كان ذاك زمنا حين كان يتم فيه تبادل الرسائل بين شخصين، المُرسِل والمُرسَل إليه، كانت ثمة حياة مرسلة في ورقة مطوية، حياة كاملة وفاعلة، ذات وقائع وأزمنة وتواريخ، ذات بوح ولوعة وصبوات عابرة للحدود تحملها كلمات مُحبّرة، لها صيغ جمالية في طريقة الخط وتشكيلة الحروف تعكس الطبيعة السايكولوجية الفنية لمرسلها.
كان ذلك يحدث قبل أكثر من عقدين، أما اليوم، فالرسائل إلكترونية سريعة، وغير بواحة، كتيمة وخرساء، لا رائحة لها، لا الحبر ولا رائحة الورق، بل نحن أمام آلة صماء ترسل بسرعة البرق كلماتنا المختزلة، دلالة للعصر الذي نحن فيه، عصر التقنيات الحديثة، والأجهزة الذكية التي ترسل لك قلباً، وباقة ورد، وبسمة، ودمعاً إلكترونياً بدون لمسه، وتحسسه، وشم رائحته لحظة وصول الرسالة المرسلة، عبر جهاز الهاتف الذكي والمتطور تقنياً، حسب تطوّرات العقل الحديث، المغرق بتفاصيل الميديا الحديثة.
مناسبة هذا الكلام هو صدور رسائل الروائي التشيكي الشهير فرانز كافكا، المولود في براغ عاصمة الجيك، الذي كتب رواياته بالألمانية، وعُرف بولعه بعالم التحوّلات الغامضة والكابوسية، وأشهر كتبه عربياً “المسخ” و “القصر” و”المحاكمة”، حيث أثر في غالبية الكتاب العالميين، وأصبح رمزاَ للكتابة الكابوسية، ولا سيما بعد خوض العالم حربين عالميتين، وبعد نشوء المحارق النازية، وتحوّل الإنسان إلى آلة تعمل ليل نهار، وما “المسخ” أو “التحوُّل” أو “الصرصار” إلا نتاج تلك العوامل الصعبة، والتحوّلات الدراماتيكية، والوقائع التراجيدية، والمظالم الكبرى التي حصلت في العالم.
لعل كتاب “رسائل إلى ميلينا” الذي ضمّ رسائل كافكا في تلك الأعوام التي حملت أجواء نهايات الحرب العالمية الأولى، هي خير كاشف لمأسوية ذلك الزمن وصعابه، وخير هادٍ للتحوّلات النفسية والسايكوباثية التي مرّ بها كافكا، وهو يعاني من أزمته الصحية، تلك التي تمثلت بمرض السل الذي كان شائعاً حينها، وليس له من علاج شاف، غير الأمكنة النقية، والجبال، والطبيعة التي ربما قد تساعد في تخفيف عبء المرض، أو التقليل من المعاناة اليومية، والشائكة لهذا الداء الذي حصد الملايين في تلك الأزمنة العابرة.
من هنا يتبدى لنا عالم كافكا الحقيقي، عالم الألم والأرق والسهر المتواصل، حيث انعدام الراحة، وغياب النوم وفقدان الشهية للطعام، حيث نزيف دائم للدم من الصدر، مصحوباً بنوبات سعال شبه قاتلة.
وهنا سنرى ذلك الانعكاس الجلي لتلك العوالم، والأوقات، وللحظات المرة التي مرّ بها كافكا، وهو يعاني قلق الكتابة، وقلق الحياة، كونه يهودياً شبه منبوذ، في عالم لم يكن ليتقبّلهم بسهولة، حسب أوضاع تلك الأزمنة، بالرغم من هيمنتهم بالتدريج على عالم المال والدعاية والاقتصاد العالمي، كل ذلك سنراه في رسائله إلى ميلينا المسيحية، التي كانت قد سألته أكثر من مرة “هل أنت يهودي؟ وهي ثيمة لا تزال سائدة في عالمنا العربي الآن، بعد مضي مئة عام عليها، إن كان بطريقة إثنية أو مذهبية، من أجل أن تتعمق الهوة أكثر بين سكان بلد عربي معين.
تكشف الرسائل بين ميلينا وكافكا عمق العلاقة بينهما، فهي فتاة ألمانية متمرّدة، ومترجمة بعض كتبه إلى التشيكية، أحبّها كافكا حباً جمّاً، رغم تمرّدها العارم، ونزواتها الكثيرة، ومليها إلى تعدّد صداقاتها الرجالية، وبذخها في صرف المال على السهرات، والشراب، وشراء الملابس غالية الثمن، حيث كان والدها يغدق عليها الكثير من المال، ولكنها كانت تبعثره هنا وهناك، حتى مالت إلى أقربائها في طلب المال ثم من صديقاتها ومن ثَمّ من كافكا الذي كان يرسل لها المال دائماً، في رسائله العديدة التي لم تكن لتتوقف يوماً، بل كانت هناك أحياناً أكثر من رسالتين في اليوم الواحد، وهذه الرسائل تكشف مدى تعلق كافكا بها، رغم أنها كانت متزوجة حينذاك، ولكنها كانت تتحدى ذلك الزواج، فتخرج عن مراسم العائلة، بكتابة رسائل غرامية حارقة إلى كافكا، جلها أحرق أثناء حياته وربما بطلب منها، واختفى بعضها أثناء حياته القصيرة المنتهية وهو شاب في سن الأربعين، ولكنه أعطى إبداعياً أكثر من هذه السن القصيرة، إذ خلق من خلال كتاباته أسلوباً مختلفاً، وجديداً، واجترح تياراً تعبيرياً لا يضاهى، سار عليه كتاب عالميون معروفون، متمثلين ثيماته في قصصه أو رواياته، في استيحائهم لعوالمه النادرة والمتسمة بخيال مثير، تلك العوالم الغارقة في تيار الغموض الوجودي، مما خلقت منه أيقونة إبداعية عالمية، قلّ نظيرها في عالم الكتابة الجادة والحقيقية.
