يظهر مفهوم العدالة مرتبطا بمفاهيم أخرى كالحق، والحرية والمساواة إلى غير ذلك من المفاهيم؛ مما يؤدي إلى التساؤل حول أهمية العدالة وحضورها في المجتمع وارتباطها بحقوق الإنسان وبالأخلاق… ومن ثم تطرح التساؤلات التالية نفسها : هل هناك فعلا عدالة ؟ أم أن العدالة مجرد مثال يصعب تحقيقه والوصول إليه ؟ هل العدالة قيمة مطلقة أم نسبية ؟ وأخيرا ما هو البعد الأخلاقي للعدالة باعتبارها قيمة؟ كان السفسطائيون من أوائل الذين عالجوا إشكالية العدالة؛ وقد كانت قناعاتهم الفلسفية تقوم على اعتبارات ترتبط بالشك المذهبي ، فكانوا يعدون الفرد مقياس كل شيء. وعلى هذا الأساس اعتقد السفسطائيون أن العدالة غير موجودة أو على الأرجح، إنها مفهوم غامض وقيمة لا يؤمن بها إلا الضعفاء. وقد أتت الأطروحة الأفلاطونية لتدحض الفكر السفسطائي، حيث أكد أفلاطون أن العبيد واهمون حينما يعتقدون في المساواة، لأن العدالة لا يمكنها أن تكون كذلك أبدا لأن الناس خلقوا غير متساوين بطبعهم (أسطورة المعادن). ومن ثم، فإن العدالة تتجسد عمليا في المجتمع إذا انصرف كل واحد إلى ما هو مؤهل له بطبعه. فيجب أن يكون التقسيم الطبقي للمجتمع، متطابقا مع تقسيم قوى النفس (القوة الشهوانية، والقوة الغضبية، والقوة العاقلة). والحكمة تقتضي أن تخضع القوتان الشهوانية والغضبية إلى القوة العاقلة، لتصل القوة الشهوانية إلى فضيلتها التي تتجلى في العفة والاعتدال .إن قيمة العدالة هي التي توجه قوى النفس وتضمن تراتبيتها باعتبارها فضيلة الفضائل. وعلى غرار النفس، يضم المجتمع ثلاث طبقات (علاوة على طبقة العبيد)، وهي : طبقة العامة، وطبقة الجند، وطبقة الحكام، وهم الفلاسفة الذين عليهم الانصراف إلى إدراك العدالة كقيمة عليا ترتبط بعالم المثل.. أما أرسطو فقد رأى أن العدالة تتمثل نظريا في الوسط الذهبي (لا إفراط ولا تفريط) الذي يستطيع وحده أن يضمن الفضيلة. وعلى هذا تتأسس العدالة العملية، التي تتجلى في توزيع الثروات بين الأفراد بطريقة رياضية تناسبية (بمعنى أن العدالة تقتضي أن يتقاسم الأفراد بينهم بطريقة عادلة الصالح والطالح)، كما تتجلى في سن قوانين كفيلة بضمان الأمن والسكينة والإنصاف لسكان المدينة . وقد خرج مفهوم العدالة من الإطار الميتافزيقي، مع الفلسفة السياسية التي دشنتها فلسفة الأنوار، حيث نجد الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم D. Hume يربط العدالة بالرفاهية التي يجب تحقيقها للفرد بوصفه مستهلكا مما سيؤدي إلى احترام القوانين والالتزام بها. وهذا لن يتحقق إلا بضمان الحرية الفردية . ويعتقد مونتسكيو Montesquieu أنه لا يمكن ضمان العدالة الفردية إلا بفصل السلطات الثلاث [التشريعية، والتنفيذية، والقضائية] . أما كانط Kant فهو يحاول أن يؤطّر العدالة في إطار معياري أخلاقي. لأن العدالة ـ في نظره ـ قيمة أخلاقية ترتبط بثلاثة معايير أخلاقية هي : الحرية، والكرامة، والواجب. فالإنسان موجود حر يملك كرامة تفوق كل سعر، ويعمل كذلك بمقتضى الواجب الأخلاقي الذي يتطلب من الفرد أن يعمل كما لو كان مثالاً لغيره من الأفراد، وأن يسلك كما لو كان مشرعا ، فلا يمكن للعدالة أن تتجسد إلا من خلال إعمال عقل أخلاقي عملي، يسمو به الإنسان فوق كينونته الطبيعية. مقابل ذلك نجد نيتشه يشك في إمكانية وجود عدالة. حيث يعتقد أن منطق القوة وحده يؤطر السلوك البشري، فإرادة القوة تفترض هيمنة أخلاق القوة (أخلاق السادة). أما المساواة والحرية ..