زياد بركات: شكرا غزة.. جعلتني بلجيكيا في بلاد الناس

0

مجلة أوراق- العدد9

ملف منفى الحسرات و المسرات

في خريف ١٩٨١ كانت الرحلة قصيرة نعم، لكن مخيبة لآمال الفتى.

رأى حياته أمام عينيه تتهاوى وما من عزاء. آنذاك اكتشف أنه فلسطيني، وللدقة غزاوي، ولا يحق له بالتالي التقدم للدراسة في الجامعة الأردنية على قوائم التنافس التي تقدم لها زملاؤه في مدرسة طه حسين.

كانت المدرسة تقع في الطرف القصي من مخيم كان اسمه “شنلر” وأصبح بعد ذاك “حطين”. كان بيته الفقير في وسط المخيم، في منطقة منخفضة من المخيم، ومنه كان يمشي صباح كل يوم نحو كيلومترين على الأقل ليصل إلى مدرسة حملت اسم واحد من أكبر الرواد العرب في الأدب كما في النظرة الحداثية للحياة، طه حسين.

اكتشف الفتى لاحقا أن الحياة ضريرة، أن الكون أعمى، وعلى خلاف طه حسين كان عمى الكون مطبقا ومن دون تجليات تعوّض، أو خيال يسعف.

قال له موظف القبول والتسجيل من خلف الزجاج بنبرة ناهرة: قلت لك جواز السفر، هذا ليس جوازا، ثم أعطاه أوراقه كمن يرميها في وجهه.

– غزاوي… لا لا يوجد شيء، فكّر حاله أردني. قال الموظف لزميل له يسأل.

عاد الفتى مُهاناً، لقد دار من مكتب إلى آخر، وحده كان يدور في مكان حلمه الكبير والمغدور، قبل أن يفهم ما كان عليه أن يعرفه بداهة، إذ لا مكان هنا لك أنت وحدك أيها الفقير، الصغير والأبله القادم من مدرسة طه حسين، من مخيم شنلر المليء بالوحل والماء الآسن، لا مكان لك هنا.

رأى في ذلك اليوم زملاءه أنفسهم في ” طه حسين” وقد جمعتهم رهبة المكان فتكتلوا حول بعضهم البعض، رآهم يبحثون عن الكافيتريا، ورأى البريق، بريق المنتصر في عيونهم، ها هم يدخلون الجامعة أخيراً، وها هي المسافة تنأى بهم عن وحل تركوه هناك، حيث ستعود أنت.

كنت أريد أن أدرس الفيزياء، لا الهندسة كما فعل أغلبهم، وليس الأدب الإنجليزي كما حدث معي في الجامعة نفسها بعد عام تحت عنوان “دراسات خاصة” قبل أن يتم قبولي ضمن دفعة العرب والأجانب في اليرموك بعد ذلك بنصف عام لأنتهي إلى دراسة الأدب العربي رغم أنني مسجل لدراسة الأدب الإنجليزي.

في اليرموك تغيّر العالم في عيني الفتى. في بيئة حزبية بالغة الحيوية ويسارية على الأغلب نسي الفتى آنذاك أنه غزاوي ليجد بعد تخرجه من يذكّره بها: كان يتصعلك في وسط البلد في سنوات عطالته عندما أوقفه شرطي مرور: هييييه هييييه ألا تذكرني؟؟!!! قال له شرطي المرور، فحدق ولم يتذكر، وعندما فعل استغرب الشرطي عطالته واقترح عليه أن يتقدم بطلب توظيف لديوان الخدمة المدنية، فقال له أن ذلك غير مسموح له لأنه فلسطيني، فنظر له الشرطي، زميله المفترض في جامعة اليرموك، باستغراب أكبر قبل أن ينطق بتعبيره الغريب الذي ظل يرن كجرس أجش في أذنيه حتى يوم الناس هذا.

قال له الشرطي: بلجيكي… يعني.

أصبح الفتى فجأة بلجيكيا، وضحك عليه أحد أصدقائه آنذاك لأنه لم يكن يعرف أنه بلجيكي من الأساس.

شكرا غزة إذ أفردتني عن الخلق، إذ رميتني في الحياة وحدي، إذ بهدلتني في بلاد الناس.

شكرا غزة إذ رسمت حدودي في فراغ مشاعر الآخرين، إذ تركتني تحت رحمة ما تيسر من شفقتهم إذا فعلوا، أو تفضلهم إذا ساعدوا لتسهيل معاملة حكومية أو التوسط لدى رب عمل ما في هذا الكون الحقير، اللامبالي، الأصم تماماً والأعمى.

