صار من المعتاد بين الحين والآخر انكشاف قضية تحرش جنسي، “أبطالها” سوريون. لا يبتعد كثيراً عن قضايا التحرش انكشافُ قضايا عنف أسري، وفي الحالتين تكون السوشيال ميديا هي وسيلة الفضح أو الرواج، والمكان الوحيد المتاح لقليل من النقاش مع الكثير من أنواع سوء الفهم والتفاهم المتعمد. الحالات التي انكشفت ليست سوى جزء يسير من المسكوت عنه، إذ تتكفل النمائم بنقل سير متحرشين آخرين “يصل بعضها إلى الشروع في الاغتصاب” من دون أن يُفتضحوا حتى الآن.
في السائد أن هذه قضية اجتماعية، وليست لها صدارة السياسة، خاصة في ظرف سياسي كارثي كالذي يعيشه السوريون. لكننا لا نخترع قرابة مع السياسة طالما أن المتهمين بالقضايا السابقة هم في مواقع “عمل” معارض، ويستمدون من مواقع عملهم سلطةً ما ضمن محيطهم. بصياغة أخرى، لا يدور الحديث هنا عن متحرشين عموميين، يستمدون سلطة معنوية “عمومية أيضاً” من مجتمع ذكوري، بل عن حالات متعينة، “أبطالها” أصحاب سلطة إدارية أو معنوية محددة، وهم يستغلون سلطتهم بانتظام وتكرار، أي عن دراية ووعي تامّين بها وبالحاجة المتخيَّلة للضحايا إلى تلك السلطة أو خوفهن منها.
عنصر التكرار له دور مركزي في تحديد هوية المعتدي، فالتحرش لمرة واحدة من قبل شخص ما قد يُعزى إلى خروج عن أطواره بخلاف تكرار صدور الفعل عنه، ذلك بالطبع لا يغيّر من تسمية الفعل ذاته عندما يفرّق بين الاستثناء والاعتياد، وهو ينطبق أيضاً على حالات العنف الأسري التي قد تنفجر على نحو استثنائي، لكن شيوع العنف بانتظام ومنهجية أمر آخر. مع التأكيد على أن التحرش يبقى تحرشاً والعنف يبقى عنفاً، بصرف النظر عن تكراره أو عدم تكراره، قد تكون عبرة انتفاء التكرار في عدم نظر المعتدي إلى نفسه كصاحب حق، تضمن له سلطة أو ثقافة ما ذلك الحق.
مع انطلاق حملة Me too العالمية، ثار جدل عالمي حول مغالاة بعض النسويات في تأويل موضوع التحرش وحدوده، والفرق بينه وبين المغازلة. في حالتنا، المتخلفة عن ذلك الجدل، قد نكتفي بالتعريف المبسط وهو أن التحرش يبدأ عند رفض الطرف الآخر العرضَ الجنسي الذي يقدّمه الطرف الأول، وأي استمرار بعد الرفض هو انتهاك صريح للحيز الشخصي الحميم. ثمة فرق بين احترام المغازلة كعرض تعاقدي، عاطفي أو جسدي أو الاثنين معاً، والتحرش المنطلق من القدرة على اقتحام المساحة الخاصة بالآخر من دون رضاه.
التحرش والاغتصاب هما في العمق وببساطة حرمانُ الضحية من حقها في قول “لا”، إما بعدم الاكتراث عندما تجهر بها، أو عدم الاكتراث بأنواع أخرى من الرفض الرمزي الذي قد يكون رسالةً مواربة؛ لفظياً أو جسدياً. هذا وجه أساسي يُفترض أنه يتقاطع مع نضالات عموم السوريين الذين ثاروا من أجل حقهم في قول “لا”، ويُفترض أن يكون بمثابة حق فردي مطلق تقوم عليه علاقات تعاقدية حرة على كافة المستويات. الحق المطلق يقرّ للمرأة بحقها في قول “لا” إخلاصاً لذاتها في تلك اللحظة، ومن أي موقع كان، سواء كان موقع الزوجة أو الصديقة أو الزميلة، أو حتى البغي التي يحق لها رفض ما لا يروق لها من زبائن، ففي بيئة غير تسلطية لا وجود لـ”نعم” إلى الأبد على غرار ما تقترحه سلطات الاستبداد للجميع وعلى مختلف الأصعدة.
