التقطت أذنا المندوب الأمني “حامد أبو الشوارب”، الجالس في الحافلة المتجهة إلى بلدة القساطل الشرقية، مقر معسكرات اللواء الثالث المدرع التابع للفرقة الثالثة المحمولة، نتفًا من حديث مهموس بين جنديين يجلسان على المقعد الذي أمامه في الحافلة، حيث قال أحدهما لجاره: “من صبر نال، وإن طال انتظاره، والثمر الناضج ما لم يقطف في أوانه يفسد” ص17، ثم حكى لزميله قصة نسبها لرجل صالح لم يتبين المندوب الأمني اسمه، لكن القصة تقول: “أن شجرة رجته أن يقطف ثمارها، ويحررها من الإحساس بأنها تشبه امرأة تتعذب لأنها لم تتخلص من ثمرة بطنها”، ثم يتابع صوت المتحدث بعد لحظة صمت مؤكدًا صحة حديث الرجل الصالح: “لأن الله سبحانه وتعالى جعل لكل أجل ميعادًا، ولكل أمر تدبيرًا”، عندئذ أضاف الآخر مؤكدًا “أن المردود سيكون وفيرًا، بعون الله تعالى، وأن للحصاد وقتًا لا وقت سواه”.
ربط المندوب الأمني هذا الحديث بتأكيد أحدهما “أن عليهما أن يصلا الليل بالنهار، ويستعينا بكل من في متناول يدهم، من أقارب وأصحاب، بما أن الوقت ضيق، والضباط لا يرحمون، وأوضاعهما كجنود صعبة”، مع شذرات كلمات مهموسة وغير واضحة في ضوء إطلاق السائق العنان لبوق الحافلة وضجيج المحرك المتواصل، أمثال: “صواريخ وطائرات وعجاج وجفاف وحصاد، قبل أن يرفع أحدهما صوته متذمّرًا من الطعام والراتب، كأنه يريد أن يحرض من في الحافلة من عساكر، وسخر من قائده المباشر، قائلًا: إنه حمار بأربع آذان” ص18.
وأشار التقرير إلى تذكير أحدهما لزميله عند مغادرته الحافلة “بضرورة أن لا ينسى الموعد المقرر”، مما أوجب على المندوب الأمني استعادة وتسجيل هذا الحديث المتقطع في مساء شتوي داخل الحافلة، ووفق تعليمات وإرشادات قيادة الفرع، وما تعلمه في دورة “اليقظة المكثفة”، لافتًا الانتباه أن السائق أطلق “العنان لبوق الحافلة، على الرغم من أن المكان قفر، والأرض منبسطة ومكشوفة، والحركة على الطريق معدومة في مثل هذا الوقت، مما يشي باحتمال اتفاق الجنديين مع “السائق على طمس صوتيهما بصوت البوق المرتفع، وضجيج المحرك”، ليستنتج بذلك، أنها “قرائن واضحة الترابط والأهداف، تفضح ما يضمرانه من شرّ لوطننا”.
نقل لنا الكاتب نص “التقرير الأول” الذي كتب بحيادية تبدو مهنية، حتى أنه استخدم تعبير “المندوب الأمني عوضًا عن النعت الشائع “مخبر”، كما نلاحظ أيضًا أن نص التقرير لا يتضمن أية معلومة ثابتة، أو مؤكدة، حول هوية الأشخاص الذين ظلّوا في خانة المجهول، تبتهما العسكرية، دراستهما أعمارهما بيئتهما اهتماماتهما وحالتهما الاجتماعية، حتى عندما غادر الجندي الثاني الحافلة، وسارع المندوب الأمني لاحتلال كرسيه، سائلًا جاره عن اسم الشخص الذي غادر، فأجاب هذا الأخير والنعاس يغالبه: “لا أعرف بالضبط، لكنني أظن أن الآخر دعاه بعرباوي، أو عرساوي، وأنه من جماعة الصواريخ” ص19.
