عبد الرحمن حلاق: “بنات لحلوحة “.. من عهر البنات إلى عهر الدولة

0

في دلالة العنوان
يُفترض بالعنوان في أحد جوانبه أن يكون البذرة التي تحمل في جديلتها الوراثية كل صفات وخصائص الشجرة ـ الرواية. وإذا اعتبرنا العنوان جملة تساؤلات، فستكون الرواية عندئذ مجموع الأجوبة عنها. ضمن هذا الإطار، يمكن الحديث عن كون العنوان مركز تفاعل بين الواقع، وبين النص الروائي، بعد أن تكون تلك التفاعلات قد نضجت تمامًا في ذهن الكاتب الذي يعمد إلى تلخيصها بتركيز عال في جملة واحدة، أو أقل قليلًا. وبذلك يبدو العنوان بنية متكاملة تحتاج من الناقد تبيان دلالتها ووظيفتها عبر قراءة تفكيكية تربط بين المنتج النصي والواقع خارجه.
ولن يكفّ العنوان عن طرح تساؤلاته إلا بعد الانتهاء من قراءة النص الروائي ومعرفة كافة الأجوبة عن تلك الأسئلة، وأكثر من ذلك سيجيب القارئ ذاته عن كثير من الأسئلة التي تولّدت في ذهنه، ولم بجب عنها النص الروائي، تلك هي المتعة في ملء البياض.
تنطلق دلالة العنوان في “بنات لحلوحة (الرواية القاتلة)” للكاتبة السورية ابتسام تريسي (دار ثقافة للنشر والتوزيع في الإمارات العربية المتحدة، 2021) من الإجابات عن أسئلة كثيرة، من مثل: من هي لحلوحة؟ ومن بناتها؟ وكيف يمكن لنص روائي أن يكون قاتلًا؟ ما الخطورة التي يحملها نص روائي؟ وفي اتجاه من تتجه هذه الخطورة؟ والسؤال الأهم ما هي سلسلة الأحداث التي أدت لأن تكون الرواية قاتلة؟ وضمن أي بنية اجتماعية تمّ ذلك؟ وبذلك يقدم العنوان نفسه عتبة أولى ومفتاحًا مركزيًا لقراءة النص. وبالنسبة لرواية (بنات لحلوحة)، سيعرف القارئ المتابع لنتاج الكاتبة أن هذه الشخصية مُستلّة بالأصل من نصوص روايات سابقة، فقد كان الظهور الأول لهذه الشخصية الإشكالية في الرواية الأولى للكاتبة (جبل السماق ـ سوق الحدادين)، حيث عاد بها صاحب الخان (حويسي) من طرابلس فتاة صغيرة، وبقيت حبيسة الخان خليلةً لحويسي إلى أن تمكنت من الهرب إلى حلب رفقة عشيق لها.
ثم تعاود هذه الشخصية الظهور في الجزء الثاني من جبل السماق (الخروج إلى التيه) لنجدها وقد ملّ منها العشيق الذي أسكنها في قبو فانقطع عنها ليلتقطها مدير المخابرات العامة (بدر) في إحدى الحفلات التي كانت تقام في حديقة الشهبندر، ويقوم بتشغيلها (عاهرة) في حي الدعارة الشهير باسم (بحثيتا). أما الظهور الثالث فكان في رواية (عين الشمس)، حيث نجدها وقد أصبحت صاحبة نزل في الحيّ المذكور، وتحت إدارتها مجموعة بنات صغيرات، وكذلك صاحبة علاقة قوية مع ضباط المخابرات. أما الظهور الرابع لهذه الشخصية فقدمته لنا الكاتبة في روايتها