مجلة أوراق- العدد9
ملف منفى الحسرات المسرات
زرت قبل فترة جزءا من العالم الذي كنت أسميه بتصرّف “بلادي”. تلك البلاد التي كانت واحدة أصبحت الآن سبعة.
إذا بدا هذا مثل لغز – فهو كذلك.
أستخدم الكلمة “بتصرف” بشكل ارتجاعي لأن بعض الناس مثلي؛ مخطئين كانوا أم مصيبين، كانوا يعتبرون ذلك الجزء من العالم بلادهم. في حين، بالنسبة لأشخاص آخرين من الجزء نفسه من ذلك العالم، لم تكن تلك بلادهم بشكل كامل. ربما كانوا يصادقون على جزء منها فقط باعتباره بلادهم الحقيقية أو المتمناة.
إذن، حين أذهب إلى هناك الآن فإنني أمشي بحذر. بعد كل شيء ربما، لا يمكنك أن تسمي بعض الأجزاء من العالم بلدك لأنه قيل لك مرة أنها لك، أ, فقط لأنك تجولت في جبالها، أو سبحت في بحارها، أو عبرت مساحات واسعة منها في قطار الليل. لا يمكنك أيضا أن تدعي ملكيتك لمدن تلك البلاد التي همست فيها بأول كلمات الحب.
لكن، ظاهريا، قيل لي، أنني يمكن أن أدعي ملكيتي لمدينة قمت بالسيطرة عليها بالنار والدمار؛ أيّ مدينة كانت.
وأتساءل إن كان المرء يستطيع فقط أن يزعم أن قطعة صغيرة من الأرض يقف عليها هي بلاده، في الوقت الذي تتهاوى الأجزاء الأخرى من تلك الأرض وتتجه بعيدا.
هناك، في ذلك الجزء من العالم الذي زرته في وقت مضى، شاهدت غابات، جبالا، سماء زرقاء وبحيرة. كل هذه الأشياء كانت قديمة وتبدو في موقعها الصحيح، في سلام مع نفسها وكل شيء آخر. هناك كنت، في تلك البلاد، التي قيل لساكنيها قبل أن يحبوا بعضهم البعض لسبب ما. رغم ذلك، أولئك الناس يعرفون من تجربة طيلة أن إنتاج ذلك الحب أكثر صعوبة من إنتاج الكراهية.
يحتاج الحب من الإنسان أن يتواجد مع آخرين. لا يمكن للحب أن يتواجد حين يكون المرء وحيدا. يحتاج الحب احتراما متبادلا ومساواة. يحتاج أن يدعم القويّ الضعيف والأكثر صحة المرضى. هذا النوع من الحب يتواجد عادة ضمن العائلة ويتوسع نحو القبيلة؛ حيث أن الروابط تتكون بسبب الضرورة والقرابة. رغم ذلك، فإن حبا من هذا القبيل له ثمنه والتضحيات مطلوبة دائما مقابل هذا الحب.
لكن هنا، سكان تلك البلاد سئلوا أن يوسعوا حبهم خارج قبائلهم. لكن تلك القبائل تحمل انقساماتها وتتمسك بالجروح التي حصلت من مظالم الماضي.
ممارسة الحب هو العمل الأعلى بين واجبات أن تكون إنسانا. رغم ذلك، حتى تعاليمنا الدينية والروحية تجد غالبا طريقا لتبرير “عدم الحب”.
لهذا، وبشكل لا يمكن الهروب منه، تنتصر الكراهية وتتزايد النزاعات في بلادي. من تلك النزاعات، يجتمع الرابحون والخاسرون – كل واحد في عالم لوحده.
كلهم يعميهم رفض رؤية نتائج أفعالهم؛ بقلوبهم المليئة بتجاهل آلام الآخرين.
لكن الكراهية، بتعريفها، ليست سببا جيدا كفاية لتتواجد. حالما يتم الانتصار على العدو لا يعود هناك أحد باق لتكره ولا مناص حينها من اتجاه الرابحين والخاسرين نحو بعضهم البعض بنوع من عرض الحب. حب ببطاقة سعر.
