« لا أعرفُ مَنْ هوَ عريفُ الكوميديا الذي قالَ وهوَ ينظرُ نحو جماعةِ جندهِ: «إني أراهم غير موجودين»… جون بولهان
لو تَسنّى لي يوماً
أن أكتبَ عن الوجعِ اللامرئي
عن سلاحٍ خفيّ يتباهىَ بهِ المجازُ والواقعُ
عن مخرزٍ فَطنٍ في النصّ وساهٍ عن فكرتِهِ
آنَ خَزّ عينَ القلبِ والمعنى!
سأكتبُ: مرحباً بكِ أيتُها الأشباحُ
زيّني غرفتي بالأخيلةِ، زيدي لغتي تأويلاً
واتركي لي شاشةً الوضوح لأرى وجوهَ القتلة
ما أريدُه صورتي الموجوعةَ في أعينِهم
ولا شيءَ أكثر مما يؤكّدُ بسالتي في الآه
لو تسنّى لي يوماً
أن أكتبَ عن الوجعِ الحقيقي
عن الطَعنةِ الحَقيقيةِ في الخاصرةِ
عن اليدِ التي تُجيدُ طَعنَ الأرواحِ وتتلوّنُ
عن حقيقةٍ سارحةٍ كالنعاجٍ في الفَلاةِ
وعن ألمٍ لا يفسّرُ إلا بالألم والألمِ والألم
سأكتبُ: أنتَ أهلٌ لتحيا أيُها الغدرُ
امنحني فرصةً لأعتذرَ من مُبدعي الضَغينةِ
كيفَ لم أنتبهْ لهم، ولمْ أمنحهم حقّهم من الحذَر
وامنحني سلاحاً لأنتحرَ كما يليقُ بنصفِ مغرورٍ
ونصفِ شجاعٍ وواهمٍ وسائرٍ إلى حتفِهِ وبعضِ بطل
وليس بما يليقُ بضعيفٍ تقتلهُ كذبةٌ وتحييه
الموتُ السهلُ: تفاهةُ القدر، وشَركُ العادي
أما الموتُ الصَّعبُ: هو انبثاقُ لمعٍ حرٍ
إثر تصادمِ كوكبينِ ناري وآخر معنوي!
لو تسنّى لي مرةً
أن أكتبَ عن الوجعِ الافتراضي
عن قلبٍ كبيرٍ أحمر وافتراضي
عن انفراجةِ شفتينِ مُدمّاةٍ
عن فراغٍ مريرٍ يتركهُ الفقدُ
ويُملأ بفراغٍ أكبر مريرٍ وافتراضي
شيمةُ الافتراضِ الذهبيةُ: هي الطارئُ
حيثُ المزاجُ يتركُ مكانَه لمزاجٍ آخر
تتشابهُ الزوايا والوجوهُ والأمكنةُ..
ويصبحُ اللامعقولُ معقولاً
سأكتبُ: يا ذا التَركُ العابرُ المخاتلُ
يا القتلُ الذي لا يُقتلُ، يقاتلُ ويتناسلُ
يا صوتي، يا وحشي، يا عرّابَ أمنياتي
يا خدعةَ البرية، يا سرابُ ويا ونيسي، ويا ألمُ
يا ذئبي النائمَ تحتَ دمي، يا طاردي وطريدي..
اقتلني ههنا أو اتركني
أعيشُ في مُمكنِ الصدفةِ
أؤثثُ بالمجاز النقي بيتَهُ
كوخَهُ السحري أوّل الخيال
ولابيتَ لي لأؤثثهُ
ولا أريدُ بيتاً تُزيّنهُ الوحدةُ
ويحفّ بهُ شعورٌ غامضٌ بالنهايات
ولهذا عابرةٌ أحلامي إلى سريري الأرض
وإلى آخرِ طموحاتي سقفٌ من سماءٍ واطئةٍ
كانَ لها قدمان وتركضُ عكسَ جهة الحرب..