بعد سنوات أسعفته الموهبة ربما والصدفة حُكماً في العمل في صحيفة “الدستور” بعد عطالة مديدة وفقر مقيم، أيامها، كيلا أظل أكرر آنذاك، كتب كبغل، وقرأ كحمار، وشاهد أفلاما سينمائية ومسرحية بلا عدد، لا لأنه يحب ذلك، وهو كذلك بالتأكيد، ولكن “ليبني نفسه” وللدقة لينتشلها من وحل عالق في الأحذية والقدمين والقمصان والأصابع والشعر الأسود الطويل.

شكرا غزة، يا لعنتي، يا فخاري، يا أمي المخذولة، أيتها المرمية على أبوابهم كبحر ميت في حقول سبانخ وفجل وبصل مسوّرة بالصبار.

شكرا غزة لأنك كنت أمامي دائماً تذكرينهم بأنني البلجيكي التائه، البعير الأجرب الذي عليه وحده أن يكد أكثر، وأن يظهر حسن نيته أكثر ودائماً ليفوز بمجرد مقعد في الحافلة ولاحقاً في الطائرات.

شكرا غزة، واسمحي لي أن أسرد على مسامعك الكريمة قصصاً قصيرة، بارقة، وحزينة، عن رجل يستغرب معارفه أنه محترم على الرغم من أنه من غزة، عن رجل تعوّد أن يُنادى عليه متأخراً، وأن يدخل الجامعة متأخراً، وأن يجد عملاً متأخراً، وأن يسمح له دخول بلاد الآخرين متأخراً وهو ينتظر رحلة جواز سفره ببن المكاتب هناك… فيما هو ينتظر وينتظر في ليل المطار البارد أن يسمحوا له بالدخول، فالفيزا موجودة، والموافقة موجودة، والبرد قارس، ولا سيارات في الليل لتقله إلى حيث سبقه زملاؤه، والى حيث سيصل دائماً متأخراً عنهم هناك.

شكرًا غزة… لأنك جعلتني أشتري السيارة قبل أن أحصل على رخصة القيادة في الأردن. شكرًا غزة، ولك أن تتخيلي: لم يصدقوا كلهم… كلهم، حتى الله لم يصدق آنذاك أن القانون ينص على ضرورة أن يقدّم البلجيكي وثيقة بملكية سيارة قبل أن يتقدم لامتحان السواقة… حتى الله، وهو في المناسبة إله الجميع فيما أعلم، من بلاجكة ورومان وسويسريين وأردنيين وسوريين ومصريين وغيرهم من أمم، حتى الله نفسه لم يصدق.

شكرا غزة لأنك صدقتني وحضنتني وأحببتني، ولأنك سمحت لي أن أحبك كما تحب الأم طفلها المُقعد والمشوّه، وكما يحب المازوشي ضرب نفسه بالنعال.

شكرا غزة لأنك رغم كل ما فعلته بي تظلين مثلي، فلقد خلقتني على هيئتك: كثير التسامح، عظيم الصبر والتحمل والبلاهة، تخيلي أنني ما زلت أصدق أكاذيبهم، وفي سري أضحك… أضحك… أضحك، يا لبؤسهم ويا لحزنك يا حبيبة عمري كله… ولعنتي التي أعلقها في عنقي كحجاب محبة وغفران

*

بالنسبة لكثيرين يقدم إدوارد سعيد خبرة مختلفة وكاشفة لكنها ليست كذلك لفلسطيني فقير ظل يكتوي بنار تلك التجربة. ليس هذا انتقاصاً من فتوحات الرجل الأكاديمية في المنفى وسواه بل محاولة لتحرير التجربة الفلسطينية من الصورة التي أنتجها والتي لم تعد تلائم خبرة الألم نفسه وهو يتكثف ويأخذ أشكالاً جديدة. وجد الرجل نفسه في كلية فيكتوريا، وسط أبناء الطبقة الأرسطوقراطية. كان ثرياً مثلهم ومسيحيا مثل بعضهم، ويرتدي الشورت كبقيتهم لكنه كان يُفرد كل مرة، يُعزل تلقائياً، يغدو وحيداً عند باب الكلية وهم يغادرونها.

حسناً، لقد كان خارج مكانه، خارج جماعته الأم، بينما تتكرر حالته على نحو أكثر تعقيداً مع الغزّي، أي أبناء غزة ويطلق عليهم وصف الغزازوة للتحقير لا للتمييز، ويندر أن يطلق عليهم وصف الفلسطينيين.

في حالة الغزي فإنه لا يُطرد خارج المكان بل خارج الجماعة الفلسطينية، خارج قبيلة الألم المعترف بها، فهو أقل من أن ينتسب لمدن فلسطين الكبرى، ولجوؤه أقل قيمة من لجوء ابن القدس أو حيفا، ولاحقاً حدث الأسوأ، فقد انفصل عن الجماعة الأم التي طردته من قبيلة ألمها وتحوّل رسمياً إلى مواطن “القطاع” وللدقة ساكن القطاع، فحتى الجغرافيا هنا أصبحت أكثر تعويماً لألمه، وبالطبع إنكاراً.

