محمد المطرود: شَرَكُ الحواجز

0

( نصٌ ميتا روائي يحتفي بالعبورِ من الجحيم إلى الجحيم)

مجلة أوراق- العدد9

ملف منفى الحسرات و المسرات

حاجز الكويت درعا

لم تكن مصادفة أن أقرأ رواية (رسمت خطاً في الرمال) لهاني الراهب، لأقعَ فريسة لتلك الرمال، وتلتفَ أحابيلُ فهمي للغريب الذي أنا في بلادٍ أبسط ما يقال عنها: “عربية”. يمكن للداخل أن يستشعر المرارة من بوابة البلد/ مطارهُ الذي تلفهُ الوحشة والغبار، فيما لو ارتفعت عن أرض دمشقَ حيثُ بعض الخضرة والثكنات العسكرية والأسلحة المحيطة بمطارٍ يستقبلك بصفعة ويودعك بها، هنا الموظف سيد على العربي أياً كانت جنسيته، ويمكن للموظفة الكويتية أن تبيعك تذمرها، كما لو أنّكَ جئتها متسولاً أو سارقاً لمصاغها أو أثاثِ بيتها، بعدَ هذا الاستقبال ستلجُ المدينة، لتراها واضحة رغم نشوة الغبار وزهوه بنفسه، وفيما لو دخلتها بلا سندٍ من أهل سبقوك إلى المكان أو أصدقاء فسترى كم أنّكَ غارقٌ في وحشتك، وكم تتحول المدينة إلى كثيب رملي فحسب، سيمرّكَ السيّارةُ يتحدثون لغتك، غير أنّهم لن يلمحوا تلويحتك ولن ينتموا ولو للحظة إلى صرختك ولا إلى الخط الجديد الذي سترسمه وتسقط في دائرتهِ مثل حجرة ثقيلة إلى الهاويةِ. أياً يكن الأمر، رحتُ أشعل شمعتي، وأوهم نفسي بأنني بددتُ العتمة، ووجدتني بينَ كائناتٍ طيبة، شكّلت دائرتي الضيقة، فرحتُ أمارس عادة التحدي السرية، وقلتُ: الحياة ليست بائسة والأشجار القليلة والطيور خلا النوارس على الشاطئ بمائه الكاكي، ستقربني كثيراً من وطنٍ صغير قائمٍ على دعامة الأمن، ومقولة: “البعث هو الحزب القائد للدولةِ والمجتمع”، كلُّ هذهِ الألوان المائلة للبني، تحيلني إلى العسكر من طالبِ الفتوة إلىَ الجندية الإجبارية في (الجيش العربي السوري)، وتجعلُ إحساسي بالمسافةِ الصفرِ متوهجاً، حيثُ تتشابهُ كانتوناتِ الحلم/ الوهم: الوطن العربي.

ستجيء يارا بعينيها السوداوين، وشعرها الأسود، وسحنتها الخلاسية، بعد الثورةِ بشهر، وسيكونُ اسمها في اللغات القديمة: الزهرة الأولى المتفتحة على الشجرة، والمؤذنة بإتيانِ الربيع، وكذلكَ إيذاناً بدقِ ناقوسِ العودة إلى بلدٍ خطَّ الأطفال فيه أولاً: “الشعب يريد إسقاط النظام”، كانَ هذا كفيلاً بأن أستجيب لنبوءة العجوز إذ قالت: “لتكن حقيبتك رفيقتك وفي متناول يدك، أنت منذور للرحيل أكثر مما أنت منذور للموت، فلا تخف من الموت”، لقد محوت الخطَّ الذي رسمته وأنا أتتبعُ خطى روائي على الرمال، غاص فيها كثيراً، ورجعتُ عنه حيث رأيتُ النهايات، وأردتُ نهاية غيرها!

عدتُ لوحدي، تركتُ عيني يارا، ورغم النبوءة خفتُ، غيرَ أنَّ رغبةً حدَّ الألم، دفعتني، كما يدفع صاحب الحيوان حيوانهُ، وقلتُ لا أريد للفرحة التي سيتقاسمها بلد كاملٍ بزوالِ الطاغية أن تفوتني وألّا أحظى بها طازجة وأتنفسها في الشوارع وأحملَ الخوف اللذيذ. وصلت درعا فجراً، أنزلني عناصر من أمن الدولة في المعبر، سلموني رسالة فيها موعد للتحقيق في الإدارة التي تتوسط دمشق وتثير الرعب في قلوب أكثر من 20 مليون سوري، في الطريق إلى دمشق رأيتُ خيمَ أهل الجزيرة الذين شردتهم سنين الجفاف والقوانين المعطّلة للحياة، فتناثروا حاملين اسمهم الجديد: “غجر الجزيرة”، كانت المسافة إلى أقدم مدينة عالمية، طويلة بفعل الحواجز النفسية والاسمنتية وهو ما عزز لديَّ شعوراً ضمنياً بصوابية قرار العودة والدخول في حياة جديدة، يتلمس فيها الإنسان إنسانيته ويخلع عن روحهِ الدرن العالق بهِا من عقودٍ تبعت مجزرة سميت بـ”الحركة التصحيحية”، جاءت بمجموعةٍ من الخنازير البريةِ لتحكمَ بلداً، وتسميَّ نفسها الدولة. وكما سقطتْ الدولة وصارت منظمة ربحية ومزرعة بعد مجيء حافظ الأسد، فأنَّ الدولةَ المزوّرة سقطتْ تحتَ وقع تلك الأصابع اللينةِ الخائفة وهي تخطَّ جملاً نوّمها السوري في سريرته كلَّ هذه السنين الطويلةِ من السجنِ الطويل.

