صبحي حديدي: رمزيات الثقافة وسجونها

0

للناقد والأكاديمي السعودي صالح زياد، الأستاذ في جامعة الملك سعود، سلسلة أعمال متميزة في التنظير والتطبيق معاً؛ وهو بالتالي ينتمي إلى تلك الكوكبة التي تجتهد على جبهتين: تحرير الدراسة الأكاديمية من إسار التقليد والتضييق والسلفية النقدية، ومتابعة النتاج الإبداعي السعودي وتثمينه اعتماداً على المنجزات الأحدث في ميادين النقد والعلوم الإنسانية إجمالاً.
رسالته للماجستير تناولت، في سنة 1989 «قضية الوضوح والغموض في الشعر العربي وموقف النقاد منها»؛ ورسالة الدكتوراه كانت بعنوان «الأصالة والمحاكاة في نقد الشعر العربي الحديث» 1997. مؤلفاته تضمّ عناوين مثل «الأنواع الأدبية: تفاضلها وتراتبها» القارئ القياسي: «سلطة القصد والمصطلح والنموذج ـ مقاربات في التراث النقدي» ـ «مجازات الحداثة: قراءة في القصة السعودية والخليجية» «الشاعر والذات المستبدة» «الرواية العربية والتنوير» «آفاق النظرية الأدبية من المحاكاة إلى التفكيكية»و«سجون الثقافة» الذي صدر مؤخراًعن دار التنوير، وتتوقف عنده هذه السطور.

