مراجعة لكتاب ليزا ويدين “هواجس استبدادية”. شيكاغو: مطبعة جامعة شيكاغو، 2019
رهف الدغلي
باحثة ومحاضرة في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة لانكستر. تحمل شهادة دكتوراة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، نشرت أبحاثاً أكاديمية محكمة في مواضيع عدة مثل: علاقة الدين بالدولة، القومية، صعود الدولة في مرحلة ما بعد الاستعمار وجذور الطائفية في سوريا.
ترجمة ناصر ونوس
ناقد ومترجم
أوراق- العدد10
أوراق الترجمة
أثار كتاب ليزا ويدين الأول “التباسات الهيمنة”[1] اهتمامًا كبيرًا لدى جماهير متنوعة كانت مهتمة بفهم الحكم الاستبدادي لنظام البعث السوري. وفي حين ركز كتاب ويدين ذاك على دور الطقوس العامة والخطاب الرسمي في غرس الهيمنة، فإن أحدث مساهماتها، أي كتاب “هواجس استبدادية” يتخذ مقاربة أكثر ذاتية في دراسة الكيفية التي اختبر فيها عامة السوريين الدعم السياسي، والولاء، والحكم، والشكوك في البلد الذي مزقته الحرب على مدى عقد من الزمن تقريباً. وانطلاقاً من المنظورات المألوفة للطائفية والعسكرة والمحسوبية، والجغرافيا السياسية كأدوات للتحليل، فإن كتاب “هواجس استبدادية” يدعو إلى إعادة النظر في الحرب الأهلية السورية طارحاً السؤال الأساسي: “لماذا لدى بشار الأسد داعمين؟” وكما تلاحظ ويدين، فإن مسألة الدعم السياسي هذه تثير قضايا منهجية ومفاهيمية مهمة، مثل كيف يمكن تمييز الإيمان الأيديولوجي عن الضرورات المادية، وكيف يمكن لباحث ما أن يفترض أن بإمكانه الوصول إلى التجارب الذاتية والتوقعات الحقيقية للسوريين الذين يسعون للبقاء على قيد الحياة في مثل هذه الظروف المشحونة.
إن إجابة ويدين على سؤال الولاء السياسي الذاتي في سوريا هي أن هذا الولاء تم إنتاجه بأيدي “الأوتوقراطية الليبرالية الجديدة”، وهي أيديولوجية يروج لها النظام تؤدي إلى تجارب من التناقض السياسي والخيال الداخلي لمجتمع مستقر ومنظم. ونتيجة لذلك، تقول ويدين، فإن العديد من السوريين يجدون أنفسهم يتبنون موقفًا “محايدًا” أو “رماديًا” للوصول إلى تصور خيالي للنجاح المادي، أو حتى أن يصبحوا موالين متحمسين يدعمون الأسد كشعار للمجتمع الآمن. حتى ذاتية المعارضة، وفقًا لويدين، قد تشكلت إلى حد كبير من خلال أيديولوجية النظام الليبرالية الجديدة، حيث ينظر النشطاء إلى أنفسهم على أنهم معارضون للنظام والاستقرار. وهكذا، تترنح هويات السوريين بين “رغبات الإصلاح وتعلقهم بالنظام” (ص 8)، حيث يتفاعل الأفراد مع الصورة الفاتنة والمستقرة والحديثة للأمة التي قدمها الأسد (ص 27). تركز فصول الكتاب على مجالات مختلفة من التجربة الإنسانية التي تمارس فيها الليبرالية الجديدة تأثيرًا ما: من الانشغال بأساليب الحياة الفاخرة (الفصل الأول)، إلى المتعة والراحة التي توفرها الكوميديا التلفزيونية (الفصل الثاني)، إلى التهديد الذي يشكله التناقض (الفصل الثالث)، إلى تلاعب النظام بعواطف السوريين (الفصل الرابع)، والخوف القلق من الصراع والاختلاف (الفصل الخامس).
إن كتاب “هواجس استبدادية” هو الأكثر إقناعًا في سرده الحي للتفاصيل التجريبية، والتي يبدو أنها تقدم سردًا “داخليًا” للأصوات التي لا يعرفها إلا أولئك الذين هم على دراية وثيقة بالثقافة السورية. وبصفتها عالمة أنثروبولوجيا، فإن التزام ويدين بالجنس البشري (الإثنوغرافي) يشمل الانغماس المكثف في حياة السوريين وتعابيرهم المحلية، بما في ذلك المحادثات اليومية والنكات والأغاني والاحتفالات والمخاوف. ويستمد الكتاب أيضًا قوته من موقعه النظري المفصل فيما يتعلق بآراء لويس ألتوسير، وجوديث بتلر، وملادين دولار، ولورين بيرلانت، من بين علماء غربيين بارزين آخرين.
