مجلة أوراق- العدد9
ملف منفى الحسرات و المسرات
ربما نجا المرء من مصائر مروعة، لكن لا وجود لضمانات أنه سينجو بالضرورة من كثافة إزعاج يومي يستهدفه كل يوم على الشاشات وفي تويتر وعلى لافتات يراها في الطريق. ذلك ما دفعني لأبحث عن لائحة البلدان التي يستطيع الواحد منا أن يطفش إليها دون تأشيرة، وظننت أنني وجدت الحل أخيراً: الإكوادور.
ليس المقصود بالإزعاج اليومي مجرد ما تتفتق عنه أذهان ناشطي الشعبويات اليمينية الأوروبيين في الدعاية لقضيتهم، من منشورات وملصقات طرقية وغرافيتي، في الواقع فإن بعض التصرفات التي يسلكها أنصار”نا” عن نية طيبة لا تقل إزعاجاً، والدليل هو اضطرار المرء لاستخدام لهذه الـ”نا” الجماعية التي تذوب فيها أي فروقات فردية ضمن هذه الجماعة التي يصر أنصارنا طيبو النية أولئك على التعامل معها ككتلة واحدة.
في البداية لم تكن أمنية التصرف كفرد كونيّ، ضاغطة للغاية، كنت أسلّم من منظور فكاهي بحقيقة أنّني ابنة ثقافة وسيرة حياة تلتصق بي ولا مشكلة لدي في ذلك حتى لو تم تصنيفي وفقها، ولكن حلم “الفرد الكونيّ” هذا بدأ يتكثف أكثر فأكثر بعد التعرض لدفق إعلامي يستعرض قضية “اللاجئين” بهوس على مدار الساعة، هناك أيضاً أولئك ممن “يحبون” اللاجئين من أبناء المجتمعات المضيفة، هكذا عموماً “يحبون اللاجئين”، بعض الأصدقاء لا يتركون فرصةً تمر دون تذكير المرء بتضامنهم الدائم معه، حتى بات ما كنت أود لو اقتصر على وضع قانوني وإجرائي يتحول إلى هوية محكمة، وبت أفتقد الوقت الذي كنت فيه فرداً بملامح وسيرة لا مجرد وجه تائه في قضية، ومن ثم وجدت أنني اكتسبت بسرعة مهارة الشعور بالإهانة من أي سلوك أواجهه، إيميل دعوة إلى نشاط ثقافي، رسالة تضامن أو أي حديث ذي طابع هوياتي يتضمن أسئلة متلاحقة ضاغطة عن كيف أشعر الآن وماذا يمثل مفهوم المنزل بالنسبة إلي ولماذا يقضي السوريون الكثير من الوقت على فيسبوك، والتي كنت أجيب عنها مسبقاً بأريحية تامة.
إحدى لحظات الذروة كانت إعلان حظر السفر إلى الولايات المتحدة، لمواطني ست دول – قبل إضافة كوريا الشمالية وفنزويلا وتشاد بعد ذلك – لائحة الدول حملت اسماً له رنة شاعرية بالإنكليزية تصلح لأن تكون عنوان قصيدة سوداوية: (countries of concern) – دول القلق. رغم إحباط هذا الحظر لرحلة مهنية كنت قد خططت أن أذهب فيها إلى واشنطن، لكنني لم أشعر بخسارة فادحة للغاية، أعني من بين مساحات شاسعة يصعب عليّ دخولها في العالم متضمنة معظم الدول العربية، لم يكن مهماً جداً أن يضاف إليها هذا القسم من القارة الأمريكية الشمالية. مع ذلك كان عليّ مرة أخرى أن أتعرض لسيلٍ من تعبيرات التضامن والتعاضد والمواساة.
قد لا يبدو مضمون الحديث أعلاه قمةً في النبل والأخلاق، إذ لم يمكن أن ينزعج أحدهم بسبب تضامن الآخرين معه؟ هذا صحيح، ولكن أيضاً قد تحل لحظات على أحدهم هذا تكون جلّ أمنياته فيها أن يترك وشأنه. في هذا التوقيت بدأت أجري الأبحاث عن الدول التي يمكنني أن أحمل حقائبي وأقصدها دون أن تعاملني سفاراتها كوباء، وهنا بدأ حلم الإكوادور.
