ كرزٌ للمحتلين ..

وحين نبحتني الكلاب ..

 انصفق الباب ..

فتحول النبيذ دماء ..

والضحكة بكاء ..

هو دير مار زكا / صوت مريم / يرتل الحزن خبزاً للجائعين ..

والشمس كرة من نار / وهذا الرمل خاصرة النهر / كتاب للخراب ..

* دثُريني ياامرأة / فهذا البرد قارس / وضحكتك حبلى بالهواجس ..

مولاي / اسقِ العطاش ..

أناشيدك سُكْري ..

والعقل طاش ..

وهذا الطفل سواي / صنعته حكايات الحارة القديمة / وزيزفون البستان ..

* البارحه / الأمس ..

لم  يبق من الأمس، غير البارحه ..

قناعاً حجرياً / يستند إلى جدار أعمى / يغفو في صدري ..

أسميه الرفضَ / الوطنَ / القتلَ / المأجورين / الطفولة المؤجلة / الزمن ..

أو لعلُه الطريق إلى الرقة التي على النهر ..

* عرق / سمك / أنثى / وآثار أقدام على رمل الضفة / تركته قدماك المعبودتان ..

وجع الماء يدهمني / فأرفع كفيَّ / ملجأ للزرازير والصعو والقبرات ..

والنسوة / الأطفال / حجارة في الطريق / لوحة يصنعها الحريق بلا توقيع ..

مولاي / علمني منطق الطير / والطواسين / ومثنوي الجلال ..

فدع العصافير / ترفع مناقيرها للأعلى / تلّمُ زرقة السماء ..

خذ بيدي أنا الحيران إلى الحضرة / واسقني نخب المرأة ..

وقل : تلك إشارتك ياولد / فارحل مع الريح في البرية عند الغروب ..

* ياكوبي الحيران أمام الشيخ والمريد / هذا السمك والعرق عشاؤنا الأخير ..

أنثاي / سمّني العاشق / سمي الفرات القنديل / يدلني على الطريق ..

وسمي الرقة الجدار / وانقشِ أسماء من رحلوا / ومن غابوا / ومن نهبوا ..

فالطريق طويل .. طوي .. طووووو .. يل ..

وروحك غافية في كفي / تطلب الدفء في برد الشتاء ..

وقبة الخانقاه / تظللها الخطوط / رقعة / فارسي / كوفي / ثلث ..

وصوت الناي دمعة حزن في الريح / سمها الوطن ..

* للموت في الرقة فصول وغايات / سهواً شربوا الكأس / عمداً رحلوا ..

وهجرتهم الموسمية طالت / هؤلاء الغائمون / غجر القرن الحادي والعشرين ..

وهذي القوافل العمياء / ففقدت البلاد ظلها / ووجهها الدامي ..

وانطفأت التنانير / رائحة الخبز / وباتت الغربة وطناً ولاجئين ..

للسرايا والسبايا والمحظيات / باسم الفتاوى فتحوا بهن سوق النخاسة ..

وعيون الأطفال / تهمي دماً ساخناً / في هذا البرد على الوسائد ..

فمن أبكى الأطفال والصبايا ؟

من دلكم على الخيام ؟ هم أم هو ؟

لون النحاس / حوّل سريرك منفى /  بيتك منفى ..

* الرّقة في حديقتها اللقالق / والحجل / وطيور الماء ..

الرّقة في حديقتها الخانقاه / وأنثاي / وشجرة الأنساب ..

وهذا العشق / من أين تأتي به الريح / ليدخل جمار القلب ؟..

ياولد / لقد افسدوا البلاد / وبدلوا الأسماء ..

نصفهم جواسيس / ولصوص / ومخبرون ..

والنصف الآخر / إخوان مسلمون ..

ألواح تل البيعة

* مفتاح لباب أغلقته الريح:

– أسئلة كثيرة كحصى صغيرة / تثيرها أقراطك الذهبية ..

أحياء كثيرون ينتظرون الهجرة / أو الموت المتربص ..

مطر يسقط كدموع عاشقة / تلمّه الأرض / أو أوراق الشجر ..

امرأة تشبهك في حديقة أنوثتها / يزهر توت العليق

رجل يشبهني ينتظرك / يحمل أشواقه في وردة الصبار ..

مثقل بحكايا الرقة وخطاياها / مولع بفضائلها العالية ..

