أيمن مراد: تحرير اللغة من منطق كتابتها (1)

0

 في رحلتها الطويلة فقدت اللغة كثيراً من خصائصها بسبب سطوة منطق الكتابة على منطق اللغة، واللغة كما نعلم هي نظام إشارة صوتي يعبّر عن معاني معيّنة، والكتابة هي نظام إشارة بصري يعبّر عن نظام آخر صوتي هو اللغة، مما يعني أنّ اللغة نظام مستقل تماماً عن نظام الكتابة لكن العكس غير صحيح، أي أن نظام الكتابة غير مستقل عن نظام لغته، فاللغة أولاً قبل كتابتها، كما أنها قبل قواعدها ونحوها وصرفها، وهي حسب “دوسوسير” بنية مستقلة عن كل ما نظن أنه مرتبط بها من كتابة وقواعد ونحو وصرف وأدب وتاريخ الخ… وبالحقيقة فإن نظرة سريعة إلى تاريخ اللغة العربية تبيّن لنا دون مجهود يذكر أن اللغة وُجدتْ قبل أن يوجد نظام كتابة لها، ثم وُجدَ نظام الكتابة قبل أن يضع النحويون قواعد هذه اللغة و ضوابط الصرف فيها، ثم وفي مرحلة التقعيد هذه تم وضع ضوابط صارمة ونهائية للكتابة . لا شك أن نظام الكتابة للغة العربية بشكله الحالي (وهو شكل قديم قُعّدَ ووُضِعتْ قواعده وضوابطه في عصر التدوين )، هو نظام ينمّ عن قدرة عالية في التشريح الصوتي والتعبير عن هذه البنية التشريحية للصوت العربي بطريقة لا شك أنها متقدمة ودقيقة وصائبة، لكنه يبقى ملحقاً باللغة، فاللغة هي الأساس، هي مادة الكتابة، وهي محتوى الكتابة والكتابة نظام يشير إلى اللغة التي بدورها تشير للمعنى، لم تستطع الكتابة حتى الآن أن تشير للمعنى بدون توسّط اللغة، فالكتابة نظام إشارة بصري يعبّر عن نظام آخر هو اللغة . الحاصل حتى الآن أن قواعد اللغة ونحوها وصرفها تم وضع ضوابطها ومنطقها استناداً إلى منطق نظام الكتابة، على اعتبار أن نظام الكتابة هونفسه نظام اللغة وهذه مغالطة كبيرة، أدت إلى تعنّت وتحجّر اللغة أمام حركة التاريخ والتطور، فما نراه الآن من قواعد وضوابط للغة وصرفها هو بحقيقة الـأمر قواعد وضوابط لنظام كتابة اللغة وليس لنظام اللغة نفسه. مما يعني أن اللغة متخارجة عما يسمى قواعدها ونحوها والذي هو بحقيقة الأمر قواعد ونحو نظام الكتابة وليس نظام اللغة. لننظر مثلاً لنظام الصرف في اللغة العربية، فهو يعتمد طريقة تجريد الكلمة من أحرف الزيادة لنحصل على كلمة (مجردة ) مما يسمى أحرف الزيادة, ثلاثية الأحرف في الأعم الأغلب ورباعية كأقصى احتمال، أي أن الجذور اللغوية في العربية هي إما ثلاثية أو رباعية، يمكن لنا أن نسأل السؤال التالي : لو أن نظام الكتابة العربي لم يعتمد صيغة الفتحة والضمة والكسرة، وعبّر عن هذه الأصوات أو الحركات بحروف مكتوبة بطريقة ما، هل سنبقى أمام جذر ثلاثي؟؟؟ بالتأكيد لا، سنصبح بالحد الأدنى أمام جذر خماسي. وحينها سننتقل بكل تأكيد الى منظومة تقعيدية مختلفة كليّاَ عن المنظومة التي تعودناها وألفناها على مدى ما يقارب ألف وخمسمئة عام. هذا مثال سريع لا يحتاج الى الكثير من الكلام فيه، سقناه هنا لنبيّن الفرق بين نظام اللغة ونظام الكتابة، ولنقول أن نظام التقعيد العربي والنحو والصرف قد قاموا جميعاً استناداً إلى منطق الكتابة بشكل خاص وليس استناداً إلى منطق اللغة المستقلّ عن منطق كتابتها . هذا جزء من بحث طويل بالحقيقة، وهو (البحث) بدوره جزء من كتاب أعمل على إكماله، سأعمد هنا إلى طرح أهم موضوعاته بسلسلة مقالات، وسيكون موضوع المقال الثاني هو المثال المذكور أعلاه لكن بطريقة مختلفة، أي سيكون على شكل اقتراح مفاده هو: ماذا لو اعتمدنا نظام كتابة رابع في اللغة العربية؟ فنحن نعلم أن لدينا ثلاثة نظم للكتابة، الكتابة القرآنية، والكتابة العروضية، والكتابة الإملائية التي نعتمدها، ماذا لو اعتمدنا نظاماً رابعاً أسميناه الكتابة الصرفية؟ واعتمدنا فيه على أن نضع رسماً على شكل حرف لكل من الفتحة والضمة والكسرة، ثم وبعد أن نجرّد الكلمة من أحرف الزيادة نقوم بكتابتها حسب نظام الكتابة الصرفية الجديد، وننظر فيها وبمصدرها ونعيد النظر بمجمل علم الصرف العربي استناداً لهذه التجربة ماذا يحصل؟ قد تكون المفاجآت كبيرة جداً لدرجة أنها قد تفتح علينا وعلى اللغة آفاق في الاشتقاق والتركيب لم نعهدها من قبل, وقد تكون لا تستحق عناء المحاولة. لكني سأحاول وسأتحمل عناء هذه المحاولة بمتعة الباحث والعابث, وما عليكم إلا تحمل عناء القراءة وتحمل عبثياتي لمن رغب بالمتابعة، أو الكتابة لمن رغب بالحوار والمشاركة بالبحث. يتبع….

خاص بموقع الرابطة

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here