يوسف عبدلكي: الثورة السورية تأخرت كثيراً ولا يوجد فن بعيداً عن السياسة

0

حوار: محمد عبد الرحيم

مسيرة فنية طويلة أنجز خلالها الفنان السوري يوسف عبدلكي أسلوباً بصرياً مغايراً أصبح دالاً عليه ويخصه وحده، تجاوز من خلاله الأفق العربي الضيق، والمحكوم بأنظمة سياسية عقيمة، كان لها أكبر الأثر في تجربته الفكرية والفنية، حيث لا توجد لوحة إلا وتحمل همّاً سياسياً، وتحاول بدورها التعبير عما يعيشه المواطن العربي والسوري بشكل خاص. وبما أن العقلية الحاكمة واحدة، فقد تجاوبت مع أعمال عبدلكي قطاعات كثيرة من مختلف الدول العربية وخارجها، رغم ما تحمله هذه الأعمال من حِس تراجيدي لا يُنكر، فالأمر يتخطى اللعب أو اللهو، أو مجرد التجريب الفارغ، كما الكثير من الفنانين أو مُدّعي الفن والنضال بمعنى أدق.
وحالياً يقيم عبدلكي معرضه في غاليري (مشربية) في القاهرة، الذي استوحى أعماله من (رباعيات صلاح جاهين) وقد تحولت الرباعيات المنتقاة إلى لوحات تحمل جماليات ودلالات الفن التشكيلي، بمعنى التعبير عن حالة هذه الرباعيات عبر وسيط آخر، وقد أعاد إنتاجها الفنان من خلال رؤيته وإحساسه بما تحمله من مضامين فلسفية وجمالية، كما تحولت الحالات إلى كائنات تواجه الإنسان.. فالخوف على سبيل المثال يصبح فأراً مُرعباً ضخماً مقارنة بجسد الإنسان الضئيل في مواجهته، كذلك في رباعية المهرج الشهيرة.. «أنا قلبي كان شخشيخة أصبح جرس/جلجلت به صحيوا الخدم والحرس/أنا المهرج.. قمتو ليه خفتو ليه؟/لا فإيدي سيف ولا تحت منّي فرس». هنا أصبحت تواجه (المهرج/الفنان) مجموعة من الحيوانات التي تتمثل كل ما يُرهِب الإنسان العادي، الذي يظنونه رمزاً لتهديد وجودهم، فنرى النمر والتمساح والخنزير.. رجل السلطة المُمسِك بالقيود الحديدية والسلاح الناري، بينما المهرج هنا يُمسك بالجرس والعديد من فراشي الرسم. كذلك أهدى عبدلكي تحياته من خلال خمس رباعيات لشخصيات مؤثرة في روحه وفكره، وهم.. محمود مختار، هوكوساي، محمود سعيد، مارسيل دوشامب، والشيخ إمام.
وبمناسبة هذا المعرض كان الحوار الآتي..

بداية… لماذا محاولة استلهام رباعيات صلاح جاهين الآن؟
■ من وقت سماعي للرباعيات ثم قراءتها وأنا أفكر بالاشتغال عليها، وهذا لم يكن حديث العهد، بل ما يزيد على الربع قرن، حوالي 26 سنة. ثم بدأت منذ أربعة أعوام العمل على الرباعيات، واخترت منها ما أثارني ذهنياً، كان عملاً بطيئاً، لكنه دؤوب ومستمر، حتى إنني انتهيت من إنجاز 45 رباعية، اخترت منها 35، وقمت بطباعتها. ويبدو أن كل ذلك الوقت كنت أقلب هذه الرباعيات في رأسي بحثاً عن قالب بصري يناسبها، ويتم معالجتها من خلاله، خاصة أنها خلاصة مسيرة طويلة من الشعر المصري المحكي (شعر العامية) أذكر هنا بيرم التونسي وفؤاد حداد، وكانت ذات تأثير في جيل آخر استكمل المسيرة، كأحمد فؤاد نجم. هذه العبارات المشحونة بالمعنى والدلالة بقدر ما تعمل على الاستمتاع بها، بقدر ما تعمل على التحريض الذهني. فهناك تزاوج بين التحريض الذهني البحت، وجمال وخفة الأداء ومتعته. أعود مرّة أخرى لـ (المعادل البصري) للرباعيات، ومن أي زاوية يمكن تناولها فنياً، خاصة وهي تمتاز بعدة خصائص.. ففيها المنحى الفلسفي الواضح، ثم العراك مع الحياة، كحالة درامية لا تنتهي، وأخيراً خفة الدم الواضحة، والركائز الثلاث هذه هي صُلب الرباعيات، فكان لا بد من أن يأتي المعادل البصري معتمداً على رصانة الفكرة وخِفة أداء الصياغة. أما معيار النجاح أو الفشل فمتروك للمتلقي.

