هل يمكن أن تكون القيم الروحية نابعة من الحاجة إلى التكيّف مع الواقع البيئي والحياتي للمؤمنين بها، وليس فقط من أوامر دينية وأخلاقية منزلة أو موحى بها، وإذا كان الحال كذلك، فلماذا تصبح القيم الروحية، أحيانا، أهم من الحياة نفسها؟
يتكرر هذا السؤال حين يعصى فهم ظواهر دينية وثقافية، فكيف، على سبيل المثال، يأبى الفلاحون الفقراء في الهند أكل البقرة، ويمكن أن يتضوروا جوعا حتى الموت على أن يفعلوا ذلك؟
يحاول كتاب «أبقار، خنازير، حروب وساحرات: ألغاز الثقافة» لمارفي هاريس، عبر مجموعة من الأمثلة المتعددة المقبلة من ثقافات مختلفة في العالم، حل بعض هذه الألغاز، مقترحا تفاسير من الحياة الواقعية، وبذلك، يقدم، من دون أن يقصد ربما، حلولا لقضايا تؤرقنا وتتمحور حول ثنائيات، من قبيل صراع الحداثة والقدامة والعلم والدين والأسطورة والواقع.
يشبّه هاريس تبجيل الهندوس للأبقار باعتبارها رمز كل شيء حي أو هي «أم الحياة»، كما أن مريم العذراء، بالنسبة للمسيحيين هي «أم الله»، وفي حين يعتبر بعض المهندسين الزراعيين، أن النهي عن ذبح البقرة يخفض من فاعلية الزراعة لأن الحيوانات عديمة النفع، ولا تقدم الحليب أو اللحوم وتنافس على الأراضي الزراعية بشرا جائعين وحيوانات مفيدة غيرها، وهذا عمليا هو نتيجة مباشرة للتعاليم الهندوسية غير العقلانية، والأسوأ من ذلك طبعا، أن حب البقرة لا يحفز على حب الإنسان، وبما أن المسلمين يأكلون لحم العجل يعتبرهم كثير من الهندوس قتلة أبقار، وما تزال هذه القضية سببا رئيسا للنزاعات بين الهندوس والمسلمين.
قدسية الحفاظ على النظام البيئي
يجد هاريس تفسيرا واقعيا للمسألة، بكشفه أن نقص حيوانات الجر، هو التهديد الجدي الذي يحيق بمعظم عائلات الفلاحين الهنود، وعندما يقع ثور ضحية المرض، فسيخسر الفلاح مزرعته، وقد خسرت ملايين الأسر الفلاحية أراضيها لحوادث مثل هذه، واضطرارها للعمل المياوم نتيجة ديون ترتبت عليها، وفي كل عام يهاجر مئات الآلاف من المزارعين المعدمين إلى المدن الزاخرة بدورها بعاطلين عن العمل ومشردين. المزارع الذي يمتلك بقرة في الهند، بهذا المعنى، يملك مصنعا لإنتاج الثيران، ويعتبر هذا سببا وجيها لتحريم بيع البقرة للذبح، وهو ما يفسر أن يتحمل الفلاح أبقارا لا تدر أكثر من 500 رطل حليب في العام، وأن يقتصر دور البقرة على ولادة حيوانات الجر من الثيران، وبذلك يكون الاعتقاد الديني بقدسية البقرة، مهم للحفاظ على النظام البيئي الهندي، ولو تم استبدال هذا النظام القديم بنظام حديث، فهذا سيخل بالنظام الاجتماعي أيضا، لأنه يعني انتفاء الحاجة لوجود عشرات الملايين من الفلاحين أنفسهم، لأن الميكنة والآلات ستحل مكانهم.