الأخيرة (بنات لحلوحة). والمبرر المنطقي لاستمرارية ظهور هذه الشخصية التي عايشت الاحتلال الفرنسي وما تزال إلى بدايات القرن الحادي والعشرين يكمن في مشروع الكاتبة ابتسام تريسي، التي تبنّت قضايا مجتمعها السياسية والاجتماعية، بكل ما فيها من أمراض وعلل، وبكل ما تختزله من ومضات إنسانية ومدنية. وفي روايتها الأخيرة، نجد لحلوحة في إضاءات الاسترجاع لشخصيات الرواية الأساسية، وهن البنات اللاتي احتوتهنّ لحلوحة وشغّلتهنّ تحت إدارتها في (بحثيتا). لقد كبرت الفتيات، وباتت لكل منهن حكايتها الخاصة، بعضهن تزوج وأنجب، وبعضهن أنجب من علاقات عابرة وكبر الأبناء لنجد أنفسنا أمام شخوص روائية تمثل الجيل الثالث، إذا اعتبرنا بنات لحلوحة الجيل الثاني الذي تفرقت به السبل بعد إغلاق حي بحثيتا، وتوزع فتياته في أحياء بعض المدن السورية، وإن كانت الفرقة لم تطل كثيرًا، إذ سرعان ما أعاد أبو فراس رئيس فرع المخابرات جمعهنّ من جديد ليوكل لهنّ مهام إجبارية متعلقة بحماية (الوطن ـ النظام)، وقد تطلبت الحبكة الروائية زمنًا ينداح بين نهاية أربعينيات القرن الماضي، وبدايات عشرينيات القرن الحالي، حيث تسرد الكاتبة سيرة حياة مجتمع يمور بالأحداث السّياسية التي تعصف به، ودور المخابرات في تهميشه وتصحيره في سبيل صناعة أبدية زائفة لمستبد لا يوفر وسيلة قذرة لأجل بقائه.
بإغلاق حي الدعارة (بحثيتا)، توزعت بنات لحلوحة، كما ذكرنا، في أحياء حلب، وبعض المدن السورية، في إشارة خفية من الكاتبة لانتشار هذه المهنة بشكل واسع، إذ يصعب القضاء عليها بقانون، أو قرار. وباستدعاء بنات لحلوحة من قبل رئيس أحد الفروع الأمنية، وتوزيع المهام المخابراتية عليهنّ، يسهل الاستنتاج أن هذه الدعارة المنظمة تتمّ بإشراف الدولة المباشر. ومع تفاوت المستويات الأخلاقية لبنات لحلوحة بين القبول بالمهام بكامل الرضى، والقبول بها تحت التهديد، تتفاوت كذلك نتائج تقاريرهن وأفعالهن. ومثلما كان لدى لحلوحة كلمة مسموعة لدى ضباط المخابرات، فقد أصبح لبناتها ذات الحظوة عند ضباط المخابرات، وبالتالي استطاع أولادهن أن يتقلدوا مناصب مرموقة في أجهزة الدولة، هذا الواقع صنع الكثير من القصص والحكايات التي يُفترض أنها تمتلك خصوصية سرية، وأي رواية تريد هتك هذه الخصوصية، أو السرية، ستكون بمثابة سلاح قاتل. ربما هذا ما يفسر ويفكك البنية الدلالية للعنوان الفرعي للرواية (الرواية القاتلة)، أما الكيفية الدرامية التي حِيكت بها الرواية، وحُبكت الأحداث، فمتروكة للقارئ كي لا يفقد عنصر التشويق، وكي يبقى قلق أفق الانتظار عاملًا محفزًا على متابعة القراءة.