□ وهل تعود الروح الساخرة للمعالجة البصرية للرباعيات كاستمرار لمرحلة الكاريكاتير؟
■ أظن أن الكاريكاتير ليس له وجود في هذا العمل، لكن شغلي على الكاريكاتير الذي بدأ في نهايات الستينيات أكسبني بطريقة لاشعورية خبرات في الأداء الخطي، فأصبحت لديّ إمكانية التحكم في التكوين أو الحركة في التكوين. لكن موضوع الرباعيات هذا كنت أفكر فيه من خلال خلق قطعة رصينة بصرياً، وألا تكون، في الوقت نفسه، ثقيلة على القلب والبصر. ومن الممكن أن يكون هذا سبب التفكير في أسلوب الكاركاتير في المعالجة البصرية، لكن في الحقيقة لا توجد علاقة به في عملي على الرباعيات.

□ في حوار سابق تطرقت إلى فكرة الرسام العقلاني والملون العاطفي، هل ممكن توضيح هذه الفكرة أكثر؟
■ أقصد أن الفنانين الذي يعملون على سطح اللوحة ينقسموا إلى فئتين.. (الخط) والأبيض والأسود، أو (اللون) وتناقضات الألوان الحارة والباردة. وعادة وليس دائما الرسام أكثر عقلانية من الملون، بينما الأخير أكثر عاطفية. هذا بالطبع كلام فيه بعض من المجازفة، بمعنى أن كل الملونين يشتغلون أعمالاً خطية، وأن الرسامين يشتغلون أعمالاً ملونة. بيكاسو مثلاً كان يعمل من خلال الألوان، لكن صلب البناء في لوحته خطي وليس لونيا، بينما مونييه وهو أحد كبار الملونين، حتى لو اشتغل من خلال الأبيض والأسود، فإن بنية لوحاته لونية، لكن الحدود في الحقيقة ضيقة جداً ومتداخلة للغاية، ورغم ذلك فهو تقسيم موجود، وربما يبدو على شيء من التعسف في بعض الأحيان، فالحدود متداخلة بينهما.

□ كان مشرع التخرج عن أيلول الأسود وهي لوحة تشبه جرنيكا بيكاسو، فهل من البداية كانت هناك أفكار واضحة أو موقف سياسي محدد؟
■ تربيت في بيت يتنفس السياسة، ووالدي دخل السجن لأسباب سياسية 12 مرّة في حياته، حتى أنه في عدة مرّات كاد أن يموت بالفعل تحت وطأة التعذيب. فالأمر بدأ من مناخ البيت، دون اختيار منّي. كذلك أرجع هذا الموقف من جملة المطالعات والقراءات السائدة في الستينيات والسبعينيات، خاصة الحوار والجدل أو الصراع حول ماهية الفن.. هل الفن للشعب أم الفن للفن؟ دون نسيان المناخ العالمي العام وقتها، مناخ الحرب الباردة، تماشياً مع نهوض المشروع القومي في البلاد العربية ومصر خاصة، وقد خلّف ذلك كتابات لا تعد ولا تحصى في الفن، وكانت هذه الكتب مصرية بالأساس، أذكر منها مؤلفات بدر الدين أبو غازي، محمود بسيوني، رمسيس يونان وحسن سليمان. ورغم عدم توافقهم في الرؤية والمنهج، إلا أنهم صنعوا لي رؤية وتوجهاً بأن يكون عملي متداخلاً مع المجتمع، وكنت أرى أن ما أقوم به في عملي لا يستطيع الابتعاد عن السياسة، فهو من طبيعة الأشياء، فكل تاريخ الفن سنجد السياسة حاضرة فيه، والأمثلة كثيرة.. رامبرانت، غويا وبيكاسو وغيرهم. والأهم هنا من كونك تعمل وتعبّر من خلال السياسة أم لا، هو الأداء، هل هو متين وحقيقي، أم سطحي فج؟ الأمر نفسه ينطبق على المنظر الطبيعي أو أي حقل أو موضوع، فهو في ذاته ليس مدانا أو مُمَجدا، المهم سويّة المعالجة، الحساسية والرهافة والموهبة والجمال، هل موضوع محكم يستطيع التواصل مع الآخرين أم لا، بخلاف ذلك فهو موضوع ساقط فنياً، فالتحدي يكمن في كيفية صياغة اللوحة، بغض النظر عن طبيعة موضوعها.