، فهي من شيم الضعفاء . أما الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو M. Foucault ، فيعتقد أن العدالة ليست قيمة أخلاقية، لأنه يغلب عليها الطابع المؤسساتي: فالمجتمع يعمل من خلال مؤسسات تعمل بطريقة سلطوية، تقوم بنشر مفهوم معين للعدالة، وتسهر على احترامه وتنفيذه، ولا تطلب من الفرد إلا أن يكون خاضعا له. من ذلك يتضح أن الأفكار توزعت بين من يؤمن إيمانا قطعيا بالعدالة ومن يشك في وجودها دون أن يعني ذلك أن هناك إجماع حول تمثل العدالة بصورة واحدة. وإذا راجعنا المعاجم العربية نجد أن العدل ضد الجور، وما قام في النفوس أنه مستقيم. وعادل الشيء: وازنه. والعدل: الاستقامة. والعدل: الفريضة. وكل ما تناسب فقد اعتدل. والاعتدال: توسط حال بين حالين في كم أو كيف. والعدل بين الناس في الحكم ما هو إلا جزء من أجزاء العدل. وقد وردت مفردة العدل في القرآن الكريم في مواضع كثيرة:- (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما) سورة النساء- 105. يفسرالإمام الطبري الآية بقوله: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق) يقول تعالى لنبيه: إنا أنزلنا إليك يا محمد الكتاب، يعني بالكتاب: القرآن (بالحق) يعني بالعدل؛ يقول: أنزلنا إليك هذا القرآن يأمر بالحق والعدل، ومن ذلك الحق والعدل أن تعبد الله مخلصا له الدين، لأن الدين له لا للأوثان التي لا تملك ضرا ولا نفعا”. أيضاً:- (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) سورة المائدة- 8. قال الإمام ابن كثير: “(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط) الآية، يأمر تعالى بالعدل في الفعال والمقال على القريب والبعيد، والله تعالى يأمر بالعدل لكل أحد، في كل وقت، وفي كل حال”. أيضاً- (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون) سورة الأنعام- 152. – (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) سورة النحل- 90. قال الإمام البخاري: “(بالعدل) بإعطاء كل ذي حق حقه، ومعاقبة المسيء بمثل إساءته”. – (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) سورة الحديد- 25 وما يلفت الانتباه في هذه الآية الكريمة هو أن الله تعالى كما أرسل الرسل لهداية العالمين فقد أنزل العدل كذلك مع رسله عليهم السلام، فكانت قيمة العدل موازنة لقيمة الرسالة والهداية. هذه النصوص تؤكد أن العدل يشمل جميع مناحي الحياة، وهو يسير جنبا إلى جنب مع واجب الرسل وورثتهم في دعوة الناس وهدايتهم. كما وردت أحاديث عن العدل في السنّة :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم. قال الإمام ابن الجوزي: “الظلم يشتمل على معصيتين: أخذ مال الغير بغير حق، ومبارزة الرب بالمخالفة”.
وقال الإمام الصنعاني: “ويشمل الظلم جميع أنواعه سواء كان في نفس أو مال أو عرض، في حق مؤمن أو كافر أو فاسق”. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر قال: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال: (أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟)، قال: لا، قال: (فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)، قال: فرجع فرد عطيته. رواه البخاري ومسلم.
