ماجد عاطف: طول نظر

0

يجلس عصرا خالي الوفاض من أي فكرة، وفارغ الذهن.

في شبابه كان لا يرتاح. دوما شغلته فكرة من الأفكار المتناسلة التي يتبادلها مع أصحابه المسيّسين كلما التقوا، أو كلما تكلموا في شأن ما، أو كلما قرأوا، أو كلما أراد أحدهم أن يعبر عن موضوع يشغله. كانوا يجلسون في مكان ما يشربون الشاي، أو يتمشون يتكلمون في أي أمر من الأمور المزدحمة. أمّا في المعتقل، فكانت الجلسات بوتقة للأفكار التي تنصهر-أو تنصقل- فتلد أخرى. في الجامعة كانت المحاضرات مناسبات جانبية للتفكير الذاتي، وكثيرا ما كان ينحرف الموضوع من الأكاديميا، للهمّ الفردي أو العام. يكفي أن يبدي أحدهم -أو احداهن- ملاحظة لتنطلق الملاحظات الذاتية من كل صوب.

وفي الأسرة، كانت الاحتجاجات والمصادمات مناسبة للتفكير أو ابداء الفكر المختلط مع الهجوم على الوالد المتسلّط -أو الدفاع- في وجهه.

الآن مضت عشرات الأعوام، وتلاشت السياسة وانتهت الجامعة ولم يعتقل ثانية ولم تعد له أسرة. صار يعيش وحده في البيت الذي خلا من اخوته وأخواته باستقلالهم وزواجهم، بعد أن رحل والداه. لم يتزوج هو بعد أن علم من الطبيب أنه عنين. يعود من عمله في المصنع كما يذهب إليه. آلية مريحة تسللت من بين الاهتمامات والمشاغل لتستقر حياته على نمط محدد: أيام الأسبوع للعمل، ويوم العطلة يقضيه في البيت والتسوق الدوري لضرورات الأسبوع بأكمله. بل إنّه يكره الحديث هو الستينيّ ولا يتناول منه إلا المختصر فقط. في المصنع لا يتكلم إلا لغرض وظيفي، ومع الزملاء والجيران التحايا والأخبار الآلية. الأقارب يجاملهم باختصار في مناسباتهم وهو لا يطمع في ردهم لها، لأنه من دون مناسبات. السائق يكتفي بـ تفضل وهو يمد الأجرة له، وبـ شكرا وهو ينزل من السيّارة. الحلاق يشير له بقصة الشعر بأصابع تترافق مع الكلمات القليلة: واحد من فوق، وثلاثة من الجانبين. البائع لا يفاصله ويعرض عليه الثمن العادل الذي يراه ملائما وهو غالبا مناسب. قلّما يزور الطبيب. أخوته يكتفي بكلمات قليلة كالتهاني يرددها في الهاتف. لا يذهب إلى الحفلات والمقاهي والمناسبات العامة أو الثقافية، ولا يسافر أو يعرف الرحلات. راتبه بالكاد يكفيه، وهو لا يفكر في تغيير وظيفته رغم أنها ليست على شهادته أو في تخصصه. آثر عملا عاديا قليل المسؤوليات يلبي احتياجاته.

وكتبه التي تراكمت مع السنوات تخلى عنها. حمل غالبيتها ذات أزمة عاصفة مع الفكر والثقافة الحديثين، وألقى بها إلى حاوية النفايات. أبقى على بضعة كتب دينية ومختلفة فقط وأخذ يصلي. ليس له نصيب في الدنيا فلا أقل أن يكون له في الآخرة.

ليس له إلا التلفاز الذي ملّ من أفلامه المكررة ومسلسلاته الباهتة وبرامجه الوثائقية الميتة.

كان يجلس خالي الوفاض من أي فكرة، وفارغ الذهن تماما، يستشعر برودة دبت في أطرافه، وخمولة في عقله حولته إلى ما يشبه الخلايا اللحمية الصمّاء. كان جالساً في البيت القديم المألوف يحاول أن يفكّر في حاله.

//

عليه أن يغيّر من نفسه وأن يستعيد حياته التي كانت له. الأصحاب لا غنى عنهم وإن كانوا طفيليين مزيفين مدّعين لا يثبت أحدهم أمام نائبة. العمل اقترب فيه من التقاعد وبقيت له شهور قلائل. ليكن أنه عنين لا ينجب، لكن المرأة ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها ولو أنها، كما يرى مع مَن حوله، حافلة بالمتاعب. لا بأس إن ذهب في سياحة وجرّب الرحلات هو الذي لم يألف غير مدينته في بلده وليس له فضول من أي نوع تجاه غيرهما. ستسعفه أموال التقاعد وتسمح له بتجربة حظه. الحمدلله ما من أمراض مستعصية لكن دب الوهن في مفاصله وبدأ ظهره يؤلمه من الوقفة الطويلة أمام الآلات في المصنع، ناهيك عن اصفرار أسنانه وتسوس بعضها.

كلها مشاريع بعيدة وهو بحاجة إلى شيء قريب.

//

نظر إلى مكتبته فرأى بعض الكتب المتبقية بعد إلقاء غالبيتها، يعلوها غبار واصفرار. الجريدة سطحية ولن يجد فيها إلا أفكارا سريعة، وهي إلى ذلك بعيدة المنال فعليه أن يخرج ليحضرها. إنه متعطش لتحريك خاطره وتليين عقله وبعث بعض الأفكار. نهض ومد يدّه والتقط الكتاب السميك ذا الغلاف الارجواني المجلّد. كان رواية تاريخية تغوص في زواريب التوارة وتعيد النظر في تفاصيلها المتغيّرة مع الزمن. قرأه قديما وأبقى عليه لسبب في نفسه لا بد أنه قوي.

صنع شايا وضعه إلى جانبه، ومهّد سريره محضرا غطاءً ليمدده على جسمه الذي صار يبرد، وأشعل سيجارته المرافِقة. لمّا تجاوز صفحات الفهرسة والعنوان والتقديم، تجمّدت السطور في عينيه خطوطا متتابعة مثل أثلام حقل بارزة، مع عدم قدرة على رؤية الكلمات نفسها، خصوصا تحت الضوء العصري الضعيف الآتي من الخارج.

بعد ثلاثين عاما من عدم قراءة شيء، اكتشف أنه مصاب بطول النظر لا يمكنه قراءة الكلمات القريبة، وأنه يحتاج إلى نظارة!

*خاص بالموقع