وماذا عن تجربتي السجن، خاصة التجربة الأخيرة بعد الثورة السورية؟
■ أرى أن الثورة السورية ربما تأخرت كثيراً، وقد جاءت احتجاجاً على نظام يمارس قمعا ونهبا للثروة الوطنية، فطبيعي أن يثور الناس. لكن ما حدث بعدها من تدخل الأمريكيين ودول الخليج في الأمر، سرق الثورة من أصحابها، وقام صراع على الأرض السورية وانتهى الأمر، ليصبح صراعاً إقليمياً ودولياً لأهداف غير سورية بالمرّة، أي دخلنا في حرب أهلية أنهكت المجتمع والاقتصاد وحتى الدولة. لكن.. هذا الحدث الهائل الثورة لم أعمل عليه، فقط اشتغلت على جزء بسيط أظنه أعمق، وهو (أمهات الشهداء). أتخيل أنه لا يوجد ألم يوازي ألم أم ترى ابنها في عُمر الـ18 أو الـ 20 يخرج في مظاهرة ينادي بالحرية، فيعود إليها جثة بعد ساعة أو أقل. بعد سنتين عدتُ إلى موضوعات الطبيعة الصامتة، وقد رأيت البلد كله يذهب إلى كارثة ويغرق فيها كل يوم أكثر وأكثر. فالعنف الذي مارسته السلطة الأمنية منذ 2011 يدل على صلف وجلافة وتعنت، دون أدنى إحساس إنساني أو وطني. وبعد الأشهر الأولى للثورة دخلنا في حقبة سوداء، فانطويت على نفسي وابتعدتُ عائداً إلى موضوعاتي السابقة.

□ وماذا عن تجربة الموديلات العارية؟
■ الموديلات بعد هزيمة الثورة وما لحق بالشعب السوري، رأيت نفسي بعيداً عن المجزرة البشعة، فكان الملاذ هو البحث عن الجمال، أو اللجوء كملجأ بديل عن الغرق في متابعة الوحشية والكارثة التي ضربت كل المجتمع السوري.

□ وهل هناك تشابه بين هذه التجربة ولوحة (يوحنا فم الذهب)؟
■ لوحة (مار يوحنا فم الذهب مُسجى بجامع الحسن في دمشق) وهو سُمّي بذلك لكونه خطيباً مفوهاً ومؤثراً كانت لشخص ينتقد الدولة الرومانية، فحاربوه ونفوه ومات منفياً في مكان آخر لا علاقة له بدمشق بالطبع، لكنه كان رمزاً للمعارضة، فجعلته في اللوحة مستلقياً أخيراً بعد موته في جامع الحسن، وهو مكان معلوم خرجت منه عشرات المظاهرات، إضافة إلى أن (حي الميدان) شاهد على النضال السوري ضد الاحتلال الفرنسي. من ناحية أخرى كنت أريد توضيح أن الكلام الساقط الذي تقوله السلطات الرسمية، من حيث أن للثورة طابعا طائفيا، غير صحيح بالمرّة. فالدمج بين رمز مسيحي وإسلامي نقيض الادعاء الطائفي الذي تمارسة السلطات. ولا أظن العلاقة بينه وبين الموديلات، سوى مشهد الجسد العاري الإنساني.