العهر في الرواية
بسهولة ويسر، يمكن للقارئ عندما يكتشف خصوصية حي بحثيتا في حلب أن يتولد لديه أفق توقع ناجم عن صناعة مجتمعية تفرضها العادات والتقاليد والأعراف العامة، إذ يجد نفسه أمام مجموعة عاهرات اتخذن من بيع المتعة مهنة، هذا يعني أننا سنتوقع كثيرًا من السلوكيات المتهتكة والمنحلّة أخلاقيًا، وقد نتوقع كثيرًا من المشاهد الفاضحة، لكن أفق التوقع هذا هو أوّل الآفاق التي تتكسر عندما تأخذك الرواية مع كل شخصية من شخصياتها النسائية إلى بداياتها الأولى، إلى الطفولة المقهورة، وعدم مبالاة المجتمع آنذاك بهنّ. ولعل أقرب توصيف يمكن أن نطلقه عليهن أنهنّ خضعن لنوع من استغلال الأطفال بطريقة بشعة مارسها المجتمع بقسوة ولا مبالاة، وكانت لحلوحة بذلك هي المرأة التي عاشت عمرها في سبيل حمايتهن من الأذى، وتأمين بيئة حاضنة تحميهنّ من حيف المجتمع حسب قدراتها وإمكاناتها الخاصة، وذلك في زمن يحاصر العهر في حي واحد اعتاد المجتمع على وجوده كأحد النشاطات اليومية المعتادة في حياة الإنسان، إلا أن قرار الإزالة كان له من التداعيات الخطيرة ما يكفي لخلخلة مفاهيم المجتمع ذاته، ليس في اتجاه أكثر طهارة، وإنما إلى مزيد من الدنس والجريمة. إذ لم تعد الدعارة محاصرة في حي، وإنما توزعت على المدن والأحياء الباقية. وباستدعاء رئيس الفرع لبنات لحلوحة، وتوزيع المهام المخابراتية عليهنّ، أصبح للعاهرة سطوة وسند، وصار في إمكانها تجنيد مزيد من البنات ليزدهر عملها، فقد باتت الدعارة منظمة تنظيمًا دقيقًا من قبل أجهزة المخابرات، ولم يقتصر الأمر على بنات لحلوحة ممن عملن بالفعل في بحثيتا، وإنما امتد التجنيد ليطال أصحاب الوظائف الحساسة التي تتمتع بقدرة على التقاط الأخبار وتجميعها، فجُندت المعلمة وحيدة، وعاملة المقسم الهاتفي وسيلة، وزوجها في دائرة البريد، حيث يتم فتح وقراءة كل الرسائل الواردة والصادرة قبل وصولها لصاحبها، وكذلك تمّ تجنيد حسنية الحلاقة. بمعنى آخر، تم إحكام القبضة الأمنية على كل مصادر الأخبار في المدن، وبدأت زراعة الخوف في بنية المجتمع لدرجة فقدان الثقة بين الأخ وأخيه. وضمن هذه المعطيات، يغدو العهر في الرواية وسمًا لنظام استبدادي فاسد، وليس لمجموعة بنات أُجبرن على هذا العمل بفعل ظروف اجتماعية واقتصادية خاصة. كذلك يغدو العهر في مجمل أفعال النظام، ولن يقتصر على أفراد الشعب، أو المعارضين للنظام، وإنما سيطال أيضًا بعض شخصيات النظام، وبعض أعوانه الذين خدموه سنين عديدة. وليس من قبيل التخييل الروائي أن نجد مفتي الجمهورية حكمًا في مسابقة لملكات الجمال، وليس من قبيل التخييل أيضًا أن يحصل انفجار ضخم يطال كثيرًا من الشخصيات الهامة، وهم في معظمهم من أبناء بنات لحلوحة.
لا بد لهذا الفساد وعهر الدولة المنظم أن يفرز نقيضه، إن لم يكن على المستوى الجمعي، فعلى المستوى الفردي. ومن أعماق هذا المستنقع تخرج شخصية فريدة ابنة صفية لتوثق بقلمها تاريخ هذا العهر، وتشير بالاسم إلى مفرزاته وشخوصه، فكانت بذلك الشخصية الكاشفة في بنات لحلوحة، حيث آثرت العزلة لكتابة روايتها الخطيرة الفاضحة، التي تسببت في سلسلة جرائم قتل تطالها مع أختَيْها، جليلة ويمامة، بالإضافة لعبد السلام، الشاب الطامح بكتابة رواية يفوز بها بجائزة شهيرة، يسافر إلى الحيرانة بحثًا عن حكاية، وإذ بالأقدار تضعه أمام رواية جاهزة دفع حياته ثمنًا لها.
يُحسب للكاتبة جرأتها في رصد تحولات المجتمع السوري بكل ما فيه من قهر وضياع وخوف وصمت على أفعال السلطة السياسية وهي تُرسّخ دعامات ثباتها وديمومتها ضاربة عرض الحائط كافة قيم المجتمع وقوانين التطور الطبيعي، وذلك من خلال الانتقال التدريجي من مرحلة عهر البنات إلى مرحلة عهر الدولة.

*العربي الجديد/ ضفة ثالثة