غادة السمان: باريس عاصمة الحرية والحياة، تحت حكم الإمبراطور كورونا!

0

كأنني أمشي داخل كابوس صامت!

ها أنا واقفة أمام قوس النصر الباريسي في أعلى شارع الشانزيليزيه الذي يحلو للفرنسيين تسميته بأجمل جادة في العالم، أتأمل تلك الجادة حتى ساحة الكونكورد.. المشهد كله خاو من البشر كأنني آخر إنسانة حية متوحدة على وجه كوكبنا وتشعر بالوحشة..

أعيش في هذه المدينة منذ أكثر من ثلاثة عقود ونصف، ولم يحدث مرة أن شاهدت جادة الشانزيليزيه خاوية من البشر كما المقاهي والمطاعم، دور السينما والمخازن مغلقة.. كأنني وحيدة في هذا العالم، ويا لوحشتي كما لو أن ساحرة شريرة حجرت أهل هذه المدينة في بيوتهم وبقيت وحدي!

متى يحق لنا مغادرة سجن المنزل!

الإمبراطور كورونا منعنا من مغادرة بيوتنا إلا إذا حملنا معنا استمارة رسمية استخرجها لي ابني من الكمبيوتر من موقع وزارة الداخلية ـ وتبيح الخروج في الحالات التالية (وباختزال): الذهاب إلى العمل… والذهاب لشراء الطعام والحاجات المنزلية… الذهاب للرياضة قرب المنزل.. وغير ذلك.

إذا استوقفني شرطي من أصل مئة ألف شرطي في شوارع باريس لسؤالي لماذا غادرت بيتي، سأقول له لأنني أكره السجون حتى إذا كان السجن بيتي. ثم إنني مشيت فقط كمن يمشي داخلي كابوس سحري، إذ لم يسبق لي أن شاهدت شوارع باريس هكذا… خاوية من البشر والأصوات.

إنه كابوس، فمتى أستيقظ؟

قلت لنفسي كما يحدث لي داخل كوابيسي: يجب أن أستيقظ..

ولكن ذلك لم يحدث لأنها كانت الحياة الحقيقية.. الحقيقية؟ ما الحقيقي وما الوهمي؟ أليست الحياة مسرحاً لمشاهدة الكوابيس؟ وهل ينقذنا الموت منها؟ هل الموت سفير الإمبراطور كورونا؟ ضحكت من نفسي ومن تلك الأفكار، وسرني للمرة الأولى أن رجل شرطة استوقفني للسؤال عما أفعله خارج بيتي ونصحني بلطف بالعودة إلى المنزل قائلاً إنني مشيت ما يكفيني ويزيد عن رياضة المشي المباحة!

كان محقاً، لكنني شاهدت على الرصيف الثاني صديقتي الغالية الراحلة بلقيس الراوي قباني، ولم يكن بوسعي إلا أن أذهب إليها على حصان الشوق واللهفة. تذكرت كم كنا نضحك معاً ولم يخطر ببالي أنني سأبكيها.

بلقيس العراقية وأهل السخاء بالقلب والوفاء.

عبر بلقيس تعارفت مع روح العراق أهل الوفاء والعطاء..

تذكرت كيف حملت لها معي مرة هدية من روما: (ولاعة) سجائر بشكل قنبلة يدوية وكان ذلك من زمان، قبل الحروب الأهلية والعنف والجنون… وضحكت بلقيس ووضعتها على طاولتها في مكتبها في السفارة العراقية في بيروت. لم يخطر لنا يومها أن الحبيبة بلقيس ستموت ميتة عنيفة في تفجير السفارة العراقية في بيروت، حيث كانت تعمل.

لم تكن بلقيس وحدها التي شاهدتها على الرصيف الثاني من جادة الشانزيليزيه الخاوية من الناس، بل العديد من الأحباب الذين تذكرت أنهم ماتوا أيضاً قبلي.

ولكن بلقيس أشارت إليّ بيدها وأعادتني إلى ذكرياتنا معاً.

بلقيس وحلوى البوم!

كأنني أهرب من رعب باريس الخاوية إلى ذكرياتي!

كانت بلقيس تعرف أنني ألغي العالم الخارجي حين أغرق في كتابة رواية، وهكذا أغضبت قريبي نزار قباني حين قال لي إنه قام بدعوة النجمة هند أبي اللمع (اشتهرت يومها بدورها في مسلسل تلفزيوني ناجح) وزوجها وأصدقاء آخرين بمناسبة عيد ميلادي. وقلت إنني غارقة في كتابة رواية جديدة واعتذرت وكنت أعرف أننا سنتشاجر ثم نتصالح بعد فترة كعادتنا. ولكن، صباح اليوم التالي فوجئت بجرس بابي يرن بإلحاح، وحين فتحت الباب وجدت على الأرض قالباً من الحلوى (كاتوه) بشكل بومة تركته بلقيس لي مع عبارة رقيقة. وفي السنة التالية، اشترت لي كهدية لعيد ميلادي ستة أكواب لها قاعدة بومة من الكريستال… وما زلت أحتفظ بها.

اختفت بلقيس وبقيت الوحشة

هذه الذكريات كلها تدافعت داخل رأسي وأنا أقطع جادة الشانزيليزيه الخاوية مستأنسة بها إلى حيث بلقيس، وما كدت أصل حتى اختفت وعاد المقهى مغلقاً وبلا طاولات أو مقاعد.

قررت العودة إلى البيت وقضاء بقية سهرتي كملايين الباريسيين أمام شاشة التلفزيون بلا مشاعر غير كراهية الإمبراطور كورونا والخوف منه. وتذكرت الجعة المشهورة “البيرة كورونا” التي لم يعد أحد يشتريها بسبب تشابه الأسماء مع إمبراطور الموت. وتشابه الأسماء قد يسبب الأذى غالباً لأحد الطرفين!

تحية شكر إلى “الأبطال السريين”

مرت بي سيارة الإسعاف بنواحها المألوف كأنها صوت إمبراطور الموت كورونا وقررت العودة إلى البيت، لكنني تذكرت بامتنان رجال الإسعاف الذين ينقلون المصابين بالكورونا إلى المستشفيات مع جرعات من الأوكسجين على الطريق لإنقاذ حياتهم.

تذكرت الممرضات والأطباء الذين يحاولون إنقاذ حياة المرضى وهم يخاطرون بحياتهم من وراء قناع أبيض على الأنف والفم، لا أحد يدري حقاً إن كانت تنقذهم من العدوى بالمرض. تذكرت أيضاً عمال تنظيف الشوارع لكي لا تتحول باريس وسواها إلى حاوية قمامة شاسعة متناثرة.

تذكرت الذين يفعلون الشيء ذاته في عالمي العربي، وأوجه لهم التحية والامتنان. تذكرت رجال الشرطة الذين يحاولون إعادتنا إلى بيوتنا كي لا ننقل العدوى إلى سوانا أو نلتقطها وننقم عليهم ويستحقون الشكر، تذكرت العلماء في مختبراتهم الذين يحاولون اكتشاف لقاح ضد كورونا واختراع العلاج له.

البعض ينقم لكنني ممتنة!

وعدت إلى بيتي وفكرت بحنان وامتنان بأولئك الذين لا يستطيعون العودة إلى بيوتهم وذلك لمتابعة القيام بعملهم لخدمة الناس المرضى، وربما كان الحكم الظالم للإمبراطور كورونا يعلمنا التعاطف مع الآخر واحترام من يحاول إنقاذ حياتنا حتى من أنفسنا واستهتارنا بقيمة “هدية الحياة”، والشكر للخالق.

*المصدر : القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here