كوليت بهنا: عين الماء اللبناني

0

في كتابه (ثلاث مدن مشرقية، سواحل البحر الأبيض المتوسط بين التألق والهاوية) يسرد مؤلفه فيليب مانسيل تاريخ ثلاث مدن ازدهرت قبل أكثر من مئة عام وهي إزمير التركية والاسكندرية وبيروت، ويحلل أسباب تمايزها كمدن كوزموبوليتانية سطعت كنجوم منيرة في عصرها، ولماذا وكيف أفل نجم هذه المدن.

يشرح المؤلف بداية اسم بيروت، ويقول إن اسمها اشتق من كلمة فينيقية تعني (عين الماء)، ويقول عنها في أحد المقاطع: “كان البشر أحد الصادرات الأساسية من بيروت، فعبر موانئ بيروت وطرابلس، غادر البلاد آلاف اللبنانيين والسوريين، ربما عشرة آلاف سنويا، بإجمالي نحو ثلاثمئة ألف بين العامين 1880 ـ 1914بحثا عن الثراء والأمن في الخارج”.

بيروت اليوم، التي تحتل هي وأخواتها من باقي المدن اللبنانية منذ السابع عشر من أكتوبر الجاري شاشات التلفزة اللبنانية والعربية والعالمية، وبالوقت عينه تحتل القلوب والإعجاب بتظاهراتها المبهجة وحراكها المدني السلمي، غير الفريد من نوعه في التاريخ اللبناني، لكنه بالتأكيد استثنائيا وجديدا في جوهره العام، الرافض لقولبة الطوائف التاريخية وما جرته من شروخ في البنية العميقة للحياة اللبنانية.

ويؤسس هذا الحراك لانتقال جديد باتجاه الدولة المدنية الحديثة، وهو ما يمكن أن يطلق عليه ثورة حال استمراره ونجاحه؛ لكن إن جرت الرياح عكس ما تشتهي سفنه، لا شك أن اللبناني، صانع هذا المفترق التاريخي، الحامل لمورثات جده الفينيقي، البحار الكبير المغامر، يدرك سلفا حين أطلق أشرعته في رحلة الانعتاق هذه، أن مغامرته لن تكون سهلة أو قصيرة، عناده الموروث لن يعيده إلى شاطئه، وجسارته لن توقفه وسط البحر، ببساطة، لقد حرك الصخور من تحته، ولا سبيل أمامه إلا المتابعة والاستمرار.

لا حاجة لإعادة توصيف الأيام العشرة الأولى الماضية الجميلة والحذرة من هذا الحراك، أو الإتيان بجديد عليها، فالجميع يتابع ويراقب، وكأن الزمن العربي والعالمي توقف عند الزمن اللبناني، الذي فتح نوافذه العريضة ليدخل الهواء للجميع ويتنفس كل من ضاق صدره لسنوات ببعض الأوكسجين، ويؤسس لذاته ملامح رحلته الخاصة القائمة على ركائز أساسية مشابهة يعود الفضل لها في إنجاح هذا الحراك اللبناني، حتى اليوم.

يتقدم الإعلام اللبناني كواحد من أهم وأول هذه الركائز. هو إعلام عريق يتمتع بحرية التعبير حتى لو تراجع أو ضاقت هوامشه بين الحين والآخر، أو اصطف صنّاعه ـ مخيّرين أو مجبرين ـ في كانتوناتهم الطائفية.

وانطلاقا من ركيزة الاعلام الأساسية هذه، والتي تألقت وتجوهرت في هذا الحراك، وخلعت عباءاتها الطائفية التقليدية، واختارت الانحياز للشارع ولو بنسب متباينة فيما بينها، إلا أن النسبة الأكبر من صنّاع الإعلام اللبناني في هذا الحراك، ترفع لهم القبعة والاستشهاد بجرأتهم وتفانيهم وجهدهم لنقل الحدث الكبير بشفافية ووطنية جامعة ولافتة. بالتالي، تكمن نجاحات الشعوب في فهمها العميق لدور الإعلام ـ سلطتها الرابعة ـ في الحياة، واستثماره، والأهم ترسيخ الثقة بينهما.

لم يأت نجاح الإعلام اللبناني وتميزه إلا لاستناده على ركيزة أخرى أساسية وراسخة جدا في بنية الحياة اللبنانية، وهي التعليم، الذي يعمم الوعي الجمعي بمفهوم المواطنة وفضائلها، وهو ما يفسر وجود هذا الزخم الضخم من ناشطي المجتمع المدني وطلاب الجامعات والمدارس في هذا الحراك الشبابي، ودفاعهم المستميت عن حقوقهم وفي مقدمها الكتاب قبل الرغيف، رغم أن الحشود تحركت بداية مدفوعة بضيق وضعها الاقتصادي والمعيشي، لكن عمق ما يحدث في الشارع اللبناني هو الخشية، بل الذعر من تأثير هذه الضائقة الاقتصادية في المدى الطويل على مقدرات التعليم، وبالتالي حرمان جيل كامل من أهم المكتسبات التي أدركها الفرد اللبناني عبر التاريخ، وهي تميزه بالعلم وتصديره للمتعلمين.

يتحدث الكثيرون عن ارتفاع نسبة الجمال في المشهد اللبناني، وهي إن كانت هبة سماوية يحق لأصحابها التشاوف بها، إلا أن هذا الجمال يكمن حقيقة في انعكاس وعي أصحابه، الذي أدركوا فضائل التعليم، وأدركوا أن العلم لا يقوي أصحابه فقط بل يجلب الحرية لهم أيضا، والحرية ترسخ لفضائل أخرى موجودة أساسا في بنية الحياة اللبنانية، لكن كل ما حدث خلال السنوات الفائتة، قلص هذه الخيرات بين أيديهم، فحقَّ لهم الغضب بعد صبر طويل دفاعا عن هذه المكتسبات، والانطلاق لحمايتها برؤية حداثوية، سعيا لسيادتها وتقاسمها بين الجميع وفقا لمفهوم جديد للعدالة الاجتماعية (اللبنانية)، العابرة للشعارات البائدة والبليدة التي حدت من اندماجهم ـبل فرقتهم ـ لسنوات قهر وإذلال طويلين.

في الحديث عن الشأن اللبناني، لا بد أن يتوقف المرء عند الجملة التي كتبها فيليب مانسيل مؤلف “ثلاث مدن مشرقية” بأن البشر كانوا أحد الصادرات الأساسية من بيروت. في الحقيقة، تتغلغل هذه الجملة المؤثرة في عمق الدافع لحراك اللبنانيين اليوم، الذين ضاقوا بالآلاف من هاجس الهجرة، والذعر المستوطن في بواطنهم من الاضطرار لها، فهل يصم الساسة آذانهم أمام مواطن يجاهد ويشقى في الشارع منذ أيام لأنه يرغب بالبقاء في بلده، عين الماء اللبناني العزيز، آمنا، ويبحث عن الثراء في داخله وليس في الخارج؟ مواطن يتشبث ببلاده حتى الشغف يمكنه حال تحقيق شروط عيش كريمة، أن يبدل نوعية صادرات لبنان المستقبلية لتكون تفاحا وفنونا وصناعات وطنية بدلا عن تصدير “البشر”.

*المصدر: الحرة

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here