وفاء العلوش: وهم الإعلام الحرّ

0

يتذكر السوريون من أبناء جيل الثمانينات وما قبل، الشارة الأخيرة بعد إغلاق البث التلفزيوني عند الساعة الثانية عشرة في منتصف الليل من كل يوم، والقناتين الأولى والثانية كقناتين رسميتين وحيدتين في سوريا.

فيما يتذكر أجدادنا أنهم لم يكونوا محظوظين للتمتع بتلك النعم وإنما كان البث يتوقف في أيامهم على السادسة مساء، ويعتقد الأسلاف في هذا الصدد أن التقدم الذي حصل في نهاية التسعينات وبداية الألفية الجديدة تقريباً على صعيد انتشار وسائل الإعلام وكثرتها، نعمة ورفاهية لمن عاصروها واستفادوا من إمكانياتها.

تعد كثرة وسائل الإعلام في بلد ما، دليلاً على الحرية وممارسة الديمقراطية في التعبير عن الآراء ووسيلة للانفتاح على الآراء الأخرى.

قد يكون ذلك صحيحاً بشكل نسبي، وذلك من منظور اختلاف شروط الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد، إذ تتغير هذه الفرضية من بلد إلى آخر ومن قضية إلى أخرى، وتحدد معايير الاختلاف وفقاً للسياسات المتبعة في إدارة كل بلد على حدة.

إن تعدد الأحزاب في البلدان التي تنتهج مبدأ التعددية الحزبية، جعل من الضروري أن يكون لكل حزب أو تجمع منبره الخاص ليخاطب جماهيره من خلاله من جهة، أو ليوجه رسالات إلى الأقطاب المنافسة من جهة أخرى.

وفي هذا تمثل إدارة السياسات الإعلامية تحدياً جدياً أمام التجمعات والأحزاب والتنظيمات والدول بشكل عام، فالسياسات الإعلامية أداة أساسية للتواصل والتعبير عن أهداف والسياسات العامة لأي حزب أو تجمع من أجل تشكيل ثقة ومصداقية مع المهتمين، ولهذا يجب أن تتمتع أي وسيلة إعلامية بالشفافية والمصداقية من أجل دعم التواصل الإيجابي مع مؤيدي أفكار وتطلعات هذا الحزب عن غيره.

من غير الممكن القياس على تجربتنا السورية أو محاولة تصنيفها في هذا المجال، لما تتمتع به من خصوصية في مجال حرية الإعلام والتعبير عن الرأي.

إذ لم يكن للمجتمع بمختلف شرائحه تأثيراً سياسياً ولا يحق له الإدلاء برأيه أو حتى رفع صوته للمطالبة بحقوقه الاجتماعية أو الإنسانية أو ما يمكن تسميته بحقوق المواطنة، فقد كانت شريحة واسعة من السوريين تدرك أن انعدام الرأي أفضل من وجوده بسبب تغوّل الدولة البوليسية وتضييق الخناق الذي فرضته آليات الدولة الأمنية الحاكمة، ما دفع كثير من السوريين إلى التنازل عن حقوقهم بشكل طوعي في محاولة تغيير هذه الحالة العامة، الأمر الذي جعل حالة اليأس والتخلي تسود لصالح من يملكون الغلبة في الأصوات المرتفعة والهراوات وأقبية الاعتقال.

لقد عمدت الدول ذات الحزب الواحد إلى بتر حالة الحيوية والحركة والمشاركة واحتكرت منابر التأثير من وسائل إعلام أو قنوات تواصل ثقافية وفكرية وعلمية وحتى فنية، وذلك لكسر حالة النقاش التفاعلي بين الشرائح الاجتماعية حول الأمور السياسية مثل مسائل الترشح للمجالس التشريعية، أو انتقاد طرق التعيين ومنح المناصب في الجهاز الحكومي في الدولة، أو العمل على محاولة تغيير نوعية البرامج التلفزيونية والإذاعية أو محتواها، وجعلت من هذه شؤون أمراً نخبوياً وذا سيادة لا يتدخل العامة من الشعب في تحديده أو حتى انتقاده، لأنه محسوم بشكل مسبق لاعتبارات مختلفة أمنية أو اجتماعية أو سياسية وقد ساعدت بنية المجتمع السوري بشكل أو بآخر بترسيخ هذا النظام عبر عقود.

