غادة السمان: أعترف، أشعر بالغيرة!

0

أنا مدمنة! مدمنة الذهاب إلى مكتبات باريس الثرية بكتب جذابة وأعود منها بالمزيد من الكتب الجميلة التي احتلت بيتي وحتى سريري، ولم أعد أجد مكاناً أنام فيه، فالكتب تتوالد في بيتي بعد كل غارة غرام أقوم بها على إحدى مكتبات باريس وأعود منها مثقلة بالكتب. آخر هذه الكتب التي عدتُ بها يدعى «فرنسا التي أحب» وهو من تأليف بيير بونتيه ويضم 280 صورة لأماكن جميلة وقرى حلوة في فرنسا، ويقع الكتاب في 290 صفحة من القطع الكبير وصدر عن منشورات «ألبان ميشيل» في باريس، ولأنه مطبوع على أوراق فاخرة إكراماً للصور البديعة فقد وجدت صعوبة في حمله من المكتبة إلى البيت لأنني لست بطلة في حمل الأثقال!

ينقصنا المال والأمان!

شعرت بالغيرة لأنه ليس في أي قطر من أقطار بلادنا العربية كتاب كهذا يرسم جمالها بجبالها وقراها وأنهارها ومدنها.. ماذا ينقصنا؟ جمال اللغة التي يتميز بها هذا الكتاب؟ لدينا أدباء يحبون أوطانهم العربية ولا يفوتهم جمالها، لكن كتاباً كهذا يحتاج إلى الكثير لتستطيع دور النشر العربية تمويل إصداره، ويحتاج إلى أوطان لا تمزقها الحروب المحلية.. ثم إن معظم الصور البديعة التي يضمها الكتاب تم التقاطها من السماء (من طائرة هيليكوبتر غالباً ودون توسط وزير السياحة العربي في أي قطر، إذ سيساء الظن بتلك الطائرة غير الحربية التي تحلق لتلتقط صور جمال أوطاننا، ولا بد من حمل وثيقة السماح بتحليقها والتقاطها لصور «لا حربية» بل «جمالية».

حين يعشق المؤلف موضوعه يبدع

بيير بونتيه مؤلف الكتاب، يعشق فرنسا وينتقل حبه إلى القارئ، ويذكر في الفصل الأخير من كتابه أن بعض السياح يأتون إليه شاكرين، فلولاه لما زاروا تلك القرى النائية والحقول وفرنسا الخلابة بمدنها (مثل مرسيليا) وقراها مثل (بيل دو بروفانس)، وتخيلت كتاباً كهذا الكتاب عن عالمنا العربي الجميل وشعرت بالغيرة الجارفة لتعذر ذلك.

الحب أولاً

الشرط الضروري لإصدار كتاب كهذا هو غرام المؤلف بموضوعه واستعداد دار النشر للمغامرة بمالها لإصداره ولترجمته إلى لغات أجنبية، وهكذا تجتذب تدمر سوريا وبترا الأردن وأهرامات مصر ومكة المكرمة والمدينة المنورة واليمن وما لا يحصى من جماليات أقطارنا العربية.. والمهم أن يغرم المؤلف بوطنه المحلي والعربي (ولا يحلم بالهجرة مثلاً) كما أغرم مؤلف كتاب «فرنسا التي أحب» الأستاذ بيير بونتيه بوطنه وجمالياته ووجد دار نشر (ألبان ميشيل) ترضى بتمويل كتاب كهذا. ولذا، تلتهمني الغيرة ربما لأن مشروع كتاب كهذا عن عالمنا العربي أو عن أي قطر عربي أمر صعب (متعذر؟) في يومنا. ولكن معظم العرب يعشقون أوطانهم بالتأكيد حتى ولو هاجروا سعياً وراء اللقمة والحرية وغرقت بالعديد منهم المراكب، واسألوا الطفل إيلان الذي لفظه البحر قتيلاً غريقاً على أحد الشواطئ!

باريس الأمس واليوم

كتاب آخر فاخر الطباعة والصور عدت به من (غزوتي) لشراء كتب فرنسية جميل، اسمه (باريس الأمس واليوم) تأليف مادلين لوفو فرنانديز، تصوير برنار لادوكس، صادر عن «منشورات ماسان ـ باريس» ويقع في 200 صفحة من القطع الكبير والورق المصقول.
المدن كالبشر تتبدل مع الزمن، وهذا الكتاب يرصد صور أحياء باريس كيف كانت وكيف صارت، بما في ذلك الحي الذي أقيم فيه اليوم في ناطحة سحاب لم تكن موجودة قبل أعوام مثلاً. بل كان يحتل الحي المعمل لصناعة السيارات وبيعها.. (سيارات رينو).
الآن صار اسم الحي: ضفة نهر السين، وهذا لم يتبدل، ولا شبه الجزيرة التي تتوسط نهر السين وتدعى «ممر البجع». وثمة ناطحات سحاب أخرى تم تعميرها على ضفة نهر السين يقيم فيها أمثالي. في البداية كرهها الفرنسيون، واليوم صارت تباع بثلاثة أمثال ثمنها يوم بنائها؛ لجمال منظرها المطل على نهر السين وجسوره الجميلة، وترى من طوابقه العليا «برج إيفل»!

المدن حالة حية!

الكتاب يتجول في أحياء باريس التي تبدلت مع الزمن. وأتخيل كتاباً كهذا عن المدن العربية. أمامي الآن صورة لزوجي ولي ولابني د. حازم الذي كان يومئذ في الثانية من عمره، ونحن نمشي على شاطئ كورنيش بيروت، والتقطَ الصورة أحد مصوري الشوارع (الذين انقرضوا)، وخلفنا عدة أبنية تهدمت في الحرب اللبنانية وتم تشييد أبنية أخرى، كما انقرض مقهى (الدولشي نحيتا) الشهير في لقاءات الأدباء اللبنانيين والعرب، كما مبنى (الديبلومات) الذي حل محله مبنى آخر.. في باريس حدث ما يشبه ذلك دونما حروب أهلية أو هدم أبنية بالقنابل، فالمدن حالة حية تتبدل مع الزمن، وكتاب (باريس الأمس واليوم) جذاب حقاً، إذ يتحدث عن أحيائها كلها وكيف تبدلت مع صور لها بالأبيض والأسود كما كانت (لم تكن الصور الملونة قد اخترعت يومئذ)، وثمة صورة أخرى لي ولأسرتي على شاطئ البحر البيروتي حيث المسابح التي كان يحضر إليها حتى الغربيون وصارت اليوم بيوتاً للمهاجرين الذين قست عليهم الحروب الأهلية في لبنان وكوابيس بيروت والوطن!!

سأظل أشعر بالغيرة

أتخيل كتباً كهذه تصدر عن كل بلد في وطننا العربي. كم ستكون جميلة وجذابة! وكم ستنبش جراحاً وتداويها في آن!
فعالمنا العربي يزخر بما كان وبما سيكون، وكلما قرأت كتاباً غربياً كهذا عن فرنسا أو سواها سأختنق غيرة.. فأوطاننا العربية تستحق إصدار كتب جميلة ومؤثرة كهذه.

*القدس العربي