سأصلُ دمشقَ، حاملاً رسالتي، متخيلاً أني أحمل أمر سجني القادم، وسأشارك في مظاهرة في القدم، حيث أولى بوادر نشوء الشبيحة، وسأدخلُ في السابعة مساء إدارة أمن الدولة، مودّعاً رائد وحش وسناء عون وخليل صويلح في مطعم نينار، باب شرقي، وهناك سيسألني الرائد (سمير) والذي يصغرني بعامين عن أشياء كثيرة، يعرفها عني وأخرى يستعرض فيها، ليخلص إلى طلب رأيي الشخصي بما يحدث ونصيحتي له، وسيأتي ردي: لو كنا في غير هذا المكان والزمان، أما الآن فأنتَ الضابط وأنا مشروع معتقل.

سوريا بعد 2011 معتقلٌ كبير، ولكلّ منا قصتهُ، بعضنا يكتبها، وبعضنا يقولها شفاها، وفي الحالتين نقودُ الضوء المشتعل من زيت أرواحنا إلى الأقبية المظلمة، حيث كائناتٌ عظيمة يُحبَسُ عنها الهواء!

حاجز تل أبيض اسطنبول كولن

أتّمت يارا السنة والنصف، وجهها صار أكثر استدارة، عيناها توضّحَ سوادهما، شعرها بقيَّ قصيراً، “ولم يسترسل إلى الينابيع”، وصارت بقاموسها الضعيف علامة بهجة، وقفزة إلى نصٍ جديدٍ أكتبهُ بالتوازي مع حلم شخصي أتشاكل فيه مع أحلامَ الآخرين، غير أنَّ هذا الجزء الأبيضَ يشوبهُ سوادٌ ينازعه مكانته، فالنبوءة بعدم الخوف من الموت، قابلها شعور عارم بالنهايةِ ووداع عيني الطفلة ويدها الصغيرة وحركتها المضطربة في المشي!

ستفردُ العجوز بظهرها المنحني وشعرها الأشيب ويديها المرتجفتين صرة الأمنيات أمامي: قطعٌ من العاج، بقايا غضار أخضر، قواقع صغيرة، كِسَر فخارٍ محروق، ونويات تمر، ستقول:” بلل نوية التمر بلعابك”، سأفعلُ، ثمّ أرميها بينَ أخواتها وهنَّ يتدافعنَ أمامَ نظرِ العجوزِ الضعيفِ، ستسألني عن جهةِ نواةِ التمر، سأقول:” الشمال”، ستطلقُ المرأةُ الخبيرةُ بصرتها آهٍ طويلة، ثم تلملمُ أشياءها، تنزل دمعةٌ كبيرة من عينها اليمنى، وسأسمعُ صوتها خارجاً من بئرهِ: “احزمْ حقيبتك، وامضِ إلى آخرِ الدنيا” ثمَّ ستشير إلى خطِّ الأفق، وترسم على الهواء دائرةَ النار!

سأحملُ الصغيرة إلى حديقة قريبة من بيتي، يدها الصغيرة تتفلت من يدي، تتجهُ إلى شجيرة الورد، وتصطدم بها، تقولُ لي بابا: “وقعت”. أولى جملها المكتملةِ ارتبطتِ بالسقوط، لم أقل أن ذلك فأل شر، ولم أتوسم خيراً كبيراً، غير أنَّ (منحة هاينريش بول) دقّت بابي، ورأيتُ فيها بعض النجاة وقد ضاقت عليَّ كثيراً، وكأنَ السقوط الذي عنتهُ الطفلةُ هوَ الانحدار ثانيةٍ إلى عالم الغريب الذي أكرههُ، لكني اصطنعتُ السعادةَ، وحملتُ لهبَ عشرةِ شموع، وداريتها، كما لو أنيَّ الوحيدُ على سطحِ البسيطةِ، مقاتلٌ من طرزِ الأسطورة، ينفتحُ بالضوء الذي في داخلهِ على العتمةِ ليبددها.  