توضح الرسائل أيضاً شغف كافكا بميلينا، متغزلاً بأنوثتها وحتى باسمها، ناعتاً إياه بأنه اسم يوناني ـ أسطوري، وكذلك تسلط الضوء العميق إلى دواخله، المغلقة عادة تجاه الآخر، فنراه خفيف الروح، مرحاً، رغم سوداويته وتجهّمه وعدم اختلاطه مع الآخرين، في عالم العمل أو في الحياة العامة إلا فيما ندر، كعلاقته مع عمه وأخته وزوجها، ومع صديقه الأزلي ماكس برود، هذا الشخص الذي أوصل كافكا إلى العالم، حين عمد إلى نشر كتبه، مخالفاً بذلك وصيته بإحراقها بعد موته وعدم نشر حرف من أعماله الروائية، وكتاباته الإبداعية، وقصصه البارعة، والاستثنائية من ناحية الصنيع الفني، والإجادة في العمل الكتابي.
في ظل هذه الحيثيات، نرى بين سطور رسائل كافكا ذلك الدفق الكلامي من الحب، والوله، والشغف بميلينا، كان يهمسها دائماً بالخلوة، والوحدة فيما بينهما، ويهمسها بالتدلّه والمناغاة كأنها طفلته البعيدة، رسائل كانت حسب قوله هو الذي عاف الطعام، هي الغذاء الحقيقي له، وكان اليوم الذي لا يحمل رسالة منها، يراه كئيباً وعابساً وخالياً من البهجة والحب والجمال الروحي.
كانت الرسائل تحمل طابع الحشمة والعذرية والاحترام إلى حد ما، عكس ما كانت تكتب ميلينا من كلمات موحية تحمل طابعاً مغايراً لما كان يكتبه، لكن تلك الرسائل الدامية شوقاً وحرقة وغزلاً أحرقت، ولم يستطع أحد سوى ماكس برود العلم بها، كونها كانت تحمل ما تحمل في طياتها من تعابير، ودله، ومناجاة للعشيق الغائب، والبعيد فرانز كافكا.
كان ماكس برود صديق الاثنين، وهو أخلص شخص حتى من ميلينا لكافكا، فهي كانت ذات نزوات وأهواء ومقابسات غرامية مع هذا وذاك من الرجال، كانت مترجمة، وتعمل في عالم الصحافة، وفي عالم الدعاية والأزياء أيضاً، هذا فضلاً عن جاذبيتها التي مثلها كافكا في أحد تعابيره المرسلة بـ “شعلة النار العارمة”.
تزوجتْ ميلينا مرّتين، والدها كانت له علاقات نسائية متعدّدة، ربما هي ورثت هذه الخصلة عنه، أما كافكا فلقد خطب مرّتين، ولكن لم يتم الزواج من إحداهما بسبب مرضه، وقلقه وتقلب مزاجه، وسوداويته العميقة والمزمنة.
كان بدء العلاقة التي وضَح مدى عمقها بينهما، يوم ترجمتها لكتابه “الفحّام” إلى التشيكية، تلك الترجمة كانت فاتحة للعلاقة بين الاثنين.
درستْ ميلينا في أرقى الجامعات الأجنبية، والدها كان جرّاح أسنان معروفاً، وبروفيسوراً، وخطيباً معادياً للسامية، قاسياً نوعاً ما، وغير صبور، عكس أمها الحنون التي ماتت بفقر الدم، يوم كانت ميلينا في الثالثة عشرة من عمرها.
في الطبعة الأولى لكتاب “رسائل إلى ميلينا” وصفها الناشر ويلي هاس في شبابها بالتالي: “كان يخيل لمرافقيها، وكأنها امرأة نبيلة من القرن السادس عشر، أو السابع عشر، تضفي على اللحظة طابعاً إيطالياً قديماً، وكأنها تعيش في رواية قديمة مع دوق جسور مقدام، ذكي، لكن طبيعتها المتهورة، كانت تطفو عندما يسوقها قلبها … ولطالما هذا ما حدث في شبابها، كانت غامضة وطيبة إلى حد الخيال، تأسر القلوب بغموض عجيب”.
كانت ميلينا أيضاً مصابة بمرض رئوي، وتعاني من مشاكل صحية في صدرها، ومن تعب وكلال وتشوه في قدميها بعد ولادة ابنتها الثانية، وذلك ظل مثل عاهة لازمتها حتى أواخر حياتها، وربما كان حتى المرض جامعاً لكليهما، من حيث مواساة بعضهما من خلال الرسائل الكثيرة، والمتواترة يوماً بعد آخر.
في إحدى الرسائل يقول:
“أرغب في إرسال الرسالة لك الآن، سأرسل التعديلات غداً، فهي تغييرات قليلة، فما زالت ترجمتك تحوز على إعجابي مرة تلو الأخرى، والذي يعني لي الكثير، فلا أجد أي التباس يذكر، وحتى لو وجد فإن ذلك سيكون بموضع القوّة، ولن يكون مهماً، لا أعلم أن كان التشيكيون يلومونك على إخلاصك، فهو أجمل ما في ترجمتك، وليس لذلك علاقة بترجمة القصة، وإنما إخلاصك لي أنا”.
*المصدر: القدس العربي