والعدل شكلان:
* عدل فردي: وهو يشمل جميع ما يرتبط بالفرد، بأن يعدل في جسده وروحه، وعقله وفكره، وعمله ونشاطه، وأخذه وعطائه، ونحو ذلك من الأمور التي تخص الفرد في هذه الحياة، بحيث يظهر التوازن النفسي لدى الفرد، فيحفظ نفسه وعقله، ولا يضرهما بأي شكل أو هيئة. * عدل جماعي: وهو ما يرعى حقوق الآخرين، وما يجب نحوهم من احترام وتقدير، فيعتدل الفرد في أخذ ما له من حقوق، وأداء ما عليه من واجبات، في كل شيء؛ في الحكم والقضاء، في القول والفعل، في الأخذ والعطاء، في البيع والشراء، في الشهادة والأمانة، في البيت وخارجه، في الاختيار وتولية المناصب والأعمال، في كل شيء. وعموماً فإن العدل مفهوم شامل، يشمل الحياة البشرية كلها، بكل من فيها وما فيها، يعم الإنسان والحيوان وسائر الكائنات والأكوان: ( لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما)، (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) سورة النساء- 3، وقوله سبحانه: (فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) سورة الحجرات- 9، وغيرها كثير. والخطاب للعقلاء، فكل عاقل مطالب بإقامة العدل في حياته، مع غيره، حتى لو كان عدوه وخصمه. وأما شموله الحيوان فالإنسان مأمور بعدم ظلمه أو إيذائه، قال عليه الصلاة والسلام: (عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) .ونجد في تراثنا العربي أقوالاً كثيرة فيالعدل: قال الإمام الماوردي في كتابه “أدب الوزير”: “لا يختص العدل بالأموال دون الأقوال والأفعال. فعدلك بالأموال أن تؤخذ بحقها، وتدفع إلى مستحقها، وعدلك في الأقوال ألا تخاطب الفاضل بخطاب المفضول، ولا العالم بخطاب المجهول، وتقف في الحمد والذم على حسب الإحسان والإساءة، ليكون إرغابك وإرهابك على وفق أسبابها، من غير إسراف ولا تقتير. وعدلك في الأفعال أن لا تعاقب إلا على ذنب، ولا تعفو إلا عن إنابة، ولا يبعثك السخط على اطراح المحاسن. – ويقول ابن تيمية في كتابه “الحسبة في الإسلام”: “أمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام”. – ويقول سيد قطب في ظلاله على قول الله تعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) سورة النساء- 58: “فأما الحكم بالعدل “بين الناس” فالنص يطلقه هكذا عدلا شاملا “بين الناس” جميعا، لا عدلا بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب، ولا عدلا مع أهل الكتاب دون سائر الناس، وإنما حق لكل إنسان بوصفه “إنسانا”. وقد كان الرومان يمثلون العدل بامرأة معصوبة العينين ممسكة ميزانا ذا كفتين بإحدى يديها و سيفا باليد الأخرى ويرمزون بعصب عينيها إلى أن العادل ينبغي أن يعمى عن الاعتبارات التي تجعله يتحّيز من غير حق كغنى و جاه ، وبالميزان إلى انه يحب أن يزن لكل إنسان حقه بالقسط، وبالسيف إلى أن يلجأ إلى القوة في تحقيق العدل عند الحاجة إليها ؟.
العدل مرجعه محاسبة كل إنسان على أعماله
وفي الفكر الإسلامي تساءل المفكرون :هل الإنسان مخير أم مسير؟ ووجد بعضهم في القرآن آيات تقول بالجبر كما وجد آخرون فيه آيات تدل على حرية الإنسان ..ومن هنا نشأت (القدرية) التي تنفي القدر وتقول بقدرة الإنسان على خلق أعماله، على عكس الجهمية (جهم بن صفوان) التي يقول أصحابها بان الإنسان لا قدرة له على خلق أفعاله .
ويرى المعتزلة أن العبد حر وانه يختار أفعاله ، وأُطلق عليهم اسم (اهل العدل والتوحيد)ورأوا أن الله لا يظلم عباده وإنما يثيب أو يجازى الإنسانِ على أعماله التي يقوم بها مختارا ،ولو لم تكن للعبد قدرة وحرية لما كان من الممكن فهم التكاليف والأوامر و النواهي ، ولا كان للثواب والعقاب من معنى .
في الإسلام نجد العدل يتصدر القيم الثابتة التي يدعو إليها الدين ، فهو المقصد الأساسي للشريعة . ونجد العدل اسماً من أسماء الله الحسنى وصفة من صفاته . والعدل في الإسلام ضد الظلم ويعني إعطاء كل إنسان ما له من حق وأخذ ما عليه من واجبات .