هذه الجملة الأخيرة التي تشير إلى “أنه من جماعة الصواريخ” في اللواء الثالث المدرع، ربما تكون المعلومة الوحيدة شبه المؤكدة في كامل التقرير، وهذا يفسر جزءًا كبيرًا من شذرات الكلمات التي التقطها المندوب الأمني “صواريخ وطائرات”، وحتى التذمر من الطعام، أو الراتب، وصولًا لانتقاد القائد المباشر بأنه “حمار بأربع آذان”، فيما باقي الكلمات “عجاج وجفاف وحصاد” يمكن ربطها بالحديث عن قطاف الثمر، والحكاية المنقولة عن رجل صالح، وتأكيد أحد الجنديين بأن “الله سبحانه وتعالى جعل لكل أجل ميعادًا، ولكل أمر تدبيرًا”، وأن “المردود سيكون وفيرًا، بعون الله تعالى”، فهذه العبارات ربما تحيلنا لانتماء الشخصين إلى بيئة ريفية وأصول فلاحية، مشبعة بثقافة إسلامية بسيطة، مقترنة بالبيئة الزراعية وطقوسها، وبالتالي يمكننا الاستنتاج أن الجنديين أرادا التواعد من أجل جني أحد المواسم مثلًا، مستعينين “بكل من هم في متناول أيديهم من أقارب وأصحاب”، وهذا شائع في الريف السوري، سواء لحصاد القمح، أو لقطاف الزيتون، أو لقطاف القطن…، فيما ذهب المندوب الأمني لتوظيف تلك العناصر مجتمعة كدلالة مؤكدة على فكرة المؤامرة، حيث وضع الجنديين في خانة التآمر، وإضمار الشر على “وطننا”.
هذه المفارقة لا يمكن أن توجد إلا في دولة الاستبداد المعمم، كسورية، حيث انتشرت عبارة تحذيرية بين الناس، أن “للحيطان آذان”، لتحول دون أي حديث، أو تواصل، بين الأصدقاء، أو أفراد العائلة، حتى داخل غرفة مغلقة، فالخوف من “الآذان” هو الخوف من المخبرين، ومن كتاب التقارير الأمنية، التي تعتمد على فهم المخبر وحصافته في تفسير الكلمات والعبارات، فالمخبر، أو المندوب الأمني، لن يتردد في كتابة تقريره الاتهامي بسبب عجزه عن فهم سياق بعض العبارات، أو لمجرد شبهة المعارضة عند شخص ما، أو لتدني مستوى ولائه، إن لم يكن لأسباب كيدية، أو لابتزاز مادي!
***
تقرير “المندوب في حافلة القساطل حامد أبو الشوارب”، الذي استعرضناه باستفاضة، شكل مدماك الحدث الذي بدأت منه الرواية، مع أننا لم نكتشف فيه أية معلومة مفيدة، غير أن المؤسسة الأمنية في تراتبيتها البيروقراطية ضمن “الفرع”، بنت عليها سلسلة من التقارير اللاحقة التي وصل عددها إلى تسع تقارير، استعرضها الكاتب بحيادية وتوثيقية عبر القسم الأول من روايته الذي حمل عنوان “تقارير عن الحالة العرباوية”، شكلت بمجموعها توطئة لما يُفترض أنه موضوع الرواية، الذي بدأ يخاتلنا في القسم الآخر الذي حمل عنوانًا واحدًا فقط: “من تحقيقات العقيد عاصي الخالد في بلدة دير الجسور”.