هكذا المدن / تحمل أسرارها في أوشام الحناء ..

هكذا أنت أيها العاصي / رمل وحصى في الماء ..

مفتاحٌ لباب أغلقته الريح / وتركت النافذة مشرعة لعصافير الفرات ..

* النص:

– يدخل قلبك العشق / مثل ضوء في العتمة / يتسلل من بين أوراق الشجر

يدخلك عطر الزيزفون / يغسلك الفرات في سريره / ويعطيك سر اللون

في رائحة القهوة / وطعم الصباح في البن والماء / يختلطان على النار ..

وهن تبغك / وأنت تحسو الفنجان / هذه القهوة موسيقا جنائزية / وهذه

النار أنا وأنت في جبة النحاس.

طائر السمرمر / هكذا يعود قلبي ..

سريرة للغة / وهذا النهر الماء ..

شبكة صياد / يغني الميمر / وهو يلقيها ..

تلمُّ الأسماك والأسماء في أيقونة / من ألواح دير مار زكا ..

سيدة الطين والأصداف / لقلبك الهناء ..

* زرقاء أنت مثل سماء بعيدة / بيضاء وحمراء كوردة الجوري / وأنا كالناي حزين ..

أودع غروب الشمس / والشمس دمعة من دم فوق تل البيعة / ترتل

مابقي من إنجيل الخراب في الدير / والخراب سجادة دمشقية / تمتد مزقا / ترثي

المكان / نشيد ألواح الطين هو المكان / وأنت المغني الجوال / وأنثاك فاكهة

طعمها مسروق من التوابل.

خيار العتمة

تناص:

لمولاي شمس التبريزي

يمكن لأي شخص أن يختارك حين توهجت ..

ولكنني سأختارك حين تنطفئ ..

تأكد بأني وإن رأيت النور في غيرك سأختار عتمتك ..

لمولاي الجلال الرومي

 ومن كان في حنايا الروح مسكنه ..

لا فرق إن رأته العين أو غاب ..

غزل فراتي:

كل يوم أكول اليوم باجر يبينون

وأنطي للمبشرين بوسة من العيون ..

شطحات:

هذه المرأة لغة / وهذا الماء / الطمي كتاب / وأنا الوراق ..

المريد: مولاي / ما العشق ؟ / وكيف تراه ؟ ..

الشيخ: رجل وامرأة / وطن ولغة / مدينة ونهر / حانة وخانقاه ..

نبيذ وناي / قهوة وتبغ ونميمة / ماء ونار

المريد: والحكمة؟ ..

الشيخ: الحكمة في الجنون ..

المريد: وهل يعشق المجنون؟ ..

الشيخ: وهل يعشق العاقل؟ …

المريد: صورتك عاشقاً ..

الشيخ: في النهار تلبسني جبتي / ناي وإنشاد في الخانقاه / رقص وموسيقا

والبخور أنفاس العاشق / وفي الليل أبيع جبتي للنباذ / وأشرب على

مذهب النواسي جهراً / وأضيع في الحارة / وتحت شجرة التوت أغفو / وماء

النهر يجري فضة وذهباً ..

المريد: مولاي ..

الشيخ: اسكت ياولد / ليس في الجبة أحد ..

 ق . ق . ج   من حكايات الحارة:  

كانت الحارة قطعة من قرية على النهر / عرب وكرد وتركمان ونصارى وشركس

وكانو ثلاثة أولاد / عشقوا القراءة والنهر ومراقبة الورادات وغاسلات الصوف

واللعب في الجامع العتيق / الذي لم يبقى منه سوى المئذنة وبعض القناطر من الآجر

وقد هجره المصلون منذ زمن بعيد / وإلى جانب المئذنة كان ثمة مقام على شكل قبة

بناه أحد ولاة المدينة من العثمانين باعتبار القبر للصحابي وابصة بن معبد الأسدي

وكان الحجاج العائدين من زيارة الديار المقدسة / يمرون لزيارة

 المقام وشراء القهوة والتمر خاصة / وقد يتركون نذورهم في طاسة نحاسية / وضعت

جانب القبر / وقد دأب الثلاثة على السطو على ماتركه الزوار / معاهدين ولي

المقام على رد مااقترضوه من نقود / باعتباره ديناً مؤجلاً / ويصرفون هذا

الدين في حضور الحفلات السينمائية في دار السينما الوحيدة / وشراء الكتب من بائع

للكتب المستعملة والصور الجاهزة لفاطمة المغربية وعنتر وعبلة وآخرين.

