نزار غالب فليحان: شلّال حِمص

0

المدينة التي لا تغرقُكَ مفرداتها كيانٌ أَجْدَبَ، فضاءٌ شَحَّ، وجهٌ زافَ و حادَتْ ملامحُه، قصيدةٌ أفقيةُ المعنى لا تدهشُ ولا تتركُ أثراً .

المدينة التي لا تُلِحُّ ذاكرتُك على استحضار أزقَّتِها وصخبِ باعتِها وروائحِ زواياها ووجوهِ رموزِها وعاشقيها قيمةٌ للنسيان غيرُ جديرة بالحب .

المدينة التي لا تشغلُكَ كعاشقةٍ مجنونةٍ ولا تشاغبُكَ كطفلٍ شقيٍّ ولا تسكنُكَ كعلَّةٍ لا شفاءَ منها غريبةٌ كعابرِ سبيلٍ طارئةٌ كسحابةِ صيف .

حمص المدهشة الدافئة احتضنت رموزها كحبيبة … كأم … كشجرة، بسطاء ليس في جيوبهم إلا الحب، بضاعتهم إسعاد الآخرين، أدواتهم كلمة ولحن ولون وابتسامة، لم تبرح صورهم المخيلة، ولم يمح الزمن بصماتهم وضحكاتهم وخربشاتهم، ولم يقوض العسف والدمار مساكنهم في القلوب .

“زيكو الكرامة” تعويذة الفوز وأجمل مشجعي النادي وأكثرهم وفاءً لم يغب عن مباريات النادي العريق، يدخل الملعب مع اللاعبين يصافح حكام المباراة ثم يلتقط الصور التذكارية ويعطي شارة البدء، لم تقف متلازمة داون حائلاً بين “راكان الأخوان” – وهو اسمه الحقيقي – و بين عشقه لكرامته .

“محمد عبد الكريم” الغجري الجميل، جاب العالم بآلته الخشبية الصغيرة سفيراً لمفردة إبداع بسيطة صيَّرها أسطورة ستبقى علامة فارقة ومنارة لأجيال تعشق الموسيقى، بقامته القصيرة وحدبته وقبعته انتزع إمارة البزق والقلوب لا ينازعه عليها أحد .

أمكنة لا تغيب عن الذاكرة تطل عليك كلما قيل “حمص”، قلعتها، أبوابها السبعة، كنيسة أم الزنار، مسجد خالد ابن الوليد، العاصي، ساقية الري، بحيرة قطينة، شارع الدَّبلان، الغوطة، حلويات الناطور وأبو اللبن وسلورة، سوق الحشيش، السوق المقبي، مقصف ديك الجن، شريان حمص شارع القوتلي بين ساعة “كرجية حداد” والساعة العتيقة وضحكة شرطي المرور ذي الشاربين العريضين، وسينما الحمراء وأوبرا وحمص والفردوس والحرية .

والشَّلَّال …

تعددت مدارس السباحة في حمص، من بحيرة قطينة إلى نهر العاصي إلى ساقية الري، لكنك إلى الجهة اليسرى من طريق حماه، على الكتف الشرقي للمنطقة الصناعية، ستلمح صبية عراة وآخرين شبه عراة تلتمع أجسادهم تحت أشعة الشمس كقطع ذهبية، ستسمع صيحاتهم التي قد تلهيك عن أصوات الآلات والسيارات، هناك ستقع عيناك على ساقية فرعية صغيرة جُعِلَ لها سقفٌ اسمنتي فانبثقت على هيئة شَلَّال لا يرتفع أكثر من متر ونصف المتر يصب في حوض صغير يتسع لسباحَيْن أو ثلاثة فقط .

مرتادو الشلال فقراء لا يملكون سوى قوت يومهم، ليس ثمة فائض في جيوب أهليهم يمكنهم من ارتياد المسابح، لكن لديهم فائض حياة وشغف مغامرة وجموح رغبة .

أن تكون صبياً يقف عارياً على سقف الشلال أمر عادي ومألوف، وقد يستر “عورتك” سروال مترهل الأطراف تراخت دِكَّتُهُ كالغربال كثرت ثقوبه، الماء يسقط بقوة يصنع رغوة بيضاء في الحوض ثم يتابع جريانه نحو بساتين القطن والشوندر السكري، نقفز في البركة، نحاول أن نبقى أطول زمن في جوفها في تحد تسبب غير مرة في ابتلاعنا المزيد من ماء الشلال المعزز ببولنا، كنا نبول في الشلال ليس لعدم توفر مراحيض فحسب بل لأننا لم نكن نرغب بإضاعة بضع دقائق في أمر تافه كهذا خارج الماء، نظل نغطس ثم نصعد كل مرة متلهفين لاستنشاق الحياة من جديد، نعيدها مرات و مرات حتى يقرصنا الجوع أو تميل الشمس نحو الغروب فنغوص آخر مرة، رأيت أحد الصبية صدفة يستغرق في وقوفه فوق سطح الشلال قبل قفزته الأخيرة يرفع ذراعيه عالياً ويفرد سبابتيه ثم يطلق الشهادتين، صرت أفعلها جاهلاً المغزى الكامن خلفها، عرفت فيما بعد أنها طقس ما قبل الموت كبشارة خير مستحبة بدخول الجنة، كلنا على مختلف أدياننا وقومياتنا كنا وفي بركة ماء واحدة نطلق الشهادتين دون مُلَقِّنٍ يُذَكِّرُنا بها لنُبَشَّرَ بالجنة، ودون نية مسبقة تَعَمَّدْنا جميعاً في فَسْقِيَّةٍ واحدة “جرن واحد” بلا عَرَّابٍ يرعى معمودياتنا، وربما تَعَمَّدْنا جميعاً باسم الأب والابن والروح القدس دون وصايا من أحد ودون أن نعلم أن الرب كافأنا وسيكون معنا كل الأيام إلى انقضاء الدهر .

خاص بالموقع

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here