□ وماذا عن دلالة الرموز والتشيؤ في أعمال الطبيعة الصامتة؟
■ منذ 35 عاما أو يزيد، وأنا أعمل على موضوع الطبيعة الصامتة، وهو لا يمت للطبيعة الصامتة الأوروبية التي بدأت منذ ثلاثة قرون، فمواضيع الطبيعة الصامتة في أوروبا مواضيع جميلة وديعة تزينيّة، أما موضوعاتي فلا يهمها ذلك. عناصر اللوحة بالطبع تنتمي للطبيعة الصامتة، لكنها مختلفة الأدء والدلالة تماماً. فعناصر اللوحة حمّالة دلالات وليست حيادية، وبالتالي لها قوة تعبيرية، وأداء أكثر قسوة وعنفا، بعيداً عن وداعة الطبيعة الصامتة الاعتيادية.. أسماك مقطوعة الرأس، عصفور ميت، جماجم، زهور تخترقها السكين. بهذا المعنى فالعناصر التي أشتغل عليها لا تخبئ علاقتها بمصادرها الإنسانية، وبهذا المعنى أيضاً الموضوع السياسي حاضر، ولو بشكل أقرب للمواربة، أو ربما بشكل جمالي.

□ وكيف ترى التعامل مع الفراغ والكتلة؟
■ موضوع الفراغ والكتلة ليس بالجديد، فهو قديم قِدم الفن نفسه، فالفراغ عنصر أساسي مثله مثل العنصر المرسوم، فاللوحة حوار مستمر بين الكتلة والفراغ، وتأخذ الأشكال معانيها المختلفة من خلال كيفية وضعها وترتيبها في فراغات مختلفة بدورها. الأمر يتوقف على موْضَعَة الأشكال، سواء في فراغات واسعة جداً أو ضيقة، ومن خلال دراستي للغرافيك أوليتُ عناية كبيرة لمسألة الفراغ وطريقة وضع الأشياء وترتيبها. وأرى أن الأساس هو كيفية خلق حوار جمالي بين الشكل وخلفيته لا أقل فراغا وبالتالي قدرته في ترك تاثيراً غير مُدرَك للمشاهد وهو يرى اللوحة.

□ وفي الأخير.. كيف ترى الحركة التشكيلية العربية الآن؟
■ أعتقد أن الحركة التشكيلية في كل البلاد العربية ومصر، دون مبالغة، رائدة في ذلك، بداية من تأسيس مدرسة الفنون في 1908، بينما كانت بعد عدّة عقود في بلاد أخرى.. اليوم تواجه الحركة التشكيلية تحدياً غير مسبوق. فنحن مررنا بفترة تكاد تقارب النصف قرن، حيث كان الفنان مهووس بالقبض على تقنيات اللوحة والمثال الموجود في الغرب، إذ من المعروف أنه لا توجد تقاليد قديمة للوحة الحامل عربياً، فكان بحثاً شاقاً عن تقنيات وأصول اللوحة الغربية. وتأتي المرحلة الثانية، والمتمثلة في سؤال الهوية.. مَن نحن تجاه هذا المُنجَز؟ فجاءت تيارات كثيرة، تشمل الفن الشعبي والأساطير الشعبية والفن القديم والزخرفة والخط العربي. وكلها محاولات لإجابات متنوعة حول مسألة الهوية. وأظننا اليوم وقد تجاوزنا هاتين المرحلتين. وأخيراً دخلنا في حقبة أخرى أكثر صعوبة، وهي (سطوة السوق). وأعتقد دون مبالغة أن هذا له أكبر الأثر على الفنانين العرب حالياً ومستقبلاً. فالأسئلة الكبرى والهواجس السياسية والفكرية والجمالية استطاع من خلالها الفنان صياغة تجاربه الفنية في إطار الإجابات على هذه الأسئلة، أما الآن فربما لا يصمد الكثير أمام سطوة السوق، مع العلم أن هذا التحدي موجود في الغرب منذ سنوات طويلة، وكما يوجد فنان خضع لهذه السطوة، سيوجد آخرون يقاومونها.. بالأمس كانت المواجهة مع السلطة هي البوصلة، أما الآن فالمواجهة مع السوق أشد صعوبة.

*القدس العربي