وكبرت القرية مع مرور الزمن / وزحفت البيوت حول المقام / جاءت هجرات جديدة

من الأرمن وفلاليح القطن / حين ازدهرت زراعته / ويوم كبروا / وتطورت

مطالعاتهم / اكتشفوا أن القبر يعود إلى سعد الدين العظم / أحد ولاة البلد في

 العهد العثماني / فسقطت القداسة كجدار قديم / وضحكوا ساخرين من أنفسهم

كيف يتحول والٍ إلى قديس عندهم / والماء ما زال يجري تحت الجسر شريانا للحياة وللوقت.

* النص:

– قمر خجول يسقط في عب العتمة / يبثني أسرارك / قبل أنام ..

يشرب معي القهوة / والتبغ / وينثر الفضة على الماء ..

يا امرأة / أنثى / تطعم الحب للطير / أعلنك أنثاي ..

فأعدني إلي / واسقني صرفا / فهذي البلاد رمل / مولاي ..

أعد إلي لغتي / ووجهي القديم / قبل يصير قناعاً ..

سيدتي / قمر خجول / يبثني رسائلك من خلف شجرة صفصاف ..

وأنا أشرب قهوتي / وأختار العتمة ..

هذا المكياج قناع

• قال مولاي الخرَّاز _ لسان التصوف.

_ كل باطن/ يخالف الظاهر/ فهو باطل.

• النص: وأعود اليوم/ أسألك/ أوجهك هذا/ أم قناع من المكياج؟.

• الليل في الرَّقة/ دفتر للعميان/ والصمت أشجار واقفة..

وأنت اشتقاقات الماء/ تسقين حديقتي/ فيزهر الورد..

والرَّقة تنتظر عشاقاً/ يشعلون النار..

تحت أسوار المقبرة القديمة/ يدخنون التبغ/ على ضوء الشموع..

ويشربون القهوة المرَّة/ والموتى ساهرون/ تحت ضوء القمر..

وقبل الفجر يرحلون/ وأنا وأنت يامولاي/ والأناشيد والموسيقا..

في ضباب البخور/ نصنع طقساً/ ونشرب كأساً/ نخباً للخيام..

وهذا الليمون/ يزهر قدَّاحاً في الأغصان/ حين تعريت من قمصاني..

وأعلنت أمام النهر/ أنا المجنون/ مجنون وسكران..

ففاض الماء/ ضاع في الرمل والحصا/ وأشجار الغَرَب/ اسمك المقدس..

أنثاي/ من يحفظ أسرار الدرويش/ ورقصته في الخانقاه؟..

هكذا أنت/ واسمك اشتقاقات الماء/ وعبق الوردة..

*ها مفتاح غرفة نومك/ بين أصابعي وردة من النحاس..

أقف مذهولاً/ أمام الباب/ لا أدري كيف ضاعت أصابعي/ وكيف ضاع المفتاح..

وأضعت طريقي/ أنا المغني السكران/ تحت قبَّة الليل..

وكنت أنتظر مطراً/ يغسل هذا/ الماكياج/ القناع عن وجهك/ وحروفك..

ياأنثى/ وردة/ قبّرة/ تدخل قميصي المبلل بالماء/ تنقر جمَّار القلب..

أنثاي/ هذه النصوص/ الهذيان/ أقرأها وحدي في غرفتي الخاوية..

فتأتي إلي الرَّقة/ تشاركني تبغي وقهوتي المرَّة/ وعصافير الفرات..

*ثمّة امرأة تنتظر/ رجل أيضاً ينتظر/ ثم يرحل كدخان الحرائق..

الوقت متأخر/ ولاشيء يهم/ فكل الأمور/ تساوت..

فكن لائقاً بهذا الحزن/ حين تسترد/ مابقي لك من أوهام..

فهذا الوجه له قناع/ وأنت تريد/ أن تعيش الحقيقة..

ثمَّة جنون امرأة/ تشبهك/ يزورني/ لنصنع طقساً/ ونشرب كأساً..

قبل أن أنام/ بينما الرَّقة تظل ساهرة/ تعدّ لي القهوة في الصباح..