بداية، ربما تشكل التقارير التسعة صدمة لقارئ النص، سواء لجهة المتخيل الذي بنيتْ عليه
تهمة “إضمار الشر لوطننا”، أو لجهة المتهم المتوهَم، الذي شمل كل من كان اسمه عربي، أو عرباوي، أو عرساوي، أو ما شابه ذلك، والذين غصت بهم أقبية وساحات المراكز الأمنية، من دون أن يستطيع أيٌّ من هؤلاء المتهمين الافتراضيين تقديم أي دليل يدعم صحة الاتهام، طالما أنه لا جدوى أو قيمة لنفي الاتهام، رغم وحشية التعذيب الذي تعرضوا له، كما يشير “تقرير لجنات التحقيق” ص35، أو لجهة سرد أشكال التعذيب وأنواعها التي يأتي ذلك التقرير على تعدادها، وتصعيد أشكالها، وشدتها، من دون جدوى، قبل أن يؤكد: أن المتآمرين رفضوا بشكل مذهل الاستجابة إلى كل أصناف التعذيب، “وأظهروا قدرًا من العناد مكنهم من تحييد الوسائل والأساليب المستخدمة لمساعدتهم في الاعتراف بالحقيقة”، وهي “الحقيقة” التي بنيت على أوهام المندوب الأمني التي جاءت في التقرير الأول، فيتابع “تقرير لجنات التحقيق”، الذي كتب بالتعاون مع أطباء الفرع، شرح المعضلة بالقول “وقد فوجئنا، بعد لحظات من بدء التحقيق، أن العرباويين فقدوا ملامحهم، على الرغم من أنهم دخلوا الفرع بملامح تشبه ملامح غيرهم من المواطنين، وفوجئنا بأنهم لم يُبدوا أي استجابة للجهد الذي بذلناه، لدفعهم إلى الإدلاء بتفاصيل المؤامرة، واتخذوا سلوك من يعجز عن فهم ما يجري حوله” ص35، وكأن “المتهم أضاع حواسه، كما يبدو، منذ زمن طويل، قبل أن يدخل الفرع، وأنه لن يستجيب لأي أمر، بما أنه كتلة لحم صرف، لا حاجات لها، تشبه الجسد البشري، وما هي بمثله، بل هي غائبة، وإن بدت حاضرة، ميتة، وإن لاح أنها حية” ص37.
بناء على ذلك، يعيد “تقرير لجنة الفرع الخاصة” تفسير ذلك بما يخدم مصلحة الفرع، حين يُشير إلى غياب أي قناعات خاصة لدى هذا المتهم الذي غادر النوع البشري، موضحًا “كأن عملنا الكبير كأن يتجه، من دون أن ندري، نحو صنعه، ليضعنا أمام كائن آمنا دومًا بأنه ضروري لاستمرارنا، فإذا بوجوده بيننا يجعله نقيض وجودنا، وعلامة على زوال أحوالنا، وخطرًا يطرح علينا سؤالًا محيرًا: هل نسمح لأضعف مخلوقاتنا أن يكون أعتى سلاح يوجه إلى صدورنا؟!” ص41.
هنا، يأتي التقرير التاسع والأخير الذي وضع تحت ترويسة “إلى مكتب الأمن القومي” ص45، ليعكس ما وصلت إليه كل التحقيقات السابقة، لافتًا الأنظار “إلى التباين المثير للشبهات، بين نظرة بعض العاملين في خدمتنا إلى الشؤون العامة، والخط العام الموجه لدولتنا”، حيث يصبح عجز لجنات التحقيق عن فهم الظاهرة “العرباوية” متعارضًا مع مساعي الدولة البوليسية التي أرست دعائمًا خلال السنوات السابقة، كاشفًا أن هذا المواطن الذي يعيش بلا أفكار، أو أحاسيس ومشاعر، هو الإنجاز الأكبر لدولتنا الأمنية.
موضحًا آلية صناعة هذا المواطن: “كان همنا الوحيد دومًا أن يكون بلا هم، وفكرتنا الأساسية أن يكون بلا فكر، وأن يكون غيابه علامة حضوره الفارقة، يحدّق في الدنيا فلا يراها… فهو كما أردنا له أن يكون: طَهورٌ ليست عينُه على هذه الدنيا ومتعها الزائلة، بل يعيش في عالم من الخواء الروحي، صنعناه له، فوجد فيه ملاذه”، ويتابع “لقد وجهنا دائمًا، بالتركيز على إفراغ حياة المواطنين الخاصة من أي اهتمام عام، ليُقلعوا عن التدخّل في ما لا يعنيهم من الشؤون العامة، ويغرقوا في توافه فردياتهم” ص 46.
هذه الظاهرة تثبت نجاح النظام الذي “يجد جذوره في القيادة لا في الشعب”، ونجاحه أن يصنع المواطن المثالي له، “مواطن بلا مشاعر، أو أفكار، وبلا طموحات في الحياة”، هذا المواطن الذي سنحتفل به ونسعى إلى تعميمه، ونقيم له التماثيل، هو هدفنا النهائي، والذي “سنباهي به العالمين”.
