إياد حياتلة: صورةٌ واحدة لمنافٍ متعدّدة

0

مجلة أوراق- العدد9

ملف منفى الحسرات و المسرات

ربّما أكون قد سمعت بمدينة غلاسكو الإسكوتلنديّة للمرّة الأولى في خريف العام 1976، وذلك عند ورودها بقصيدة الشاعر مظفّر النواب عن تلّ الزعتر (سبحان غلاسكو… سبحان وفاق الدبّين) حيث قصد بعبارته تلك لقاء القمّة بين الرئيس الأمريكي فورد والزعيم السوڤياتي بريجينيف الذي جرى قبل ذلك بوقت قصير في تلك المدينة الباردة من أجل لملمة وإعادة ضبط ما خرج عن سيطرتهما من أدوار الفوضى المتقاسمة بينهما بعدل وإنصاف.

لم أتصوّر للحظة حتّى وأنا في أكثر حالاتي الخياليّة جنوناً أنّني سأبدأ ترتيب منفاي الإختياريّ/الإجباري في غلاسكو بعد حوالي عقدين ونيّف من الزمن، وأنّني سوف أعتاد شوارعها وساحاتها كما اعتدت شوارع ومعالم مخيّم اليرموك ودمشق طيلة أربعين عاماً، وأعرف تفاصيل طقسها المتباينة في تطرّفها كما أعرف خبايا نفسي الدقيقة، والأكثر من هذا وذاك أن أدشّن بها فرعاً جديداً لمقبرة العائلة لينضمّ إلى الفروع الأخرى المبعثرة في جهات العالم الألف.

كنّا نتحلّق منصتين إلى صوت الشاعر القادم من آلة التسجيل البكر القديمة التي أحضرها والدي معه بعد عودته مطروداً بسبب آرائه السياسيّة الفطريّة من منفاه الثاني الذي اختاره ليعمل به مدرّساً لأبناء جلدته من الحجازيّين في السعوديّة، أربع سنوات من الغربة والإغتراب أتاحت لنا الإنتقال من بيتٍ متهالكٍ مسقوف بالزينكو في مخيّم العائدين في مدينة حمص إلى بيتٍ إسمنتيٍّ جديد في مخيّم اليرموك بدمشق، يومها قال جدّي الذي فقد بصره طفلاً في قرية الشجرة بفلسطين: “يابا يا عاطف صار لازم ننتقل عالشام، لازم نقرّب شويّ عالبلاد، مش قادر أشمّ ريحتها هون، وإذا الله راد وصارت الرجعة بنكون قاطعين نصّ الطريق، بس دير بالك هه، ترى أنا بسكنش غير باليرموك مع أهلنا وربعنا”.

جدّي الأعمى أبو هويّن، الذي تمنّى ألّا يعود إليه بصره لئلا يرى بلاداً غير فلسطين، كان يصعد إلى سطح دارنا في المخيّم، ويقف مواجهاً الجنوب الغربي في زاوية محسوبة بأدقّ أجهزة مساحة قلبه المفطورة على الشوق والوجد ويفتح صدره للريح الجليليّة القادمة من الشجرة ليغبّها كلّها، زوّادة يستعين بها حتّى يحين أوان العودة، جدّي الأعمى ذاك قال لي مرّة وأنا ابن عشر سنين: “بس نرجع يا جدي عالشجرة بدي أورجيك كيف كنت أنشل ميّ من العين”، لكن جدّي لم يرجع ومات في المخيّم، وتبعته جدّتي بعد سنوات قهر وحرمان، وكذلك فعل أشقاؤه وشقيقاته وأولاده وبنته وبعض أحفاده، والده أيضاً مات قبله منفيّاً في سجن أضنة التركي بعد سقوط الدولة العثمانية، وعمّه كذلك مات قبلهما غريباً في اليمن مع الإنكشاريّة، وأنا حفيده الذي ولدت هناك في المخيّم الملتبس بين الوطن والمنفى، قد أموت هنا في هذا المنفى الغامض الأكثر التباساً ووضوحاً في آن معاً، ومع ذلك فقد رجعت وحيداً بدونه إلى الشجرة بعد أربعة عقود ونصف بفضل جواز سفري البريطانيّ الذي منحني إيّاه منفاي البغيض الذي أحبّ هذا، ورأيت آثار أقدامه المشقّقتين على الحجر الذي كان يجلس عليه محرّكاً دولاباً خشبيّاً برجليه الحافيتين لينشل الماء من قعر العين إلى خارجها واهباً الحياة لشجرتنا التي ما زالت تحيا هناك.

