بشكل يومي نلمس القفزات المعرفية والثورة التكنولوجية وفرص الذكاء الاصطناعي التي أدت إلى تغييرات في نهج الحياة، فهي أكثر رخاء مقارنة بالماضي، فالتطور التكنولوجي السريع وهيمنة التقنيات فرضت منحى حداثياً على تفاصيل حياتنا ما كنا لنتخيلها قبل عقدين من اليوم، مثل الإمكانيات المتطورة للهواتف الذكية، والاكتشافات المذهلة على مستوى الطب والصحة، آخرها اختبار الدم الذي ينبئ بالنوبة القلبية قبل عشر سنوات من حدوثها، واللقاحات والأطراف الصناعية التي يتحكم الدماغ بحركتها، وما توصل إليه علماء الفضاء، وغيرها الكثير في باقي المجالات..
وعادة ما نتساءل ماذا بعد!
كثير من الكتب ناقشت الاتجاهات المستقبلية للبشرية منها المستقبل المتطرف، وفي 100 عام: كبار الاقتصاديين يتوقعون المستقبل، وفيزياء المستقبل وغيرها…
تتشارك العناوين السابقة بذات الموضوع مع كتاب (الانسان الإله – تاريخ وجيز للمستقبل) للمؤرخ يوفال نوح هراري الأستاذ في الجامعة العبرية في القدس، والحاصل على شهادة الدكتوراة من جامعة أكسفورد، وعلى الدكتوراه الفخرية من الجامعة الحرة في بروكسل، وعلى جائزة بولنسكي للإبداع والأصالة، كما اختارته مجلة مياغازين ليترير الفرنسية ليكون ضمن قائمة أكثر المفكرين تأثيراً في العالم.
في مقدمة الكتاب المترجم إلى العديد من اللغات يشرح هراري سيطرة الذكاء الاصطناعي وتأثيراته، والسباق العالمي في مجالات الكمبيوتر والإنترنت وتكنولوجيا النانو والهندسة البيولوجية وجمع البيانات التي ستنتج شكلاً جديداً من الاستعمار هو الاستعمار البياناتي.
وبعد ذلك الاستهلال، يعود بنا الكاتب في عرض بانورامي للمنجز البشري بدءاً من ظهور الانسان في أفريقيا قبل 233 ألف سنة وتشكل الوعي وتطويع الطبيعة وقوانين المجموعات، مروراً بالثورة الزراعية واكتشاف الكتابة إلى الثورة الصناعية وحتى التاريخ الحديث قبل 500 سنة، وعندما يصل إلى تاريخنا المعاصر وسيطرة العقل يعرض علينا تنبؤاته نحو المستقبل بناء على سياقات العلم فيقول:
” قد.. تؤدي التطورات الى استبدال أنفسنا بآليات مهندسة بيولوجياً تجعل منا أناس مختلفين عما نحن عليه الآن” ويقول: ” قد.. تكون حقبة جديدة نحو امبراطورية عالمية بثقافة واحدة ومزايا بشرية متطورة.”
يبني هراري استقراءاته بناء على الإنجازات الناجحة وتحسن ظروف الإنسان بعد القضاء على مخاوفه الأولى (المجاعات والأوبئة والحروب) ما جعل العلم أكثر طموحاً لتحقيق المزيد من الرغبات البشرية كقهر الشيخوخة ورفع نسبة السعادة، وتحويل الإنسان إلى إله يتسم بقدرات بدنية وعقلية محسّنة.
من يدري ربما يكون هراري محقاً في تنبؤاته التي يحاول إثبات صحتها بناء على التسلسل التاريخي ومنجزات العلم.!
ألوهية البشر
إعادة هندسة وتطوير عقول البشر بحسب هراري هي نظرية تحتمل الصواب والخطأ كما يعترف بنفسه، لكن ترجيح نظريته بربطنا بالتكنولوجيا لا يعطينا تصورات أكيدة لما سيكون عليه الانسان المطوّر جينياً، أو كيف تتصرف الكائنات ذات العقول الأكثر ذكاء.؟
بعض أفلام الخيال العلمي طرحت تلك المسألة، فقدمت السينما عام 2014 فيلم (لوسي) الذي يحكي عما يمكن أن يحدث فيما لو ارتفعت قدرة عمل الدماغ البشري إلى حده الأقصى، وهو ما تعرضت له البطلة سكاريت جوهانسون، وتحولت إلى امرأة خارقة كلية المعرفة كاملة الذكاء تتحكم بخلاياها وتملك ذاكرة تعود إلى لحظة ولادة الكون، امرأة قادرة على اختراق طبقات الجلد بنظر ثاقب يرى كل العمليات الحيوية داخل الجسم وبالتالي هي قادرة على تشخيص الأمراض ولا تشعر بالألم أو بالجوع أو الحزن، ولا بالسعادة..
ربما تكون حالة البطلة أقرب مثال لنبوءة ألوهية البشر !
ماذا يريد الناس؟
يعتبر أرسطو أن السعادة هي الغاية القصوى لوجود الكائن البشري باعتبارها الخير الأسمى، فيما يرى هراري أن الإنسان الحديث لم يصبح أكثر سعادة مقارنة بأسلافه، فالنزعة نحو الاستهلاك والرخاء والرعاية الصحية والسلام لم تؤد إلى البهجة المنشودة، ولم تنقص حالات الانتحار.
لعل ظهور الانسان الخارق الذي يتحكم بنظامه الكيميائي الحيوي -لو كان ممكناً -سيكون قادراً ذاتياً على رفع مستوى سعادته وقهر المرض والعجز. كما أن تصورات هراري حول السلوك البشري وفق محددات الهرمونات والتشابكات العصبية والجينات، تعني أن نصبح نموذجاً يقارب الآلة، وسيعاني ذلك النوع من البشر من مشاكل مستجدة تحتاج إلى حلول.
تحفظات:
يبني الكاتب تصوراته عن القرن الحادي والعشرين بناء على أساسين
الأول: سبب تغيير الحقب التاريخية هي الأفكار.
والثاني: العلم والتكنولوجيا يشكلان مصير الإنسان.
ما يجعلني أتساءل عن الأثر الأخلاقي، وبالتالي عن وجودنا الإنساني وتصوراتنا وأفكارنا ضمن مجتمعاتنا القابلة ليس فقط للذوبان، بل وللتعرض للإيذاء من خلال إرادات وإدارات تتحكم بمصير العالم، فسيرورة الحياة مازالت مليئة بالأخطاء، والتهديد بالسلاح النووي قائمٌ، والبلدان النامية تعاني الجوع والفاقة، وهناك أجيال من الأطفال محرومة من التعليم، كما أن بعض الأمراض التي انقرضت عادت للظهور.!
الجدير ذكره أن الانتقادات طالت الكتاب كونه يفتقر إلى المرجعيةالعلمية والتوثيق الأكاديمي، ووفق بعض المقالات تلك النظريات لا تخلو من الخيال والتناقض.
لكن.. سواء اتفقنا أو اختلفنا مع الكاتب، سوى أن سياق الكتاب هو رحلة ممتعة لاستعادة أحداث الماضي بما احتواه من معلومات عن السلوك البشري، وتطور اللغة، وتكوين الأديان، ونمو الامبراطوريات، وعالم المال، والاقتصاد العالمي، والثورات والحروب وسلوك الحيوانات ومفهوم السعادة والثورة المعرفية.
*الكتاب من 413 صفحة صادر عام 2021 عن مشروع كلمة للترجمة/ أبو ظبي. *ترجمه للعربية حمد سنان الغيثي، صالح علي الفلاحي
*جريدة اشراق