الكتابة خيانة، الكتابة ترجمة نفسية أولاً، ولا توجد ترجمة نزيهة، هكذا فلسفتُ عجزي عن ملاحقةِ تفاصيل صغيرة وأخرى يأخذني الخوف عنها، واربت طيلةَ الوقت، ورحت أرسمِ على الرملِ والماءِ لأمحوَ بسهولةٍ_ هكذا ظننت_ ما فعلتهُ في لحظة شرود أو إغواء، متخلصاً ولو إلى حينٍ من حبلِ الأنشوطةِ المتدلي أبداً، ومن عقودٍ أكلتها باللاجدوى والخسران، كما لو أنيَّ اليومَ أقضمُ أظافري نَدماً على أشياءَ لم أفعلها واعتذرت عنها طويلاً.

صنع لي أصدقائي، الذين توازعوا معي الحيرة والخوف وداعاً يشبه الرثاء، لم يعلموا ولم أعلم أني سأرثي الشهيد والمعتقل منهم، وسألاحق بما أكتنزُ من الحنين آثار من تبقىَّ حياً، وسأحفظ أكثر من ذي قبل موسيقا خطواتهم البطيئة في قلبي. أنا كائن حنين لو جازَ لي أن أسميَّ الشخص الذي يسكنني، الشخص الذي نتقاتل أنا وهو على إقطاعيات ليست ملكي ولا ملكهُ، لكننا نلتقي عادة في المسافةِ الصفر من الحبّ والذكرى والجوع واليتم والشبابيك المفتوحة على اليباب، لانهرَ صالحَ الآن، يشطر مدينتي نصفين، ويخلصَ طيورَ الظمأ من محنتها!، لا أحدَ يقتل الوحش الذي في داخله ليأمنَ وحش الآخر، ولا أحدَ يملكُ مسلةً عظيمةٍ، ليخيط بخيط روحه السماء التي تتمزق.

تأخذني حافلة بيضاء من القامشلي إلى معبر تل أبيض، طيلةَ الطريق تتجاور الرايات: حماة الوطن، حماة الشعب، نصرة الأمة، أحرار البلاد، وسأجد في البوابة جنوداً يشبهونني بسحنتهم، غيرَ أنَّ ما تركت خلفي، يصرُّ أنْ يمشي أمامي، فأخبئُ دمعتي في عبرتي، وأكتمُ عبرتي في أغنية فراتية حزينة، تنبعثُ من موبايلِ شاب صغيرٍ، من الواضحِ تَنبّه لي، فأطلق عنان الصوت، وصار يستمعُ إلى بحة صوتي وأنا أرافقُ اللحنَ، وكما وجدت حالي في أغنيته، وجد هو أحداً يبكي على طريقتهِ.

الطريق من أورفا إلى أسطنبول طويلة، ورضوان المخدّر في مشفى نافذ وتعرفتهُ في المعبر، تحدثنا معاً بالكردية، فوجد أنّ ذلك مساحة طيبة للطمأنينة للحديث عن مظلومية الكرد والأربع دول المتناهبةِ لخريطة كردستان، قال أنّه جاء تركيا قبل هذه المرة، لهذا لم تكن صدمتهُ بالطرقات العريضة والمحسَّنة والكراجات والمطاعم مثل صدمتي، كنتُ أخفي في زجاج نافذة الحافلة وجهي الموشك على البكاء، لئلا يرى رفيق السفر، لكنّه كانَ يشعلُ ناراً تحتَ حطب الأسئلة، كلما رأى منظراً، لم نره في بلدنا، الذي تفصله عن هذا البلد أسلاك شائكة، لتبدأ مرثية المقاربات والمقارنات، ويسري في داخلي نهر نحيبٍ مكتومٍ، يصبُّ في اللا أبد.

 سيستقبلني في أسطنبول زنار علي، المخرجُ الكردي السوري، وستكونُ تلكَ اللحظة الفراق الذي بيني وبين رضوان، زنار هو شقيق صديقي لقمان، تركتهُ صغيراً، أسمر ونحيلٌ وشقيّ، كانَ يتفوقُ علينا باصطياد العصافير وقطعِ أعناقها، وكانَ الأكثر جدارة في تسلق الاشجار وتخريبِ الأعشاش، اجتمعنا حينَ رافقت خالي في رحلةِ الجوع التي قادته إلى قريتهم، ليكونَ راعياً للعجول، خالي قال لي وقتها: ستكونُ أفضل راع ومروّض للثيران، وكان هذا الإطراء، يجعلني أكثر ألفةً مع تلك الحيواناتِ الشرسة والكبيرة عليَّ كثيراً، فيما بعد سأكتشفُ أنَّ خالي المولعُ بالشاي الثقيل والتدخين، سيكونُ صادقاً وأنَّ الراعي الصغير آنذاك، سيروّض نفسهُ مع الحزن، وسيكتشف راعي العجول الصغير أيضاً أنَّ الحياةَ ثورٌ هائجٌ، لابدَّ ستدهسُ بأقدامها العظيمة الجميع. طوبى لمن يفلتُ بأقلّ الخسرانِ من تلكَ القيامات!