ومع ذلك، فإن هذا الموقف الفكري والشخصي للمؤلفة هو الذي يقود في النهاية إلى طرح أسئلة حول التسلسل الهرمي بين ويدين كباحثة (خبيرة) والسوريين كموضوعات بحثية. وما وجدته أقل إقناعًا في هذا العمل هو الإحساس باليقين الفكري والتركيز المفرط على العوامل البنيوية في السياق السوري، والتي تجرد السوريين من أرادتهم الخاصة ومسؤوليتهم وقراراتهم السياسية، وفي الواقع، من قدرتهم على التأمل المفاهيمي وفهم الذات. عند مناقشة كيف تتشكل هويات السوريون من جميع الأطياف -الموالون، “الرماديون”، والمعارضة -في ذواتهم من خلال الاستبداد الأيديولوجي الذي لا مفر منه للاستبداد الليبرالي الجديد وخيالاته السلعية عن “الحياة الجيدة” (33-34)، تظهر ويدين الوقوع في فخ الإيحاء بأن القرارات الفردية والتوقعات التي يتبناها السوريون هي أقل مستوى مقارنة بالمنظور المفاهيمي للباحث الغربي الأكثر معرفة.
تصف ويدين مرارًا وتكرارًا الشعب السوري بأنه ممزق بين طموح متخيل نحو أنماط حياة مستقرة ومريحة ومتحضرة وثرية مقابل الاستياء والغضب غير المنظم الذي يسعى إلى تمزيق النظام الليبرالي الجديد ورفض ما فيه من ظلم (10-11، 22-25، 44-46، 79). تقوض هذه الثنائية المتجانسة إلى حد ما تعددية حياة السوريين وهوياتهم وتجاربهم، مما يدل على خطر التفسير المفاهيمي الثقيل. والأكثر إشكالية هو أن تقليص حياة السوريين والتزاماتهم وشغفهم بعبارات مثل “موضوع الإثارة السياسية” (105) يجرّد الأفراد بعمق من قدرتهم على العمل ومن إنسانيتهم. إن إحدى أكثر النتائج إثارة للقلق لهذا النهج هو أن ويدين غالبًا ما تقدم المعارضة السورية على أنها ساذجة سياسياً أو “عديمة الخبرة” لمحاولتها توثيق فظائع النظام، واصفة هذا التوثيق بأنه يولد “الكثير من المعلومات”. تصف المؤلفة هذه المقاومة بأنها ألعوبة حمقاء في يد نظام الأسد، وبالتالي تساعد في دعم سيطرته على السلطة (79)، مما يترك انطباعًا لدى القارئ بأن المعارضة السورية لا تفتقر إلى الفعالية فحسب، بل أيضًا طفولية إلى حد ما ومشاكسة، وموجودة فقط كنتاج ثانوي للبنية الأيديولوجية المتداعية للنظام. حتى الجهود الحثيثة التي تبذلها المعارضة لتوثيق القتل والتعذيب والاعتداء الجنسي على المدنيين على نطاق واسع من قبل النظام، لا توصف بأنها نضال حماسي من أجل حقوق الإنسان، وإنما توصف بأنها غير كفؤة سياسياً وشديدة الارتباك وسط ويلات الخطاب الليبرالي الجديد (79).
في وصف وجهة نظرها حول هذه الأمور، توضح ويدين في مقدمة الكتاب ما يلي: “بصفتي باحثة ذات التزامات بالجنس البشري، أكتب بإحساس عميق بالتضامن مع السوريين من مختلف الأطياف. يشمل هذا التضامن، التضامن من أجل الاختلاف، والحكم، والاندهاش، والغضب، وحتى النفور “(ص xi). يبدو أن هذا “التضامن” الذي لا شكل له ولا سياق له مع السوريين من “مختلف الأطياف” يتجنب الحاجة إلى أي مسؤولية أو التزام من جانب المؤلفة -وهو نوع من الانفصال الزائف الذي له جذور عميقة في التقاليد الأكاديمية الغربية، وهذا له أيضًا تأثير نزع الصفة الإنسانية عن الرعايا السوريين وإنكار الإرادة الأخلاقية[2]. وبينما تميل ويدين نحو إنتاج معرفة “متموضعة” (ص xi)، يبدو أن هذا المفهوم مقدم ليس كميزة يجب تبنيها، ولكن كمبرر لبقاء الباحثة مترفعة أو “لا يطالها النقد”. هذا في نهاية المطاف يعزز التسلسل الهرمي بين موقف الباحث المطلع مقابل مكانة موضوعات الدراسة (السوريين).
بالنسبة إلى باحثة سورية مثلي، فإن قراءة هذا تتركني مع السؤال عن سبب تأكيد ويدين على تضامنها معنا، مع الحفاظ أيضًا على العزلة الأخلاقية وتقييد إرادتنا من خلال التفسير المفروض بلا هوادة[3].