***
شكلت هذه التقارير الأمنية مدخلًا لعرض حالة الدولة الاستبدادية، ورسم عوالمها الداخلية، الأفرع الأمنية، المعتقلات، أشكال التعذيب، تصفية المعتقلين، فقدان قيمة الفرد، أو الشعب، في نظر القيادة، هذا الاستبداد الذي التهم في النهاية المجتمع والدولة والمواطنين كسرطان خبيث يسطو على جسم الضحية، وقد استجرنا الكاتب الذي خبر موضوعة الاستبداد بدقة، وفي أكثر من محطة عبر محطات حياته، عبر هذه التقريرية المباشرة، إلى الولوج داخل المؤسسة الأمنية، وآليات عملها، ورسم أهدافها في القضاء على المواطن، كإمكانية للتفكير، أو المعارضة.
يأخذنا الكاتب في القسم الثاني للرواية المعنون “من تحقيقات العقيد عاصي الخالد في بلدة دير الجسور”، أبعد من ذلك العنوان بكثير، ليعيد تشكيل سيرة الحياة الشخصية لبطل الرواية الوحيد، العقيد عاصي الخالد، الذي يتماهى في دور الراوي أيضًا، وهو يسعى في استبطان العوالم الداخلية لهذا البطل الروائي، عبر إشارات مكثفة لتعاطفه طفلًا مع والدته المضطهدة من قبل أبٍ قاسٍ وعنيفْ لا يتورع عن ضربها باستمرار، ما دفعه في لحظة عاطفية إلى اتخاذ قرار بالمواجهة مع والده، دفاعًا عن الأم المسحوقة بثقل ضعفها، مواجهة قادت الطفل إلى ضرب أبيه بحجر أسال دمه، ليهرب من جريمته إلى بيت الشيخ حمدان الأبرص بدلالته الدينية، بعد أن ترك لنا مساحة للتساؤل:
ألم تكن جريمة قتل الأب مقابل التعاطف مع الأم كافية لاستعادة النص إلى فضاءات عقدة أوديب؟
أعتقد أن هذه الإحالة تسعفنا كثيرًا في فهم تشوهات هذه الشخصية اللاحقة، حقدها على المجتمع والعائلة والآخر بشكل عام، الأنانية المفرطة وطموح غير محدود باتجاه التسلط والجشع المفرط، مقابل هشاشة في البنية النفسية، وضعف أديا بالبطل إلى الوقوع في حالة من عدم اليقين، قادته إلى هلوسات وكوابيس يصعب التحقق من سرياليتها، أو من واقعيتها.
هذه الكوابيس والأحلام والمونولوجات الداخلية، التي ملأت فضاء النص، شكلت الأسلوب الأمثل لبناء رواية تقوم على بطولة أحادية، حيث يتماهى البطل بالضرورة مع الراوي الذي يقص علينا سرديته باستخدام ضمير المتكلم، وهو الأسلوب الذي يُقارب بدرجة ما كتابة المذكرات، أو اليوميات، وتحديدًا في مجتمع يحكمه الخوف من الاستبداد، ومن كتبة التقارير الأمنية، حيث تتقلص مساحة الديالوغ، أو الحوارات، كثيرًا، في هذه المجتمعات، فتحقيقات العقيد عاصي ليست أكثر من صيغة لكتابة يومياته، وحتى الجزء الأول الذي كتب بصيغة تقارير أمنية لم يكن غير الملف الأمني الذي شكل مدخلًا لتحقيقات العقيد عاصي الخالد في دير الجسور.