ينطلق زياد من «حتمية» أولى مفادها أنه لا وجود للإنسان خارج الثقافة، وبالتالي فإنها سجن على نحو ما، لكنّ الحرية والعدالة والحقيقة لا تُفهم بدورها إلا بوصفها ثقافة؛ وهذا يعني أنّ «أقفاص الثقافة وسجونها ليست كذلك إلا لأنها الشكل الممكن للحرية والعدالة والحقيقة» وأنّ علاج الثقافة هو الثقافة. على خلفيات هذه المطارحة يتناول الكتاب ما يُسجن في الثقافة وما يُحرّر، في إطار إنساني عامّ، ثمّ (وهنا جلّ موضوعات الكتاب) في إطار محلي عربي وإسلامي؛ ولهذا فقد اشتملت مقاربات الدراسة على مناقشة الارتهان للقوّة الاجتماعية، وللتقاليد والأعراف المهيمنة، ولقانون الرغبة والمصلحة، و«لما تنطوي عليه الذاكرة الجمعية من رمزيات وخيالات وصور ولاوعي». وهذه، لا يخفى، مقاربات تتكيء على منهجية النقد وفكر الاختلاف، لتفكيك ما يهيمن على الثقافة من ثنائيات وتمركزات؛ مستفيدة من الفكر الفلسفي والمعرفي والاجتماعي، ومن الأنثروبولوجيا الثقافية والنقد الثقافي وتحليل الخطاب.
يتوزع محتوى العمل على سبعة أقسام، أوّلها يتناول «سجن العقل وسجن الواقع» ويتضمن مناقشة مفاهيم العقل والعاقل والمعقول، وصيرورة الفكر الفلسفي، وثنائية المصلحة والمبدأ، ثمّ محاصرة العقلانية ونفيها. في قسم ثانٍ يتفحص زياد أوهام الحرية وحقائقها، فيتوقف عند القيمي والرغبوي في الحرية، والحرية إزاء الحداثة، والحرية في الواقع الراهن، وأخيراً الحرية والمقدس. فصول لاحقة تبحث في الماضوية ورفض الحداثة، ضمن خيارات مثل الخوف من المستقبل وعليه، والتشابك بين الذاكرة والثقافة والمستقبل، مقابل مديح الماضي، وقِدَم التراث وجدّته، وفكر النهضة مقابل مديح التخلف. وفي هذا المضمار لا تغيب عن المؤلف ضرورة طرح «الأسئلة النهضوية الأولى» وما لقيته من طريق مسدود، ثمّ الرفض الديني للحداثة استطراداً؛ ثمّ جدل الهوية والأصالة، حيث قلق التغيّر يفضي إلى أسئلة الهوية الوطنية، وإشكاليات الأصالة والتغريب ونرجسية الثقافة، والعامل الشعبي بوصفه حجاب العقل الفردي. مسائل أخرى تقتضيها مباحث «العيب» و«الشرف» بوصفهما ثقافة، ثمّ التمييز المهني والاجتماعي، فالمرجعيات الفئوية (وهنا مقام الحديث عن التمييز والاستبداد) فالتطرف من زوايا المفهوم والسياق (الصلة مع الإرهاب) ودور الواعظ والفقيه وجمهورهما. وأمّا القسم الأخير فيخصصه زياد لما يسميه «سجن الردّ» من حيث الذات والآخر، أو الذات متأوّلة ذاتها؛ والذات خارج النقد، وخارج الزمن.
وعلى امتداد هذه الأقسام يتطرق المؤلف إلى مسائل مثل السجن الأيديولوجي، وسجن المعنى، وسجن الحداثة، وثقافة التكاذب، وإقصاء الرشدية، والحرية المستبدة، وقداسة الدين مقابل قداسة السلطة، والحداثة المعوقة بالكهنوت الديني، وأدلجة الدين، والأسلمة، والهوية المنغلقة، ومأزق التعمية على التطرف، والمتلقي الضمني للإرهاب، والوعظ بين التنوير والتخريف، وسجن الفتوى… والجديد هنا هو النظر إلى الثقافة من زوايا متفردة، في كونها سلسلة «سجون» يتوجب أن تفضي إلى سلسلة موازية من الحريات؛ عبر تفاعلات جدلية بين ثنائيات كبرى متقابلة ومتضادة مثل الذات والآخر، الإسلام والغرب، العرب والعجم، الاعتدال والتطرف، القبيلة والدولة، الجماعة والفرد، الرجل والمرأة، السيد والعبد، الأصيل والدخيل، العقل والجسد، الدين والدنيا. وهذه، عند المؤلف، ثنائيات تسفر عن تمركزات واستقطابات وانحيازات، و«تنتج ثقافة أحادية، ومجتمعاً لا يرحّب بالاختلاف ولا يتسع بالتعدد ولا يكتشف قيمة النقد».
المؤلف أقرب إلى تيارات النقد الثقافي، ولا يخفى تأثره بطرائق فوكو في تحليل الخطاب، وآراء هابرماس في الحداثة، وأطروحات حنة أرندت حول العنف وثقافة الاختلاف. منهجياته تحليلية وعلمية وتتسم بجسارة فكرية في الدخول من بوابة الثقافة إلى صلب المشكلات الاجتماعية والسلوكية والأخلاقية. وهو يعتمد منهجاً استنباطياً بصفة عامة، فيطرح المقدمات ويناقشها على أكثر من محكّ، عقلاني دائماً. لكنه يستأنس أيضاً بمنهج الوصف التاريخي للوقائع التي تخدم مطارحاته وتمتد دلالاتها عبر الأزمنة والسياقات، كما يوظّف مقداراً غير قليل من طرائق المنهج الاستردادي، من حيث استدعاء الماضي للشهادة على الحاضر والجدل مع ظواهره.
دراسة رائدة، تضيف جوانب عديدة جديدة في الميادين التي تتناولها، خاصة من حيث التأطير الثقافي المعمق لظواهر التطرف والتسامح، والاختلاف والتعددية، والانغلاق وقبول الآخر، والسلم الاجتماعي مقابل الإرهاب والعنف. وبذلك فإنها تشكل واحدة من الهدايا البهيجة التي تصلنا، بين حين وآخر، من مشهد أدبي ونقدي سعودي يقاوم ويرتقي، ويجتهد بعمق ورصانة.

*القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here