حتى إذا أشرك الإنسان بالله سُمّي ذلك ظلماً ( إنّ الشرك لظلم عظيم ) .فالأمر لايقتصر على أن يظلم الإنسان أخاه الإنسان، فقد يظلم الإنسان فكرة أو إنساناً آخر أو نفسه .
العدل في الإسلام فريضة واجبة لا يمكن التنازل عنها أو التفريط فيها ( وأُمرت لأعدل بينكم) (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) .
والعدالة بحسب الشريعة تعني الاستقامة على طريق الحق ، وتدل اجتماعياً على احترام حقوق الآخرين والتقيد بالصالح العام . وقد جعل الفلاسفة أساسها المساواة لتعني من جهة عدالة توزيع الأموال على قدر الاستحقاق ومن جهة أخرى تعني تبادل المنافع مساويا في المعاملات. فتنتظم بها العلاقات بين الأفراد ([1]).
أما الايديولوجيا السياسية العثمانية فقد كانت تعد عدالة الحاكم أمراً منتهياً ولا يحتاج إلى نقاش. واقتصر معنى العدالة لديها على الفصل في الخصومات . لكن مفهومها عند المفكر النهضوي العربي اتخذ منحى مختلفاً نتيجة عاملين حاسمين هما ممارسة السلطة العثمانية الاستبداد ، والإطلاع على منجزات أوروبا الغربية الفكرية في هذا المجال . فقد فهم أن العدالة هي واجب على الحاكم تجاه مواطنيه . كما أنها تعني منع الظلم الفردي والاجتماعي والاقتصادي ليتم حفظ الأموال والثمرات والنفوس . ومن هنا يتضح سبب رفضه أن تتدخل ذريعة لشل الحركة الاقتصادية وممارسة الطغيان والاستغلال الحكومي .
إن القرن التاسع عشر فترة مهمّة في تاريخ الفكر العربي، فحينذاك بدأ تشكّل الأفكار الحديثة وعلمنة الفكر – ولم يكد يبلغ القرن منتصفه حتّى بزغت أفكار الحرية والعدالة والمساواة في أذهان المفكّرين العرب كطرح مضاد لما كانوا يعانونه من اضطهاد. وكان مطلب الإصلاح ليتمكّن الإنسان من الحصول على حقوقه، ومن ثمّ يتسنّى له القيام بواجباته، من المشاغل الرئيسة للفئة المثقّفة آنذاك.
ورأى معظم المفكّرين آنذاك أنّ الإسلام الصحيح هو ماتميّز به أسلافنا على العالمين، فأحكام القرآن وما ثبت من السنّة وما اجتمعت عليه الأمّة في الصدر الأوّل، لا يوجد فيها ما يأباه عقل أو يناقضه تحقيق علمي”. ومن أهمّ قواعد ديننا الالتزام بهذه الأحكام ليتم لنا السير على منهج الإسلام القويم الذي يترك للإنسان حرّيّة التصرّف في حياته مادام يتصرّف فيها ضمن قواعد الدين العامّة. ” ومن قواعد ديننا كذلك: أن نكون مختارين في باقي شؤوننا الحيويّة، نتصرّف فيها كما نشاء، مع رعاية القواعد العمومية التي شرعها أو ندب إليها (الرسول)، وتقتضيها الحكمة أو الفضيلة، كعدم الإضرار بالنفس أو الغير، والرأفة على الضعيف، والسعي وراء العلم النافع، والكسب بتبادل الأعمال، والاعتدال في الأمور، والإنصاف في المعاملات، والعدل في الحكم، والوفاء بالعهد” . هكذا تتّحد أفكار المساواة والحرية والعدالة والشورى عند الكواكبي في تعبير واحد هو الإسلامية، التي يراها تطالب بالمنفعة العامة للناس أجمعين، وهذه المنفعة لاتتم للإنسان إلاّ بالاشتراك العمومي بن الناس، حيث يقوم كلّ فرد بعمل مفيد للمجتمع. وذلك لأنّ طبيعة الكون تقتضي الاشتراك لتتم للناس المنفعة. وهذا الاشتراك موجود في الإسلام فقد “أحدث الإسلام سنّة الاشتراك على أتمّ نظام”(4)، ولم يكتفِ الإسلام بذلك، وإنّما رسم