آنَ «ضاقت العِبارة» والعبّارةُ
وصار العبورُ إلى الشَتاتِ ترفاً
و»البلمُ» المطاطي مفردةً أصيلةً
وتوسّلتْ نصوصُنا مفهومَ اللجوء
لو امتلكتُ شرفَ النهاية
وتسنّى لي أن أكتبَ عن الوجع
عن قبلة تسيرُ في الشوارعِ ودمي
عن حضارةٍ تنامُ في فرجِ أنثى وشمس
عن قلقٍ يحيطُ بالمسافةِ نحو قلقٍ صرفٍ
وعن أحاديث عابرةٍ يتركها موشكٌ على الموت
لأحدٍ عابرٍ لأرخبيلاتِ النفسِ وظلالِ الذكريات
يتركُ خلفهُ خطاً جريحاً يبدأ من حبل السرّة
وينتهي بمقبرةِ الغرباءِ في نهاياتِ الروي..
سأكتبُ: يالهذا الشرفُ، ويا خديعَ المرايا
اكتبني يا وهمي الجليل على شظايا السيرةِ
على طَشاشِ الماءِ الإلهي فوقَ نبتِ الخليقةِ
وازرعني بينَ الصُّلبِ والصَلبِ لأبدو مميزاً
وأليقُ بهذهِ الفجاءةَ المأخوذةَ ببريقِ النهايةِ
آنَ يختفي البصيصُ الأصفرُ آخر النفق
لو تسنّت لي اللحظةُ
وكتبتُ عن الوجعِ التاريخي
عن الشخصي واللا شخصي فيه
عن بئرٍ عميقٍ مفتوحٍ على الأسرار
عن سرّ ينسّلّ كالأفاعي إلى نفسي
ولا يتركُ مُتّسعاً لأنجو إلا بالأوجاع
إلا بما يفرطُ من عنقودِ الحَسرات..
ويملأ كأسي بالنبيذِ السمائي والخسران
سأكتبُ: بقيَ لديّ من الدفائنِ ما أهدرُهُ
من السمواتِ ما يضيقُ بأعدائي ويَفضَضُ عليّ
من الحبّ النادرِ ما يصنعُ كفافَ يومي ويزيدُ
ومن الحكمة ما يجعلني أريدُ، وأصلُ ما أريد
آن تمكثُ المسافاتُ في تخيّلاتي مثل قتيل!
أنا دودةٌ دؤوبةٌ عملاقةٌ
وسيأكلُ دودٌ قزمٌ عينيّ أخيراً
لي من حيواتِ الحيوانات ما للحيوانِ
ما يجعلني شبه لامرئي للقنص أو طُعماً سهلاً
يتوفرُ في العاديّ والعابرِ والنافرِ واللامختلفِ عليه
وحينَ سيهدّ الوجعُ جبلاً وبلداً وأغاني
ويلوي عنقَ النهر ويذيبُ حجرَ الصبرِ
ويسوي بحرَ السكّر بحرَ المرارات
ويصيرُ شاطئُ التنزّه قبرَ الأحلام
وحيثُ الجثثُ تندهُ بأصواتِ أصحابِها:
امكثوا أو خذوا (بلَم) العودة واغرقوا هناك
ههنا سحرٌ، بيتٌ كثيرٌ، موتٌ كثيرٌ وشاق
وحينَ الآخرون ينتهونَ آخذُ طريقي إليَّ
بينما تتنازعُ أمهاتُ الآلامِ على أمومتي
ويجيئني أباءٌ أجادوا المراثي وخانتهم العاطفةُ
فأناديهم بكلّ القهرِ والرغبةِ في أبّ ولو من طين
يا أبي، يا أبي، وأهززُ قلبَه ليمطرَ الحبّ والماءَ
فألمحُ النارَ من النافذة المصروعةِ على الأنسابِ
وأراني ألوذُ بحكمةَ الحدّادِ لا حكمةَ الأبّ البيولوجي
أستثمرُ في الّلهبِ المائلِ للأزرقِ
وأطرقُ ماسَ الصلابة لا الحديد
لقد سوّاني الألمُ قوياً في الظاهرِ وهشّاً
معدناً خارجاً من الطَرق وَمشوياً وليّناً كفاكهةٍ
اختبرتُ بهِ فحولةَ اصطباري، فلمْ أحيا ولمْ أمت!
*القدس العربي