أظهر الكاتب حرفية عالية في توظيف تقنيات السرد الأخرى، بدءًا بالتقريرية التي أشرنا إليها بداية، وحتى استخدامه أسلوب الديالوغ، أو الحوارات، عند الضرورة، وهي ليست قليلة، وإن جاءت غالبًا عبر التذكر، مرورًا بكثير من المرويات، أو الحكايات الشعبية، مثال ما أوردناه عن قصة الرجل الصّالح والشجرة المثمرة، أو حكاية عمه إبراهيم مع ملك الجن، وصولًا إلى زواج أبيه من أمه، وعشرات القصص والحكايات التي تنبث في ثنايا النص، وتتداخل مع استخدام الكوابيس وأحلام اليقظة، متكئًا على لازمة تقليدية وموفقة “رأيت في ما يرى النائم”، أو سمعت في ما يسمع النائم”، ومع هذه الأساليب السردية الكثيرة سيتغير ضمير المتكلم بحسب مقتضيات الحالة الحوارية، حيث نكتشف ضمير المخاطب، أو الحديث بضمير الغائب أحيانًا.
المسألة الأهم أن لعبة السرد وفق طبيعة الرواية، فرضت على الكاتب أن يلجأ إلى تفتيت الزمن، وتشظي كرونولوجيا الحدث، في تداخل القصص والذكريات ما بين الماضي والحاضر، مع خوف مستمر من الآتي، حين يأخذنا السرد إلى التفكير بالمستقبل، من دون أن يؤثر ذلك على النسق السردي العام الذي قاد خطى العقيد عاصي الخالد في اتجاه نهايته.
أشار الكاتب بداية أن زمن الكتابة بين أيلول/ سبتمبر 1988، وكانون الأول/ ديسمبر 1990، لكن الفضاء الزمني للنص يتسع إلى كامل التاريخ الحديث لسورية، من دون أن يبدو الكاتب مهتمًا بالتأريخ، لكنه وظّف كثيرًا من الإشارات، أو الثيمات، والأسماء الموزعة بين
السطور، والتي تشكل دلالات مرجعية تضيء السياق الزمني للأحداث والحكايات، التي تنداح في عمق تشكّل الكيانية السورية بعد تفتت الخلافة العثمانية، وهروب سكان “مزار الوحش” في اتجاه الوادي، ليشكلوا لاحقًا بلدة “مزار الدب”، في تقصي لأصول عائلة الأسد التي سيطرت وما تزال على السلطة في سورية، وهم الذين عرفوا سابقًا بآل “الوحش”، مرورًا باستشهاد عرباوي في معركة “الكرامة” المشهورة التي شكلت علامة فارقة في تاريخ المقاومة الفلسطينية يوم 21 آذار/ مارس 1968، وهذا يعني شيئًا مهمًا في الإحالة إلى زمن عياني معاش، ويملك ماهية محددة.
المسألة الأخرى تتعلق بتحديد المكان وارتباطه بالزمن المشار إليه سابقًا، فالفضاء المكاني للرواية يبدو محصورًا بين بلدة “مزار الدب”، التي هبط سكانها من ضيعة “مزار الوحش”، وبين البلدة الحدودية “دير الجسور”، التي يصلها العقيد عاصي الخالد للتحقيق في الظاهرة “العرباوية”، مع إشارات إلى الفرع في العاصمة، من دون تسميتها، لكنها ثلاث نقاط يمكن أن تنداح على خارطة الجغرافية السورية ككل، والتي تقصد الكاتب الإشارة إليها مرة واحدة في الصفحة 51، مما يؤكد إحالة المتخيل السردي في النص الى واقعية تتداخل في كل التفاصيل، حتى أن دير الجسور التي لم يستطع بداية تحديد موقعها الجغرافي، إلا في أرشيف الفرع، باعتبارها مركزًا حدوديًا شبه ضائع في الصحراء على حدود الدولة المعادية، وكانت أكثر سريالية وسرابية من أن تكون مدينة حقيقية، مع أن تعريفها بدلالة الدولة المعادية لم يُقصد به إسرائيل، إذ أن ارتباطها بالصحراء والتهريب عبر الحدود يحيل بالضرورة إلى دولة العراق فقط، حيث كان يكتب على جواز السفر السوري في تلك الأيام أنه “صالح للسفر إلى كل دول العالم ما عدا إسرائيل والعراق”.