يمكن أيضًا رؤية التسلسلات الهرمية بين منتجي المعرفة وموضوعات الدراسة في اعتماد الكتاب المفرط على الموارد المفاهيمية الغربية. وتقول ويدين إن نهجها “يتعامل مع النظرية والأدلة الإثنوغرافية” (ص12). وبهذا فإن النظرية غربية في الغالب، و”الدليل” سوري بالدرجة الأولى. أسست المؤلفة تفسيرها في الأدبيات المفاهيمية التي من المفترض أنها تشعر بأنها مألوفة أكثر عند الانخراط في حوار هامشي فقط مع الباحثين من أبناء المنطقة والذين يكتبون بلغتهم الأم. على سبيل المثال، كتب الباحث الفلسطيني عزمي بشارة[4] أحد أكثر الكتب عمقاً وتوثيقًا عن الحرب الأهلية السورية. وبينما تم الاستشهاد بعمل بشارة في مقدمة كتاب “هواجس استبدادية” في نقطة ثانوية من التوثيق (في إشارة إلى احتجاز المراهقين من درعا على أنه سبب اندلاع الانتفاضة السورية الأولى)، فإن ويدين لا تبذل أي محاولة أخرى للتعامل مع التحليل التفصيلي الذي ينطوي عليه عمل بشارة المؤلف من 600 صفحة، أو مع أي عمل آخر من أعمال الباحثين البارزين الآخرين من المنطقة[5]. إن الفشل في استخدام كتاب بشارة كمرجع لهو فشل صارخ على نحو خاص، ذلك أن هذا الكتاب يتوسع بتفصيل كبير حول العلاقة المتبادلة بين الليبرالية الجديدة والاستبداد في سوريا[6]، فضلاً عن دور دعاية النظام في تشويش قدرة المواطنين على التمييز بين الحقيقة والخيال[7]. في كتاب ويدين، تم تقديم نفس هذه التفسيرات للصراع السوري كتحليل أصلي قائم (فقط) على مصادر علمية غربية وليس كمعلومات أخذت من كتاب عزمي بشارة. أود أن أزعم أن هناك نوعًا من “سياسة الاستشهاد” يحدث في هذا السياق، حيث يُنظر إلى السوريين على أنهم موضوع الدراسة ولكن ليس كأفراد مشاركين بشكل كامل ومتساوين في مجال الفكر والإرادة.
يقدم كتاب “هواجس استبدادية” تحليلاً قيماً لدور الأيديولوجيا في إشباع مجال القرارات الشخصية والولاءات السياسية في سياق الصراع السوري. فالمؤلفة تهتم بشكل استثنائي في تحديد المصطلحات المركزية، ولا تتحرّج من معالجة القضايا النظرية شديدة التعقيد والخلاف. ومع ذلك، فإن النهج الإثنوغرافي وسردية “وجهة النظر الداخلية” التي تم تبنيها في هذا الكتاب غير كافيين للتغلب على الاتجاه الغربي لتقليص الرعايا السوريين إلى بيادق عاجزة ومحددة هيكليًا، وتهميش الإرادة والأفكار العميقة التي ينتجها الباحثون والمنظرون من أبناء المنطقة والمعروفون جيداً.
[1] ليزا ويدين، غموض السيطرة: السياسة والبلاغة والرموز في سورية المعاصرة (شيكاغو: منشورات جامعة شيكاغو، 1999).
[2] يمكن العثور على سرد مهم لتجارب السوريين حيث ابتعد المؤلف عن الموقع الهرمي لفرض إنتاج المعرفة والتفسير الإيجابي لقرارات السوريين السياسية باعتبارها مجرد “مصادر للمعرفة” لدى ويندي بيرلمان في مؤلفه: “لقد قطعنا الجسر وهو متأرجح” (يو أس: كوستوم هاوس، 2017).
[3] راجع سيسيلي باسبيرج نيومان وإيفير ب. نيومان: “السلطة والثقافة ومنهجية البحث الواقعية: السيرة الذاتية والحقل والنص” (شام ، سويسرا: بالجريف ماكميلان ، 2018) ، 21-22 ، 65-66.
[4] عزمي بشارة: “درب الآلام نحو الحرية؛ محاولات في التاريخ الراهن”. (الدوحة، قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013).
[5] يمكن العثور على مثال آخر، حيث يكون التعامل مع المنظرين من المنطقة هامشيًا، في الصفحة 147. حيث تتعامل ودين مع مفهوم ياسين الحاج صالح لـ “الولاء” ، لكن من الواضح أنه تعامل “بسيط”.
[6] للمثال على ذلك، انظر المرجع السابق ص. ص. 53-55.
[7] انظر مثلاً الصفحات 238-239 من كتاب بشارة.