لا يحتاج دخول الإكوادور إلى تأشيرة، ليس هناك عدد كافٍ من المهاجرين لتنشغل وسائل إعلامها على مدار الساعة بهذا الموضوع، هناك قد أعثر على أشخاص لا يعرفون ما هي سوريا، وأتجنب استجواباً مطولاً بشأن ما يحدث هناك، وبإمكاني الاستمرار في أداء عملي المستقل الذي أستطيع تأديته من أي مكان.
هنا بدأت المرحلة التي أصبحت فيها معنية بالشأن الإكوادوري، أتابع تصريحات الرئيس – حينها – كوريا باهتمام، وأقرأ مدونات لأجانب مقيمين في الإكوادور يقدمون فيها نصائح لمن يود السفر إليها، ويحذرون من الانجراف وراء أحلام الحياة الأمازونية وسحر الأنديز التي يجري خلفها كما يبدو، الكثير من المتقاعدين ممن يبيعون أملاكهم وينتقلون للعيش في الإكوادور ليجدوا أنّ الحياة ليست كما توقعوها.
بدأت هذه الأحلام تتهاوى، بعد أن قرأت تصريحاً لكوريا يوبخ فيه المجتمع الدولي ويتعهد بأن الإكوادور وإسبانيا ستقومان بتلقين العالم درساً في كيفية التعامل مع اللاجئين، وكذلك لأنني اكتشفت أن قدرتي على المغامرة في أسوأ أحوالها.
كان عليّ أن أعود للتأقلم مع حياتي والإصرار على محاولة العيش كأي فرد كونيّ، أتمشى في طريق المنزل حاملة المشتريات، أبتسم للمارة كأي فرد صالح، مواد أولية صحية للطهي، علبة من حبوب الكينوا لتحل محل الأرز بسعراتها الحرارية المنخفضة. أثناء طهو هذه الحبوب أحدّق في النافذة وأفكّر في سنوات صباي الأولى، سبق أن مضت فترة من الجموح في السنوات التي تسبق العشرين، كان أي جار أو فرد من العائلة ليهز رأسه مستشرفاً مستقبلاً شريداً لي في الأزقة، وفرصاً معدومة للزواج، أي رجل “محترم” سيرغب بالزواج من هذه المراهقة الداشرة التي لا تتزحزح من البارات؟ الآن في بلدةٍ صغيرة بعيدة، أتحرك بهدوء لأجهز طبق كينوا يحفظ ما تبقى من صحتي العامة ولم تدمره جرعات النيكوتين والكافيين، أسلوب حياتي الآن ردٌ حاسم على تلك الاتهامات والتكهنات بشأن مستقبلي، لا أعرف في الواقع إن كان هذا انتصاراً أم هزيمة، إذ عندما أراقب العالم من خلف هذا الساتر الزجاجي الشاحب، من مكاني فوق بخار القدر الذي يلفح وجهي برائحة الحبوب عديمة النكهة التي تتشرب أضعاف حجمها من الماء، متظللة بالجدران السميكة لحياة باهتة من عبء الأسئلة والتجارب والقوالب الهوياتية المضنية، تنسكب في رأسي كل تلك الأحلام الحارة دون أن أستطيع منعها إلا بسيل من الماء الباردة أصبه على رأسي في نهاية كل حمام. السيرة التي كان يمكن أن تنتهي إليها الفتاة الخرقاء التي كنتها، الشغف، ابتسامة تضيء المكان، أقل برودة من تلك التي أحيي بها المارة بتأدب، استقبال التجارب المزعجة برضا والتعامل مع نتائجها مقابل استرجاع ذلك الجموح الأسود الذي سبق وأن تخليت عنه بجبن شديد حين أنكروه علي، حتى ذوى مخلفاً بقايا من ظلال باردة شلتني عن الانخراط في أي انفعال، الأحلام الحارة التي تسري خلف بشرتي الجليدية، وتشق الأرض بعشق كما سبعة أنهار تجري بعيداً في الإكوادور.