الطريق العامّة لخير الإنسان، فالمساواة التي تطلبها الآن جمعيات كثيرة في الغرب، وتريد بها تحقيق التقارب بن الناس، وضمان عدالة توزيع الأعمال والثمرات، قد ” قرّرتها الإسلاميّة ديناً “، “بوسيلة أنواع الزكاة والكفّارات” ، وشهدنا ثمرات اتّباع الإسلامية، بما جاءنا عن تراث الخلفاء الراشدين، الذين اتّبعوا “القرآن الكريم” وحقّقوا مقررات الإسلاميّة “فأنشؤوا حكومة قضت بالتساوي حتّى بينهم أنفسهم وبين فقراء الأمّة في نعيم الحياة وشظفها “، فالناس كلّهم سواسية لافرق بين حاكم ومواطن من حيث الولاء، لأنّ ولاءهم كلّهم لله وحده من جهة، وهم جميعهم أولياء بعض، تحقيقاً لما تتطلّبه الإسلاميّة التي عتقت الناس من وهم عبادة غير الله، وجعلت الناس متساوين في العبودية له، ومن حقّهم أن تساووا جميعاً في الحصول على حقوقهم كلّها، بما في ذلك حقّ العلم للجميع. إنّ تساوي الناس، بما في ذلك تساوي المواطن بالحاكم، يحتاج حتّى يتحقّق إلى إعادة الدين، في ذهن المسلمين، إلى أصوله الصحيحة الأولى حتّى يتمّ احتكام الجميع إلى الإسلام الذي ” جاء محكِماً لقواعد الحرية السياسيّة “
ومن ناحية العدالة الماليّة فإنّ الإسلاميّة “وضعت للبشر قانوناً مؤسَّساً على قاعدة أنّ المال هو قمة الأعمال ولا يجتمع في يد الأغنياء إلاّ بأنواع من الغلبة والخداع” (13)، فلا يمكن لإنسان أن يحوز المال من غير عمل، وحتّى لو عمل، فإنّه جب ألاّ يأخذ إلاّ مايوازي قيمة عمله، كما أنّه لايجوز أن يُكدَّس المال في أيدي القلّة من عمل، مهما يكن نوعه، لأنّ المال، في حقيقة الأمر، لايمكن أن يُجمع إلاّ بالغش والاحتيال. هكذا يطالب الكواكبي بالكسب المشروع الذي يكون في مقابل عمل، ويحصر أسباب الرزق في استخراج المواد وتهيئتها وتوزيعها، أيّ في الزراعة والصناعة والتجارة. ويرى أنّ على الحكومات ألاّ تسمح بتجاوز مقدارٍ من الكسب والملكيّة، تستبد بهما طبقة وتفتقر إليهما أخرى فيشقى الناس بسيطرة الأغنياء. وفي العلاقات المتبادلة بين الناس لاينبغي السماح بتمتّع بعض الناس بخيرات الحياة بينما يكدح الآخرون ويعانون فقط.
ويرى الكواكبي أنّ هذه الأصول – مع بعض التعديل – قرّرتها الإسلامية ديناً، وذلك أنّها قررت أنواع العشور والزكاة وقسمتها على المصارف العامة والمحتاجين، وهذا يقارب بين الفقراء والأغنياء، ويمنع تراكم الثروات في أيدي بعض الناس. كما قرّرت الإسلامية أحكاماً تمنع التواكل في الارتزاق، وتُلزم كلّ فرد بالعمل الذي يناسبه، وقررت ترك الأراضي الزراعيّة ملكاً لعامّة الأمّة، ينتفع بها العاملون فيها بأنفسهم فقط. وأناطت الإسلاميّة تنفيذ ذلك كلّه بالحكومة . فالإسلاميّة وضعت قوانين التموّل ووجوه الإنفاق وحرّمت الربا ومنحت الناس لكلّ بحسب عمله. حتى أنّها حثّت المسلم لكي يحوّل ثمرة سعيه لصالح المنفعة العامّة، وينبذ الاستئثار بها لنفسه.
هكذا يؤكّد الكواكبي أنّ التشريع الإسلامي هو من أرفع التشريعات التي تحترم الإنسان وتصونه مما جعل الأمم الساعية إلى الخير تأخذ بأحكامه، ” تلك الأمم التي لربما يصحّ أن نقول، قد استفادت من الإسلام أكثر ممّا استفاده المسلمون” (21) فإنّ الإسلام ” أوجد مدنيّة فطريّة سامية ” وأوجد حكومة الخلفاء الراشدين العادلة.