لم تعد وسائل الإعلام اليوم طفرة تكنولوجية وتقدمية تقدم منتجاً ترفيهياً على مدى ساعات قليلة في نهاية اليوم، لقد أصبحت تهدف إلى مآرب أبعد من ذلك، مثل السعي لحشد أصوات الناخبين وتقديم روايات مختلفة للأحداث السياسية والأخبار العاجلة وفقاً لمنظورها أو هدفها السياسي البعيد أو القريب.

انضمت إليها فيما بعد مواقع التواصل الاجتماعي على اختلافها فاتضحت معالم وجود محتوى محدد وموجه لاستهداف شرائح اجتماعية محددة، تمنح ولاءاتها الفكرية والتنظيمية بناء على اعتبارات مناطقية أو دينية وطائفية، بغية إقناعها ببرامج وإجراءات وروايات سياسية مختلفة عما يرويه الطرف المناوئ.

وفي هذه الحالة لا يمكن اعتبار أن التنوع والانتشار لوسائل الإعلام قد حقق مبتغاه أو لا يمكن الادعاء بامتلاكنا قنوات إعلام حر، طالما أن الهدف المنشود تحقيق مكاسب سلطوية على حساب الصالح العام واحتياجات المواطنين. 

من ناحية نظرية يحق لكل حزب أو تجمع سياسي امتلاك جهاته الإعلامية الموجهة لمريديه ومخاطبتهم وإيجاد مساحة آمنة بينهما من أجل الحوار التفاعلي، لكن الأمر يصبح مثار شك في حال كانت تلك الجهات مسيسة ولا تنطق بلسان الشعوب، وإنما تتكلم بصوت الطغمة المسيطرة وتستخدم البرامج الإعلامية بهدف أدلجة الرأي العام وتنفيذ أجندات معدة مسبقاً.

ما يحعلنا نشكك بدورها في توجيه الرأي العام لا التعبير عن مطالبه، ويعد هذا أهم المشكلات التتي تعاني منها وسائل الإعلام الرسمية في العالم العربي بشكل عام، إذ تقدم صوتاً واحداً لتجعل من شعوبها قطعاناً تخشى مخالفة القطيع.

لا يقتصر هذا المفهوم على الحياة السياسية فحسب، فالإعلام بوسائله المختلفة يعمل على توجيه وأدلجة العقول وترتيب خيارات الشعوب، وفقاً لأجنداته الخاصة التي قد يرسمها لمنفعة حزب سياسي أو رأس مال معين أو حتى لخدمة قضية دينية مجددة.

فوسائل الإعلام الدينية مثلاً لا تهدف إلى تعزيز القيم الدينية وتوضيح الالتباس في النَّص، بقدر ما تبغي تحقيق مآرب تبشيرية ودعائية، وهي بذلك لا تختلف عن تلك التي تعمل على توجيه الرأي العام نحو قضية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية معينة.

نحن نولد أحراراً، أو ربما نعتقد ذلك، نصبح بعدها مسيرين بفعل عقائدنا وانتماءاتنا وغرائزنا ومندفعين بعيداً عن المنطق.

يحركنا في كثير من الأحيان وهمنا عن حريتنا كأفراد، وثقتنا بمن اعتقدنا أننا اخترناهم ليمثلوننا، ما يجعلنا ننزع إلى تصديقهم، أو ربما يميل الإنسان منا إلى عدم التشكيك بمن منحه أملاً ولو كان صغيراً، لنكتشف مع الوقت ومن خلال التجربة وتراكم الوعي نكتشف أنهم باعوا لنا أملاً معلباً ومنتهي الصلاحية، في حُلّة عبارات ومانشيتات جاهزة وبرامج أدلجة مخصصة لتعبئة الجماهير واستقطابهم من دون أن تشكل أدنى فرق في تحسين سويّة حياة الإنسان.

*تلفزيون سوريا

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here