سيجارة للألم.. سيجارة للحزن

0

حسان العوض

كاتب وطبيب سوري مقيم في السعودية، صدرت له مجموعتان قصصيتان “أشجار بحاجة إلى قطع”2013 “مرات أولى”2018 .

أوراق- العدد10

أوراق السرد

استيقظت مرة أخرى على لكمة من الضابط الذي كان زميلي في المرحلة الثانوية؛ تمزقت بسببها شفتاي، وانكسرت ثلاثة من أسناني، وملأ الدم فمي.

كان طرف الوسادة مبللاً بالدم.. لا بد أنه الضرس الذي خلعه لي صباحاً زميلي طبيب الأسنان في المشفى الذي نعمل فيه.

ذهبت إلى الحمام.. تمضمضت بالغسول المطهر؛ فعاد الألم.

دخلت المطبخ.. تناولت موزة ثم أخذت حبة مسكن.

توجهت إلى غرفة الجلوس.. شغلت التلفاز، وكتمت صوته.. كانت القناة تبث مرة أخرى صوراً للأطفال الذين ماتوا اليوم بعد أن قصفهم النظام الحاكم بسلاح كيماوي يعتقد أنه غاز السارين.. من بعيد يبدون كأنهم نيام، ولكن من قريب يبدو على عيونهم المفتوحة الدهشة من هذا الموت الذي غافلهم.. أحاول في سري ببرودة الطبيب أن أفسر ما حدث بأنهم تعرضوا لمادة كيميائية تشبه المبيدات الحشرية التي يدخل في تركيبها الفوسفور العضوي الذي يؤدي إلى زيادة إفرازات الجسم خاصة في الصدر حيث تسبب الاختناق بها ما لم يتم العلاج بسرعة بإبر الأتروبين.. أفكر كيف أن رأس النظام نعت معارضيه بالجراثيم؛ ما يتوجب عليه أن يستعمل ضدهم المضادات الحيوية، ولكن أن يستعمل المبيدات الحشرية….

عاودني ألم الضرس المخلوع؛ فتذكرت تلك المرأة التي رأيتها في طفولتي في المقبرة تدخن سيجارة على غير عادة نساء قريتنا.. وقتها قال أحد الأطفال إنها تفعل ذلك حزناً على قريبها المتوفى، وقال آخر إنها تفعل ذلك لأن ضرسها يؤلمها والدخان يسكن الألم.

أشعلت سيجارة ورحت أدخنها.. بدأ الألم يخف.

أشعلت سيجارة أخرى، ودخنتها، لكن الحزن لم يخف.

أطفأت التلفاز.

مررت بغرفة الأولاد.. كانت باردة؛ فأنقصت من عيار المكيف.. غطيت ولدي الكبير الذي يكبر الحرب بسنة واحدة، ورغم أنه لم يعش في البلد غير ثلاثة أشهر إلا أنه ما زال ينتظر انتهاء هذه الحرب حتى نرجع، ويرجع أعمامه الذين توزعوا في أكثر من بلد، فيلتقي بأبنائهم الذين صاروا مؤخراً يتواصلون معه على الواتس أب.. غطيت الصغير الذي يصغر الحرب بأربع سنوات.. قبلتهما، وأنا أحاول ألا أتخيلهما في تلك المجزرة الكيماوية.

عدت إلى غرفة النوم.. تسللت إلى السرير بهدوء، لكن زوجتي أفاقت وسألتني إذا كان الضرس قد أيقظني مرة أخرى.. هززت رأسي بالإيجاب.. ضمتني إلى صدرها، وأنا أحاول ألا ترى الدموع التي كنت أنزفها.

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here