أنا الآن في الخمسين… وأنا أغبط منفى رجل مثل إدوارد سعيد، فلقد كان منفى معترفاً به على الأقل، وهذا يعني أن هناك صدراً جاهزاً ومتفهماً ينتظره في كل مرة إذا أراد أن يبكي عليه، بينما في حالتي، وهي ليست فردية، فإن عليّ أن أشرح وأوضّح كما في الفقرة الأولى ليعترف الآخرون بمجرد حقي في الألم.

هل عليٌ أن أواصل النباح؟!

هناك من هو أقل من أن يكون فلسطينياً، أقل من أن يكون إنساناً حتى في صفوف جماعته الأم.

نعم فلأواصل النباح…

*

تشبه الحيوانات بعضها البعض بالنسبة لنا، تختلف الأرانب في ألوانها لكنها تظل أرانب. الأرنب هو الأرانب كلها، بماضيها وجيناتها وركضها السريع في حقول القرنبيط.

لنفترض ما سبق مقدمة لتأمل صور اللاجئين السوريين في الغرب لا الدول العربية، فهناك دائما وأنت تَقَلُّب الصور ثمة فتاة صغيرة في السن ترتدي معطفاً أحمر. لسبب غامض تتابع حركة تلك الفتاة في الصور التي بثتها رويترز. إنها تقبض على طرف ثوب والدتها التي يصدف أن تكون شابة وجميلة لكنك لن ترى جمالها. لن تلحظ أبداً في مشاهدتك الأولى للصور أنف أخيها الأصغر على الأغلب وهو يرشح. فقط سترى تلك الدهشة في نظرات الفتاة، أقصد الدهشة السلبية، الأقرب إلى الصدمة، الأقرب إلى البلاهة: إننا هنا نتأمل يا “س” أرنبة صغيرة وسط حقل شاسع من الألم المُنكَر على حدود بلغاريا.

نميّز الفتاة بلون معطفها الأحمر، يا للدلالة!!! وإذ نفعل تختفي الألوان الأخرى فالصورة بالأسود والأبيض، البقية بالأسود والأبيض، ما يفسر عدم انتباهتنا لجمال الأم وأنف الأخ الذي يرشح.

إذ نفعل هذا تحضر السينما على الفور. قائمة شندلر لسبيلبيرغ، وتحديداً تلك الفتاة اليهودية التي تتجول وسط الدمار بمعطف أحمر.

لعله الألم هنا هو القرابة الوحيدة التي تربط بين جميع البشر. ربما، لكنها الألوان هنا تنفجر، فلأوضّح:

كان كاتب المقال يقيم في مخيم على حدود العاصمة الأردنية عمان. كان طفلاً بالتأكيد عندما اكتشف الكبار أنه يرتدي فردتي حذاء بلونين مختلفين فضحكوا، وضحكنا نحن أكثر عندما كبرنا قليلاً واكتشفنا أننا نلبس معاطف نسائية أحياناً وردية اللون، أو قمصاناً بياقات عريضة حمراء فاقعة، وكان ذلك لا لأننا فقراء وحسب بل لأننا لاجئون، ولأن اللاجئين يتلقون مساعدات من وراء البحار، جزء منها ما بلي من ثياب الأوروبيين فتركوه أمام الأبواب ليُجمع ويُوضع في كراتين ضخمة تجد طريقها عبر السفن إلى مخيمات اللاجئين. هناك كانت تُوزع كيفما اتفق في “بقج” صغيرة يصدف أن تكون في إحداها فردة حذاء وفي أخرى الفردة الأخرى، إلخ، إلخ.

ماذا يعني كل هذا الهراء؟! ليس تسول التعاطف بالتأكيد بل التمييز بين الأسود والأبيض الخاص باللاجئ والألوان القادمة من خلف البحار، وأظن أن الفكرة قد تكون ساذجة لكنها كاشفة.

كأن الألم الحقيقي، الأعمق من فكرة الاقتلاع، ألم التحديق في الموت، ألم المطرود من الإجماع والجماعة، يُراد له أن يُنسى… فإذا به يقاوم الرغبة المتسلطة بمحوه بتمييز لونه بالأحمر.

اللاجئ الفلسطيني الصغير والأبله يُرِد فيُلبَس من حيث لا يدري أو يرغب ثوباً بلون فاقع، يحدث هذا للسورية الصغيرة بمعطفها الأحمر على بوابة أوروبا بعد نحو خمسين عاماً، ويحدث هذا لفتاة سبيلبيرغ اليهودية، أختي أنا الفلسطيني الأقل من أن يُعترف به بين قومه، وشقيقة تلك الفتاة السورية التي إن دققت النظر سترى أن ذقنها الصغيرة ترتجف من البرد.

شكراً للألم، جعلنا أقرب إلى الحيوانات في هذا الكون.

ليتنا كنّا أرانب يا “س”.

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here