***
رغم سريالية التقارير الأمنية التي انتهت بتكليف العقيد عاصي الخالد بالسفر إلى “دير الجسور” الضائعة على تخوم الدولة المعادية في الصحراء، لتقصي الحالة العرباوية، والتي ستستمر في اكتشاف سريالية البلدة، التي لا ماء فيها، ولم تصلها القهوة منذ شهرين، ونعلم أنها “لم تكن موجودة إلى الأمس القريب، وأنها تعيش في عالم تنفرد به، صنعه من يرسلون
محاصيل البلاد ومواشيها إلى الدولة المعادية، ص69″، حيث يختفي سكانها في النهار ليباشروا أعمال التهريب ليلًا، وبرعاية الفرع الرابض كالنسر فوق تلة تشرف على البلدة التي لا يظهر من عمرانها غير بعض الأكواخ وأشباح المقبرة، لكنها تتعين بين نقطتين: الفرع والجامع، ككل أمكنتنا أو بلداتنا السورية.
يعتقد العقيد عاصي أن الجيش عصب الدولة، وأن الأمن هو عصب الجيش، لذلك لم يدخر جهدًا للانتقال إلى الفرع بواسطة الشيخ حمدان الأبرص، الذي تربى لديه حين فرّ من أبيه، وقد كسب بذلك القوة والنفوذ والسيطرة والمال، لكنه خسر نفسه وحالة الاستقرار في النهاية، حتى أنه بدأ يشك في كل شيء حوله، ويخشى أن يمتدّ شكه إلى الفرع، إذ يعلم كما جاء في تقرير الأخير كتوصية إلى مكتب الأمن القومي: “دعونا نذكركم بأن جذور نظامنا ليست في الشعب، بل في القيادة،… واعلموا أن الدول لا تقوم على الإرادات العامة، بل على القرارات الصحيحة، ولا تعيش من تناغم القمة والقاعدة، بل من الأدوات والوسائل اللازمة لفرض ما تراه القيادة على أتباعها” ص46 – 47.
وهو كان مؤمنًا بذلك، لكن الأمور سارت بعكس ما أراده، حين رفض أحد أولاد أخيه الشيخ واصل بيع حصته من الميراث، فلم يتردد بتلفيق تهمة المعارضة السياسية له، طالبًا من أحد ضباط الفرع تأديبه، لكن الفتى مات في التحقيق، وها هو يحدثنا في أحد كوابيسه قائلًا:
“سمعت في ما يسمع النائم صوتًا يقترب مني..
قال الصوت: يبدو أنك ما عدتّ تأبه لتذكر أفعالك يا قابيل؟
قلت في استنكار: من أنت، أيها الصوت الصارخ في البرية؟
رد هازئًا: ها أنت نسيت صوتي أيضًا.
صرخت بضراعة: سامحني يا أبي، لم أتبين صوتك لشدة وهنه.
فانطلق عندئذ بقوة خلتها الرعد: لماذا تقتل الناس، يا قابيل؟
– أنا لا أقتل أحدًا يا أبي، هم يريدون قتلي فأدافع عن نفسي وحسب.
– ومن قتل ابن أخيك واصل، وهل كان يهدد حياتك أيضًا؟
وصرخت: أنا لم أقتله، لست أنا من قتله”. ص124.
على هذا المنوال تتحول الرواية بكاملها إلى كابوس يتداخل بين ذكريات العقيد، وماضٍ حَصلَ مع حاضرٍ يفتقد اليقين، وهو يمشي كالمسرنم في نومه، أو عبر أحلام تتداعى في مونولوج متواصل، وتحديدًا بعدما أسندت قيادة الفرع إليه شخصيًّا أمر التحقيق مع ابن أخيه الثاني، الذي أوقف بتهمة المعارضة، ولم ينكر ذلك، وكان من نتيجة هذا الفشل أن أوكلت إليه مهمة التحقيق في الظاهرة العرباوية التي تطلبت منه السفر إلى “دير الجسور”، لكن هذه الرحلة أضحت معاكسة في اتجاه ذاته وماضيه، الذي بدأ يتفجر شكوكًا وكوابيسًا وخوفًا من القادم.