والكواكبي، في المحصّلة، يطالب بنظام حكم قانون شوري مستمدّ من الشريعة، التي تحمل في داخلها أفضل القواعد السياسية، ومنها الشورى التي طالب بها “القرآن الكريم”، وطبّقها الرسول والخلفاء الراشدون، حيث أسّس الرسول للمسلمين ” أفضل حكومة أُسست في الناس، جعل قاعدتها قوله: { كُلّكُم راعٍ وكُلّكُمْ مسؤولٌ عن رعيّته } أي كلّ منكم سلطان عام ومسئول عن الأمّة. فالإسلام “وضع شريعة حكمة إجمالية صالحة لكلّ زمان وقوم ومكان”. وعلاوة على أن الإسلاميّة تجمع البدائل كلّها، من مساواة وعدالة وحريّة وشورى، فإنّها تضيف إليها الاشتراك العمومي، أي، التكافل الاجتماعي بين الناس، وتدعوا الناس إلى التعاون والإخاء، وقد فهم الخلفاء مغزى “القرآن الكريم”، “وأحدثوا في المسلمين عواطف أخوّة وروابط هيئة اجتماعيّة اشتراكية [ … ] لكلّ منهم وظيفة شخصيّة، ووظيفة عائليّة، ووظيفة قوميّة ” بحيث انتظمت حياة الناس، والت مخاوفهم، وتعاونوا على مشاقّ الحياة. فالإسلاميّة، عند معظم مفكري النهضة العربية تتضمّن المبادئ السّامية كلّها، وتشملها، وتجمعها في إطار واحد هو الشريعة الإسلاميّة. ويرى أنّ إطار الإسلاميّة الدستوري هو أشمل من الحكومة ومن شكلها، ولكنّ أهمّ نقطة في الإسلاميّة لديه هي مسألة الحكم. والحكومة التي يفضّلها المصلح و يراها بديلاً عن الاستبداد السياسي، هي الحكومة الملتزمة بأوامر الشرع ونواهيه، والتي توافق رغبات الأمّة. ولكي تتحقّق فيها العدالة يجب أن يكون فيها قانون عادل وملائم يلاحظ اختلاف عادات الشعوب فتجعلها تتمتّع بإدارة محلّية. ولا بُدّ أن يعتمد القانون على الشرع، بحيث تكون علاقة الحاكم بمواطنيه علاقة محكومة بقانون. ولا بُدّ من توافر إمكانيّة مراقبة الحكّام ومحاسبتهم، وأن تقوم الحكومة بوظائفها في خدمة الناس، وتنظيم أحوالهم، والسهر على أمتهم وراحتهم. فالحكومة ماهي إلاّ أداة تنفيذ القانون الذي ترتضيه الأمّة لنفسها، لذلك يتحتم عليها إشراك الأمّة فيما تتخذه من قرارات، وأن تعتمد على الحوار في مناقشة المعارضين، بعيداً عن العنف والإرهاب.
وبشكل عام فقد استندت فكرة العدالة الاجتماعية إلى مفاهيم الإسلام الذي يحل المشكلات الاقتصادية عن طريق الزكاة والصدقات وجملة من التشريعات العامة التي تطالب بمنع الاحتكار والغش وأكل أموال الناس .
وقد ارتبطت العدالة عند المفكر النهضوي بالمساواة ارتباطاً وثيقاً ([2]) ، وفهم العدالة على أنها عدالة اقتصادية بالدرجة الأولى ، لذلك راح يحل المشكلة الاقتصادية بتبيان أن الاقتصاد يقوم على المبادئ الآتية :
1 – تعميم العمل وتحريم الكسب بغير عمل مشروع .
2 – اجتناب التمييز بين أفراد الأمة .
3 – اجتناب التفاوت الكبير في توزيع الثروة والأعمال بين الأفراد ، ومنع تراكم الثروات المفرطة.
4 – إقامة المجتمع على أساس تعاون أفراده .
5 – تأميم المرافق العامة ومنع الاحتكار والتواكل .