عشيّة إعلان بن غوريون الذي عاش فترة من شبابه في مستعمرة قريتنا قيام دولة إسرائيل في العام 1948، فقد بات جليّاً أنّني وكثيرون غيري سنولد لاجئين منفيّين حتّى قبل أن نتشكّل في أصلاب وأرحام والدينا، بعد اثنتي عشر سنة من ذلك التاريخ فتحت عينيّ على صخب هذه الدنيا في أحد البركسات التي كانت  تؤوي الجنود الفرنسيّين قرب حمص قبل عودتهم إلى بلادهم، والتي وزّعت بدورها على عائلات اللاجئين الفلسطينيّين بعد تشرّدهم من بلادهم، والبركس عبارة عن هنغار كبير بسقف من الصفيح على شكل مثلّث جرى تقسيمه على عدد من العوائل بحوائط رقيقة تفضح الأسرار الخصوصيّة لها، عرفت عندما قدمت إلى بريطانيا أنّ هذه المفردة إنكليزيّة وتعني ثكنة للجيش. في تلك الليلة الخريفيّة الباردة، وعلى وقع موسيقا عويل الرياح بين صفائح الزينكو، ناولتني الداية أم إبراهيم لوالدتي لكي ترضعني الرضعة الأولى، كان حليباً ممزوجاً بنكبة شعب كامل ستتبعه نكبات.

بعد أربعة عقود، وفي ذات النهار الخريفي غادرت مخيّم لجوئي الثاني في متّسع الوقت الفائض عن حاجتي، حزمتُ حقائبي على تفاصيلي التي خلّفتها ورائي وأغلقتُ قلبي دونها بعشرة أقفال، تركتُ كلّ شيْ خلفي لقدرهِ وهَربت، لم أته في البوادي والصحاري، لكنّ آثار ضربة شمس قويّة ما تزال تنخر رأسي كلّما رأيت مشهدً مماثلاً للاجئين فارّين من الموت إلى الموت. لم أمت من العطش، لكنّني غصصتُ مع كلّ شربةِ ماء اشتهاها طريد ولم يجدها، لم أركب البحر في قارب نجاة مثقوب، لكنّني غرقت مراراً والتهمت الحيتان قلبي وكبدي وأطرافي التي نسيت عددها، ضيّعت نجم الشمال سنيناً، وضيّعتني نجوم الجنوب عقوداً طويلة، وصلتُ إلى برّ الأمان منهكاً، محمّلاً بأوزار قرون من تاريخي الذي كتبه المنتصرون عليّ، مثقلاً بأربعين عاماً من البحث عن وطن يمنحني لجوءاً يجبُّ لجوئي الأوّل لأجد نفسي في البلد الذي كان السبب في لجوئي الأوّل ذاك، فأيّة مفارقة هذه !!

  • –       “إذاً، تريد أن تقدّم لجوءٍ هنا؟
  • نعم سيّدي
  • من أين أنت؟
  • فلسطيني
  • أتيت من المناطق الفلسطينيّة إذاً؟
  • كلاّ، أتيت من سوريا.
  • أنت سوري إذاً؟
  • لا، فلسطيني
  • منذ متى تعيش في سوريا؟
  • منذ ولادتي.
  • لماذا لا تحمل الجنسيّة السوريّة إذاً؟
  • لأنّي لاجئ فلسطيني.
  • هل لك أن تفسّر لي ذلك، أنت لاجئ أصلاً وتريد أن تتقدّم بطلب لجوء جديد هنا، لماذا لا تعود إلى مناطق السلطة الفلسطينيّة؟
  • لأننّي لست من هناك.
  • سوف تجعلني أفقد عقلي، كيف تكون فلسطينيّاً ولست من مناطق السلطة الفلسطينيّة؟
  • لأنّني من منطقة أخرى في فلسطين.
  • وأين تلك المنطقة؟
  • تسمّى إسرائيل الآن.
  • وكيف حدث ذلك؟
  • تسألني أنا، حدث ذلك بسببكم.
  • بسببي أنا!؟
  • كلاّ، لا أقصدك أنت شخصيّاً، أقصد اللورد آرثر بلفور الذي أعطى اليهود تصريحاً بإسم ملكة بريطانيا لإقامة وطن قومي لهم في فلسطين.
  • وما علاقتي أنا بأشياء حدثت قبل مائة عام، أنا أصلاً إنكليزي وبلفور الذي تحدّثت عنه اسكوتلندي!”.