ستطلُ طائرتي على كولن كباز أشهب، وسيكون رحيلي عن اسطنبول موازياً للفقد الذي تركته القامشلي، لقد غابت الحدود تماماً، والشخص الذي في داخلي ويتفلتُ للعودة، صارَ يرى الدربَ أطول مما يظن، وأن الأحلام مثلُ الموجة، تصطدم بالصخور وترتد عنها. وسأعودُ إلى ذلكَ الذي تَتَبّع خطىَ الروائي على الرمل ومحا مارسمَ، يهبط البازُ، لا صحراء تحته ولا زهو للغبار لا الموظفةُ المتذمرة، ولا المدينةُ الذاهبةُ كأرخبيل إلى البحر الكاكي الذي يشبهُ العسكر في بلدي. سيكونُ الأخضرُ الكثيفُ صادماً بمقدار انتمائي إلى صحراء جررتها خلفي، نومتها في فراشي، وتقاسمنا أحلامَ الليل معاً.

بعدَ أربع سنوات، سآتي على ذكرها فيما بعد، ينشطرُ قلبي مثل المدينة التي يشطرها الراين إلى قسمين، فلا أنا أستطيعُ أن أعود، لطالما أجدني حمامة مذبوحة على الطريق الواصل بين كولن والقامشلي، ولا أنا منذور للصدمة الحضارية ابتداءً بالأخضر مروراً بالحدائق والسينما والدوم والعازفين المتجولين وانتهاء بالمقابر واحتفاء الموتى بالورود والفوانيس.

أنا أحدٌ ميتٌ، سيموتُ في رحلة العودة الثانية إلى مدينته، سيدخلُ من نصيبين، وهناك سيطلقُ عليه الدركَ التركي النار، وسينجو، ليغوصَ ثانية في حقلِ الشوك والأرضِ البكرِ، حيثُ الرطوبةُ والماءُ الآسنُ، وحيثُ المدينةُ لم تعد مدينة!

حاجز نصيبين القامشلي

ترتبطُ القامشلي التي أعنيها بحبل السرة الذي دفنته أمي بالقربِ من حائط مدرسة ترابية، ومن ثمَّ تقول بأنها عندما رأت كلباً يقترب من مدفنِ الحبل، أخرجتهُ ودفنتهُ تحتَ سكة القطارِ الواصل بين دمشق واليعربية/ تل كوجر، ولهذا هي تلمّست فيَّ العلاقةَ مع القراءة بوقت مبكّر، ولم يسنحْ عمرها القصير، لأن ترى الطفل الذي تبدّت ميولهُ في القراءة، وحينَ شّبَّ عن الطوق، صارَ رهناً للطرقاتِ التي تأخذه عنوة، لو أنّها سلمت، وزوادتها من الأيام لم تنفذ، ستجدُ كم هيَّ مذنبةٌ حين اختارت مما اختارتْ سكة حديدية طويلة لتدفن تحتها جزءاً منها وجزءاً مني، لربّما المرأة المأخوذة بالتنقلات، من الأهلِ إلى الزوجِ الذي طالتهُ السجون، وجدت في الرحيل الكثير منجاةٍ، لم تحسب أن فيها المقتلُ، إذا فصلتْ عن مسقط الذكريات أراض شاسعة وأنهار وأبحر وغابات، حيث يشمخُ الحنين مثل جبلٍ، يفصل القامشلي عن شمال يحاذيها، شمال إلى وقت ليس ببعيد، كانت تنزل طلقاتهُ وهي تتابعُ المهربينَ وأنصار حزب كردي، فتسقط على الأسطحِ المفروشة بالأسرة المتراصة في فصل الصيف، فتحولُ الأهازيجَ والأغاني إلى مناحاتٍ صارخة، ليختلط الدمُ بالجنس بأكواب الشاي، ويذهبُ المَني في مجاري الخوف، أكثر مما يذهبُ في تجاويفِ النساء، المؤهلاتِ للحرثِ والنسل والحروب اليومية، حينَ تصبحُ لقمةَ العيشِ همّاً وحائلاً دونَ اللذاتِ، لقمة العيش في أحد أشكالها موت، أو مجلبة لهُ.

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here