هناك، في ذلك المكان من العالم، الذي كان يوما بلدي، التقيت بالكثيرين من التجار المحترفين من كل الأنواع: البارعون في السيطرة على الآخرين، أصحاب المهمات، المرتزقة، المغامرون، مجربو الحظوظ، والخارجون من كل أنواع المثاليات الموسمية؛ كل هؤلاء يسوقون لحب خارجي.
في عالم أعمى، ثنائي الحب والكره، الجيد والسيء، يتم صنع عالم خيالي للجيد، عبر كل أنواع من الأفعال السيئة.
كل تلك البلاغة تنتمي بدورها إلى قبيلة أخرى. قبيلة أقوى من القبائل المحلية. في الحقيقة، تلك القبيلة هي الأقوى منهم جميعا. مسلحون بالميثولوجيات والأساطير الحديثة، يقومون بالسيطرة على أجزاء من التاريخ، العلم والتطور؛ زاعمون أنهم “سيجعلون العالم أفضل”. “في النهاية”، يقولون، “أنظر كم هو جيد الآن، بالنسبة للإنسانية الحديثة، أين وصلنا. لم يكن العالم أحسن من ذلك من قبل”. بالنسبة للبعض، هو بالتأكيد أحسن. بالنسبة لقلة، هو أفضل بكثير. وأولئك القلة يسعون لإدامة الأشياء كما هي عليه.
لكن بالعودة إلى بلادي تلك، كما بعد كل نزاع، بالنسبة للبعض الأمور أحسن. الرابحون، كالعادة، يدعون أن ربحهم عائد لقوتهم الأكبر واتحادهم؛ القتال كان لأجل قضية عادلة. لم يتم التفكير في الانتصار باعتباره شيئا خسره آخرون. والخاسرون يتركون لعد خسائرهم – وللدفاع عن أنفسهم.
هذا هو الحيز الذي تقوم بطانة من الزائرين بالانتقال إليه. يفتش الأقوى دائما عن متطوعين جدد لزيادة قوتهم أكثر. كما يفعل المتوحش لاستعباد الآخرين لزيادة ثروته.
بعد ذلك يجيء خدمة الله الذين يبحثون عن أرواح جريحة؛ ليقوموا بشفائها. في ذلك الجزء من العالم، الذي كان يوما بلادي، خدام الله أولئك كانوا حاضرين دائما. Domini Cani – كلاب الله. أولئك الذين إضافة إلى بناء المعابد، حين يحتاج الأمر، يقومون بإعادة تركيب روح الإنسان مقابل أجر.
لو أ، الأكثر قوة والرابحون هم الذين يحددون بوصلة الأخلاق، ما الذي إذن يبقى للمهزومين والخاسرين؟
إذا كان شعار حزبي، أو رسالة من التعاليم الدينية هما كل ما يحتاجه المرء لحياة جيدة، فهل هناك مكان للشكاكين والمنشقين؟
ماذا يفعل الضعيف حين تأتي المساعدة على شكل مكان للعبادة؟ وحين تنتشر فكرة أن المساعدة مرتبطة بالتقى؛ والالتزام بقبيلة قديمة – جديدة هو طريق التقدم، حتى لو كان ذلك هو انفصال أعمق بين الرابحين والخاسرين؟
كل تلة عالية في المنطقة حول المدينة التي ولدت فيها هي اليوم محتلة بجامع جديد أو كنيسة. بعد كل شيء، ألم نولد لتكون لنا فائدة ما؟ ولكن، لصالح من؟
وعلى ما يبدو، فإن الطريق لحياة جيدة بسرعة أصبح أمرا واضحا. كلنا نؤمن بالأشياء نفسها وكل شيء سيكون جيدا. أليس كذلك؟
باستثاء، أن العالم اليوم، على ما يظهر، يعمل حسب المبادئ الديمقراطية. نختار ممثلينا وممثلونا سيحملون أهم مصالحنا في قلوبهم. باستثناء، أنه أحزاب القبائل الجديدة – القديمة تشكلت باعتبارها أحزابا قومية. ضع الفقير والغني في ذلك المزيج وستجد بسرعة أن الانخراط في السياسة وإبقاء النزاعات القومية حية هو الطريق الأكيد لبقائك في عملك.