لكن، بخلاف الدعم المنتظر للنساء من قبل “أبناء الثورة”، قوبلت قضاياهن غالباً بالاستخفاف أو التجاهل، أو الالتفاف المباشر وغير المباشر عليها لطيّ النقاش فيها. ذرائع من طينة “لا صوت يعلو على صوت المعركة” كانت حاضرة دائماً، وذرائع أخرى تنضوي في “فقه” الأولويات أيضاً كان لها حضورها، وكأن مقام الأولويات يضيق بسلة من القضايا والاهتمامات، خاصة ونحن نتحدث عن عشرة أعوام على انطلاق الثورة لا عن لحظة ساخنة استثنائية تطغى على كل ما عداها.
من المفهوم أن خصوم الأسد ليسوا متفقين على العديد من المبادئ الأساسية، ومنها ما يتعلق بالحريات الفردية. إلا أن غياب الدعم المنتظر ممن يُظهرون توجهات ديموقراطية كان الأبلغ دلالة، يقابله من بعض النسويات تحييد قضيتهن عن استحقاق التغيير الديموقراطي. ضحية العديد من السجالات هو تغييب الجانب القانوني، بالمعنى المجرد قدر الإمكان، والذي يُعنى بالدفاع عن ضحايا التحرش أو العنف، بصرف النظر عن الموقف الفكري من قضايا نسوية أخرى. وهذا المستوى القانوني يصعب وجوده إلا في بيئة حقوقية متكاملة، وحتى إذا وجد في أنظمة الاستبداد فهو عُرضة للدوس عليه مثل كل القوانين الأخرى الموجودة شكلياً.
السوريون ليسوا الآن على عتبة التحول الديموقراطي الذي قد تضع قوانينه حداً للانتهاكات ضد المرأة، وهم الآن ليسوا ذلك المجتمع أو تلك المجتمعات المستقرة ذات المنظومة الأخلاقية الواضحة، سواء اختلفنا أو اتفقنا معها، وهم أيضاً لم يعودوا أبناء جغرافية واحدة باستثناء وجودهم المشترك على وسائل التواصل الاجتماعي. هذا التشتت المتكامل يقضي على إمكانية بناء قضية وتيار حقوقيين لمناصرة ضحايا التحرش والعنف من النساء، بل يجعل لكل قضية ظروفها الخاصة المتعلقة بقوانين بلد اللجوء، وبإمكانية التقاضي أمامها في حال وجودها، أما سوريا نفسها فهي حتى إشعار آخر أرض الإفلات من العقاب لجرائم أشد وأعتى.
الوضع الحالي، بمآسيه أكثر من وعوده، يرشّح السوريات لامتلاك حرية التصرف بأجسادهن كما لم يكن الحال من قبل، سواء في الداخل أو الخارج. وامتلاكهن أجسادهن سيزيد من حالات اصطدامهن بمختلف أنواع السلطة، حيث لا بد أن تعني سلطة القمع في أحد جوانبها السيطرة على أجساد أتباعها أو ضحاياها. شاء من شاء وأبى من أبى، خرجت وستخرج أجساد السوريات إلى الفضاء العام، وإذا أخذنا في الحسبان ما يزيد عن ثلاثة ملايين ونصف رجل وشاب بين قتيل ومعتقل ومصاب بإعاقة فإن حضور السوريات في الفضاء العام وتبعاته ليسا منّة ولا نعمة خالصة، بل من المرجح اصطدام هذا الحضور بثقافة سابقة عليه، بما فيها ثقافة تزعم الوقوف إلى جانب حقوق النساء.
تتحمل غالبية السوريات الآن “بصمت” عبء المأساة على أنفسهن وأجسادهن، وعليهن سيقع عبء المستقبل، إذا كان من مستقبل لسوريا. فيما خص الأجساد تحديداً، من الخطأ الظن أنها ستبقى خاضعة ثقافياً كما كانت من قبل، أو سلعة جنسية يتم تداولها في الخفاء أو التواطؤ الناجم عن الفاقة الشديدة. ما نراه على السوشيال ميديا من انتفاضات عابرة لنساء هي مجرد تمرينات قد لا تخلو من عثرات، وقد لا تتفق مع تصور ذكور يرون أنفسهم مناصرين لحقوق المرأة. ربما نسمع، من بوابة فضح الانتهاكات، أصوات جديدة وغريبة في آن، غريبة أيضاً لأنها لا تشبه أصواتنا ولا أصوات نساء ألفناها من قبل.
*المدن