ليس بعيداً عن مسقط رأس بلفور ذلك انتهى بي الترحال مع عائلتي الصغيرة، في المدينة الأسكوتلنديّة ذات التاريخ الصناعي المسروق، مدينة الاختراعات الكثيرة وأحواض بناء السفن العملاقة سابقاً، مدينة الإضرابات العمّاليّة والشغّيلة والطبقات المتوسّطة والمسحوقة التي صوّتت بكامل دوائرها للاستقلال عن التاج البريطاني انتقاماً من عهد تاتشر الذي سلبها مصانعها الصغيرة، مدينة الغلاسكويّين الذين يتكلّمون الإنكليزيّة على طريقتهم السريعة الحادّة، يخطفون الكلمات خطفاً ويلفظونها مبتورة الأطراف نتراً من صدورهم بعد دمجها ببعض وكأنّها عبء يريدون التخلّص منه ورميه بأقصى ما يستطيعون. في تلك المدينة الوسيعة الحدائق والمنتزهات والمتاحف، قال لي رجل نصف سكران بآثار طعناتٍ واضحة على وجهه قبل سبعة عشر عاماً على موقف الباص: “مرحباً بك أيّها الغريب في مدينتنا الصديقة، لكي تفهمنا وتفهمها يا عزيزي يجب أن تنتبه لشيئين هنا وتختبرهما جيّداً، الطقس المتقلّب المتطرّف في كلّ شيء، وكرة القدم الأكثر تطرّفاً التي تجمعنا وتفرّقنا مع فريقي سلتيك ورينجرز، عندها ستكون بخير”.

أمّا أنا الذي لا تعنيني كرة القدم، فقد صرت أحبّ فريق السلتيك منذ ذلك الوقت، وأتقنت فنّ التعايش مرغماً مع جوّ غلاسكو البارد ذي السماء المثقوبة التي تنزّ مطراً على مدار العام، فكلّ المنافي وأجوائها مهما تباينت تظلّ سواء حيث لا وطن، يتوقّف المطر فينزل دمعي عليّ وعلى كثيرين هم ما بقي لي من حياة هنا وهناك في أماكن متعدّدة، من قبرٍ مشرع لعويل الرياح على سفح تلّة يضمّ لميسي هنا في أقاصي الشمال، إلى قبورٍ أخرى تحتضن بعضي في اليرموك وعين الحلوة وحيث لا أعرف أيضاً، إلى بيت أمّي في نزوحها المتجدّد منذ تسعة وستّين عاماً في صيدا.

في منفاك الأخير تستحضر كلّ منافيك الأولى وحيواتك السابقة، تضعها آخر الليل مبعثرةً أمامك على طاولة الوجد لتعيد ترتيبها، تخرجُ من الأولى حزيناً منكسراً لتدخل الثانية مبتسماً شبه منتصر بخسارات أقلّ، في المنفى قد يكثر بكاؤك ويقلّ كلامك، وربّما تتعلّم التأمّل في الفراغ التام، ومن المحتمل أن تتطوّر لديك تقنيات الشرود إلى ما وراءه وما قبله وما فوقه وما تحته وما بين بين، يتطاول بك المنفى ويقصر، يستطيل ويعرض، يرحبُ ويضيق، يسرع ويبطئ، يعلو وينخفض، يكشّر عن أنيابه ويبتسم، يغضب ويرضى، يضحك لك ويبكي عليك، يضمّك بحنان ويلفظك بقسوة، وعلى غير انتباهٍ منك قد يتحوّل إلى أيّ شيء، ولكنّك تظلّ أنت ثابته الوحيد الذي لا يتغيّر.

هنا، في منفاي المتأخّر الأخير هذا، أجلس على شرفة عمري المتهالكة مبحلقاً في اللاشيء، أنتظر ما لا أعرف وما قد لا يجيء، أرتشف قهوتي الباردة مستأنِساً بصوت أركيلتي، يضيء قلبي كلّما توهّج جمرها ويظلم كلّما خبا، ومع كلّ نفثة دخان تحملني (يذوِّبني الحزن بجفاك وانت العيد) وتسافر بي بين اليرموك وصيدا ومقبرة غلاسكو، وما بين اليقظة والنوم، والصحو والحلم، أرى صورتي على زجاج النافذة المغبّشة من أنفاسي الحارّة فلا أعرفني، أمعن النظر فيما وراءها قليلاً فتظهر لي أمّي نصف النائمة على صوفا التهجير في صيدا، تنتبه من غفوتها وتحدّق بي مذهولة لدهر، بينما نظراتها الشاردة تقول: يمّا يا إياد، إيمتى بدنا نرجع على بيتنا بالمخيّم!

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here