وأين في كل هذا حيز الإبداع؛ والفنانون المضطرون للإجابة على الأسئلة؟
في مسقط رأسي، العمدة هو كاتب لديه كتب منشورة. إضافة إلى مهامه العديدة، يشارك في إدارة مهرجان أدبي سنوي حيث يتم الاحتفال بأفضل كتاب الإقليم. هذا إقليم الذي كان حقلا للقبائل المتحاربة، التي تتكلم ظلالا من اللغة نفسها.
بالنظر لكل ذلك، فإنه شيء عظيم أن يدير كاتب مدينة؛ ولكن على الجانب الآخر من المسألة، فإن كل الإقليم يتداعى اقتصاديا وينحط ثقافيا.
مثل كل مكان آخر، تلفزيون الواقع والنجوم الجدد يشكلون مركز الوحي للجيل الشاب. تلفزيون الواقع والنجوم الصغار هم أدوات قوية في أيدي البطانات التي ذكرناها.
في الوقت نفسه يحتاج السياسيون القوميون نخبة ثقافية حولهم. المفارقة أن أوضاع بعض الفنانين الناجحين هي أفضل من أي وقت مضى. مهرجانات السينما تفتتح دوريا، والمشاهير من كل نوع يظهرون في تلك المهرجانات. غير أن الفن كقوة اجتماعية كبيرة في تراجع، حيث تناضل صالات الفن التشكيلي والمسارح للبقاء.
هل يبدو هذا اعتياديا؟ أليست هذه طريقة تصرف المجتمعات الحديثة القوية؟ أم أن ذلك هو امتياز للمجتمعات المنتصرة؟
المجتمعات القوية، في الآن نفسه، المجتمعات التي حصلت على قوتها عبر التوحش، تستطيع التمتع بـ”حرية التعبير”، التفكير النقدي، الفن الاستفزازي، وكذلك التجريب مع أشكال جديدة من الاجتماع، تلك “الحاجة لتجريبها قبلا في مكان آخر”.
ماذا إذن بالنسبة للمجتمعات الضعيفة، المكسّرة مثل تلك التي انبثقت مما كان بلادي؟
قدم الفن دائما ما لم تستطع الأديان المؤسساتية والسياسة تقديمه – الإلهام والصدق، لكن الفن لم يكن قادرا للبقاء حيا بقواه الذاتية فحسب.
إذن، حرية التعبير، الرقابة، والفن الاستفزازي، كلها أجزاء من الوسائل التي تجد المجتمعات قوتها بها؛ مكتشفة طريقا للوجود في عالم يقوم فيه القوي بسحق الضعيف كشكل من أشكال حفظ النوع.
ماذا تفعل إذن حين تتم “بلقنة” بلاد كبيرة قادرة على الاستمرار؟
يمكنك أن تحصل على واحدة أخرى، أصغر، وما تزال بلدا قويا، ولكنك ستحصل أيضاً على عدة بلدان ضعيفة وستكون مناطق خصبة للبطانات العالمية، ولجيش الباحثين عن الحظ، وكلاب الله.
وهكذا، يستمر الأقوياء والمنتصرون باستخدام بوصلتهم الأخلاقية للحصول على عملية تجنيد. الحب المزيف المستورد يبذر بذور الكراهية.
أتساءل أحيانا إن كان سكان تلك الأرض التي كانت بلادي فيما مضى سيستطيعون في يوم ما أن يعيشوا معا مجددا كما كانوا في تلك الأمة الميثولوجية الأسطورية.
حيثما أنظر إلى تلك الغابات، الجبال والبحيرات، أفكر أن ذلك ممكن. أناس جيدون ينبعون من تلك الأرض. الحب هو الدواء الذي يلي الكراهية. لكنني أتساءل أيضا إن كان ذلك الحب الذي ذكرناه هو حقاً امتياز لعائلة واحدة، أو لقبيلة واحدة. الأقوى. (ترجمة: ح. م)