6 – وضع قواعد شرعية اقتصادية وإناطة تنفيذها بالحكومة ([3]) .
وهذا ما يسميه بالمعيشة الاشتراكية العمومية إذ تتكافل الجماعة لتحقيق العدل . ويرى الكواكبي أن (( المعيشة الاشتراكية )) هي (( من أبدع ما يتصوره العقل )) لكن كبر الأمم يجعل من الصعب التوفيق بين مصالح الكثيرين . ويشرح معيشته الاشتراكية قائلاً : إن (( التكافل والتضامن غير ميسورين في الأمم الكبيرة )) لذلك يحل المسألة بأن يكون الإنسان مستقلاً عن سواه ومرتبطاً بغيره ارتباطاً نسبياً اختيارياً ([4]) . ويتضح هنا أن الكواكبي إنما يفسر الاشتراكية بالتكافل الاجتماعي الإسلامي . فالاشتراكية تعني لديه المشاركة في الرأي والحكم والمعيشة . والاشتراك الذي يطلبه يرتبط بالدين سواء أكان الاشتراك الذي أسسه الإنجيل ، أم سنة الاشتراك التي أحدثها الإسلام .
والحل الاقتصادي لديه يكمن أساساً في تضييق التفاوت ودعوة الجميع إلى العمل والتملك في الحدود المشروعة .
وهذا هو بالضبط اقتصاد الإسلامية الذي يشتق مبادئه من القرآن الذي يعطي (( لكل ما كسب)) ويطالب ( لكل نفس ما كسبت ) وينهى عن الغش ويتوعد المحتكرين والغاشين والمطففين في الموازين ([5]) .
أما ما عدا ذلك فقد تركه القرآن لاجتهاد الأئمة مركزاً على ضرورة أن يتذكر الناس أن الملك لله وحده ، وأن الناس مستخلفون فيه وكلاء عليه وحسب ([6]) .
وبحسب النص القرآني المفتوح تمكن المفكر النهضوي أن يعد الملكية العقارية الفلاحية الصغيرة هي المثل الأعلى للعدالة الاقتصادية .فالأرض للزارع الذي يجب منع استعباده وإفقاره ، بقانون يحميه ويصون حقوقه . ولم تكن هذه النتيجة إلا من مقدمات اجتهادية نبعت من قراءة النص القرآني انطلاقاً من مقولات إسلامية .
والعدالة كالمساواة لا تتحقق إلا بالحرية فكيف يمكن أن تتحقق العدالة – على المستوى السياسي – في ظل الاستبداد ؟ إن ذلك لا يمكن أن يحدث . وتساوي المواطن بالحاكم لا يتم إلا في ظل الحرية التي بها وحدها ترسخ العدالة وتتكون البيئة المناسبة لتحقيق الشورى .
باختصار شديد نستطيع أن نركز النقاط الأساسية التي مر بها الفكر العربي في مسألة العدالة.
كان يعيش في ظروف البداوة حيث الولاء للقبلية ولم تكن العدالة تتجاوز معنى الإغارة على القبائل الأخرى والالتزام بالفهم الوحيد للعدالة الذي يحدده سيد القبيلة لفض الخصومات والقضاء بين متخاصمين .
ثم جاء الإسلام وطور تلك النظرة ليغدو الناس سواسية أمام الله فيحتكمون إلى ما أمر به القرآن وما روي عن ألسنة الرسول والصحابة . وبقي الولاء في فهم العدالة إلى النظرة الإسلامية حتى بعد أن صورها الأمويون والعباسيون ومن تلاهم حتى العثمانيين بالشكل الذي يحقق مصالحهم في المحافظة على الحكم ، ما جعل المفكرين النهضويين يحصرون مسألة العدالة بإطار الحكم الرشيد الذي يحقق العدل ، وهكذا انحرف التفكير من قيمة العدل الأساسية التي ترتبط بقيمة الحق إلى مجرد تفكير وقتي بتحقيق التوازن الاقتصادي بين الفقراء والأغنياء .
أي أن الفكر العربي دُفع بلا رحمة من التفكير بالثابت إلى التفكير بالطارئ والمتحول الذي يرتبط بالواقع الآني ولا ينتج نظريات فلسفية يمكن أن يعتني بها الآخرون .
- خاص بموقع رابطة الكتاب السوريين