عبّر عنه الراوي برغبة الهروب من حاله، أو من الحياة: “ليتني بقيت طفلًا، وليتني أغيب عن الوعي كي لا أعرف ما ينتظرني في فرع العاصمة، أو أنني أغمض عيني لأفيق من جديد بعد انقضاء أجلي، فأنال سعادة من بارح حياةً نقلته من البؤس والحرمان إلى الخوف والغربة والقلق، أو من الضعف العاري إلى حال من القوة دمّرت الآخرين، وها هي تدمّرني” ص142.
إذ لم تكن مهمته في تقصي الظاهرة العرباوية أسهل من تجاربه في التحقيق مع ابن أخيه المعارض، خاصة بعدما قتل أم عرباوي انتقامًا من صمتها في التحقيق، ليكتشف أن العجوز التي تجاوزت عقدها الثامن كانت عمياء، ويكتشف لاحقًا أن عرباوي الذي يبحث عنه ميت منذ زمن بعيد، بل يُعتبر شهيدًا قاتل في “معركة الكرامة”، وأن له قبرًا في دير الجسور. ويضيف حسان الأشهب، متسائلًا في رسالة “ألا تعرف أيها الغافل أن الدولة أرسلت في حينه وفدًا رسميًا قدم التعازي لوالدته التي استشهدت على يديك؟”، كما يخبره آخر أن عرباوي كان “أكثرنا علمًا، وأعظمنا أخلاقًا، وأشدنا شعورًا بالواجب الوطني، وتفانيًا، ودفاعًا عن حقوق المساكين والضعفاء، وأنه عمل لإخراج (الدير) من بؤسها، ونشر أفكاره في كل مكانٍ قبلَ أنْ يقدّم روحَه لفلسطين” ص152.
غير أن المفاجأة التي صعقته في المقبرة حين اكتشف في القبر جثة ابن أخيه الذي وشى به، إذ جاءه صوت والده متسائلًا: “ألم تعرفه، إنه عرباوي الذي تفتش عنه؟… استغربتَ أن يدفن أحد أبناء مزار الدب في دير الجسور، ما الفرق بين المزار والدير، وبين ابن أخيك وعرباوي؟ لقد قتلتم الأول تحت التعذيب، ثم جئتم به في تابوت حديدي إلى أم عرباوي، وقلتم لها: هو ذا ابنك الشهيد، أدفنيه من دون أن تفتحي تابوته، هكذا جاء ابن أخيك إلى هذه البلدة، وصار له فيها قبر وأحبه” ص155.
حين وصل العقيد إلى الفرع في دير الجسور كانت قد وصلت دورية من العاصمة لاعتقاله، “استهوتني اللعبة، فأخذت أفكر في ما سيحدث لي، وكأنني غير معني به، هل أبالغ إذا قلت إنني نمت في الطريق إلى السجن أكثر مما نمت خلال الأيام الأخيرة جميعها، وأنني بدوت لنفسي كمن اجتاز حقل ألغام، ووصل إلى أرض نظيفة، ويوشك أن يدخل من جديد في حقل ألغام آخر، ولكن ليس كضابط أمن، بل بوصفي شخصًا يملؤه إحساس بالراحة” ص162.
أعتقد أن أي محاولة لتفكيك مفردات النص وتيماته الموزعة في صفحات هذه الرواية، وأي محاولة للغوص في المتخيل الذي اشتغل عليه الكاتب لن تستطيع أن تغني عن قراءة هذا النص الغني بكثافة دلالاته وتعدد مستويات القراءة التي تذهب بنا بعيدًا في المتخيل، لنكتشف أنه ليس أكثر من عملية تظهير صور فوتوغرافية للواقع السوري الذي لم يلبث أن انفجر بعد عقدين من زمن الكتابة.
هذه الرواية تذكرنا بالواقعية السحرية لأدب أميركا اللاتينية، لكننا سنكتشف في قراءتها “واقعية ما فوق سحرية” إن صح التعبير. “دير الجسور” التي ظَهّرتْ لنا واقع الاستبداد والفساد في سورية ليست قصة طويلة كما كتب ميشيل كيلو على غلافها تواضعًا، بل هي رواية مشبعة بالقصص والحكايات، ومكثفة حدّ التخمة في آن معًا، في قراءتها للواقع العياني، الذي شكل كذبة كبيرة اسمها سورية، أو الوطن.
*العربي الجديد