وتسكت شهرزاد/ عن الكلام المباح..

هذا الغياب يا إبراهيم

* أريد أنا الرائد الذي لا يكذب أهله سنبلة ..

تعطيني عشر حباتٍ .. من الحنطة

أزرعها في صحن من خزف الرقة المكسور ..

أريد امرأة ملّت شهوات الليل ..

تقدم شاياً (أكرك عجم ) لأنصاف المحتلين ..

وتستر عريها بما ورثت من أوراق التين ..

أريد معجماً للألفاظ يعلمني كيف يتحول المعنى ..

برتقالة أو كمثرى …

وكيف يُرحّل المسكوت عنه …

فأعرف.. من هذه البرية ستطلع أنثى …

تعمدت بماء الفرات …

تستر عريها بأصابع كفيها ..

وتترك رمانها ينضج تحت شمس الصيف …

وأصابع كفيها جرّحتها المواويل وأشواك العاقول والصُفِّير .

هي الحرب يغطي المجوس عوراتهم بها ..

هي الحرب والحرب موت ودم ومقابر ..

وبعض المعونة للأحياء ليستمروا في الحياة السوداء ..

أكان لا بدّ من هذا الموت ؟ أكان ..؟

كانو يبتكرون وقتاً للسبايا، ووقتاً للزواج، ووقتاً للمتعة …

ووقتاً للإعدام والفتاوى ..

وكنت – يا إبراهيم الجرادي – تبتكر لقصائدك

وقتاً تكون فيه طواويس اللغة في روضة الياسمين الدمشقي ..

وفي حقيبة اليد تحمل شيئاً من زعتر بندرخان

ودخان القرى في مساءات الشمال …

هذا الغياب حضورٌ يا إبراهيم …

كتابٌ وسراجٌ وذكرياتٌ وثرثرةٌ جفّت مع مياه قرموخ …

هذا الغياب ثقيل ..ثقيل يا إبراهيم

وهذا الليل حزين …بائس وحزين.

*إبراهيم الجرادي .. طائر الشقراق الذي كسرت جناحه عشتار ..

– قال لي: يا إبراهيم الخليل الإبراهيم .. استقم.

– قلت: يا إبراهيم الخليل الإبراهيم .. استقم.

كنا نحمل الاسم الثلاثي نفسه، والهمّ نفسه، والفكر نفسه، وعشق مدينة تتزين بالزعتر البري وزهر الباجلاء، وتلقي حجولها الرملية في الفرات، طوفاً من الشموع، لسلطان النهر الأخضر، علّ أماني العاشقين تتحقق، ويزهر الزيزفون على الضفاف.

* يأتي إليك طائر الشقراق، فيجد في أناملك دفئاً، فيبرأ جناحه الذي كسرته عشتار … آه يا ولداً كان بحجم الحب الذي تحمله أناقته وابتسامته ونسوانه الصافحات ..

كنا صغاراً يا صديقي، نذهب بعيداً في خيالاتنا، نصنع من طمي النهر أشكالاً من الكائنات والمخلوقات، تخترعها عقولنا المجنونة ثم تهدمها غير آسفة، وحين فتح المركز  الثقافي في السبعينات دخلنا جنة الكتب والصحف والدوريات فنبت لنا أجنحة كأجنحة إيكار.

ورافق ذلك، افتتاح مكتبة بورسعيد لأحمد الخابور، لتوزيع نضال الشعب جريدة الحزب والمطبوعات الاشتراكية، من روايات ودراسات فكرية وتطورت فيما بعد إلى الصحف السورية وغير السورية، فأكملت ما نحتاجه من أفكار سياسية وأيديولوجيات كانت سائدة، ويمثّلها الماركسيون والقومجية والتيار الديني من صوفية وإخوان مسلمون ..

كنا صغاراً ننمو كأعشاب برية.

وكان إبراهيم يحمل في حقائبه، دواوينه الشعرية، وكتاباته المؤجلة، ورسائل نسوانه، ورسائله للرقة، وحين رحل بعيداً عنها ودفن في دمشق، ظلت قصائده وكتاباته حيّة، فيها رائحة الفرات، وطيور بندرخان تحلق عالياً .. عالياً ..

تحية لمن رفض أن يبدّل أو يبيع مثل غيره ..

وأقول: كان إبراهيم أمة.