رغم الهالة الدينية للبقرة ومنافعها الاقتصادية لفقراء الهندوس، وهي تفيض عما ذكرناه، فإن هذا التقديس يتعرض لضغوط، حين يتعرض وجود هذا الفلاح للخطر، ففي مجاعة عام 1944 بلغ ذبح الأبقار، وحتى الثيران، مستويات اضطرت البريطانيين لاستخدام الجيش لتطبيق «شرائع حماية البقرة»، كما حصل ذلك عام 1967 في منطقة بيهار، كما أن مصالح الفقراء في هذ الأمر لا تتطابق مع مصالح الأغنياء، فالفقراء يعتبرون حب البقرة ترخيصا للتنقيب عن الطعام في النفايات، بينما يعتبره الأغنياء نوعا من النهب، ولذلك اعتبر غاندي البقرة بؤرة الصراع المركزية، لرفع الهند إلى مرتبة الأمة، أما بالنسبة لهاريس فإن حب البقرة يؤدي لحشد إمكانيات البشر الكامنة للكدح، ضمن نظام بيئي منخفض الطاقة.
لماذا يكره الرعاة الخنازير؟
ما الذي يجعل، في المقابل، الخنزير مكروها لدى المسلمين واليهود؟ يمكن أن نبدأ الأمر بالتحريم الديني، الذي أعلن في سفري التكوين واللاويين، أن الخنزير نجس ويسبب الدنس، وهو ما حصل أيضا في الدين الإسلامي، وفي المقابل فإن الخنزير محبوب في نيوغينيا والجزر الميلانيزية، حيث يعتبر المزارعون هناك الخنازير حيوانات مقدسة. من التفسيرات اليهودية والإسلامية أن الخنزير حيوان قذر يتمرغ في بوله ويأكل البراز، غير أن الأبقار التي تربى في حيز ضيق تغوص هي الأخرى في بولها وروثها، بل إنها يمكن أن تأكل البراز البشري إذا جاعت، والتفسير الثاني، على لسان موسى بن ميمون، طبيب صلاح الدين الأيوبي، إن للحم الخنزير «أثرا ضارا وسيئا في الجسم»، وقد اكتشف في القرن 19 أن داء الشغرية، سببه أكل لحم الخنزير غير مكتمل الطهور، ولكن ماذا عن الأمراض التي تنقلها حيوانات يستهلكها المسلمون واليهود، فلحم العجل غير المطبوخ جيدا مصدر للطفيليات والديدان الشريطية، كما تنقل الأبقار والماعز والأغنام داء بروسيلا، وهي عدوى ذات منشأ بكتيري، تترافق مع الحمى والقشعريرة والتعرق والوهن والإجهاد والآلام، كما أن الماعز والأغنام تنقل الحمى المالطية، ومرض الجمرة الخبيثة، الذي تنقله والأغنام والماعز والأحصنة والبغال، وصولا إلى أنفلونزا الطيور وجنون البقر.
الثقافة وسيلتنا للتكيف البيولوجي
يقترح هاريس حلا لمعضلة الخنزير، بتبني تعريف لما هي الصحة العامة يشمل العمليات الأساسية التي يتمكن البشر والحيوانات والنبات بواسطتها، التعايش في جماعات طبيعية وثقافية قابلة للحياة، ويقترح أيضا أن التوراة والقرآن حرما الخنزير، لأن تربيته تشكل خطرا على سلامة المنظومات البيئية الأساسية للشرق الأوسطـ، فالعبرانيون كانوا بدوا رحلا متكيفين ثقافيا مع الحياة في المناطق الجرداء القاحلة الوعرة قليلة السكان، وكانوا يعيشون على قطعان الأغنام والماعز والأبقار، وحتى بعد تحضرهم بقي الرعي نشاطا اقتصاديا كبير الأهمية، وضمن النمط الشامل الكلي الذي تمتزج فيه الزراعة بالرعي شكل الحظر الإلهي للخنزير استراتيجية بيئية سليمة، فلم تكن تربية الخنازير ممكنة، وكانت تشكل تهديدا أكثر مما هي استثمار، ففي المناطق غير الحرجية التي تعتمد في ريها على الأمطار تكون الحيوانات الداجنة الأفضل تكيفا هي المجترات، الأبقار والأغنام والماعز والجمال، فيما يعتبر الخنزير كائن أحراج وضفاف أنهار مظللة، وأصناف غذائه تنافس البشر، لأنه لا يستطيع العيش على العشب وحده، وليس ثمة مكان في العالم يربي رعاته الرحل الكثير من الخنازير، كما أنه ليس مصدرا للحليب ولا يمكنه قطع مسافات طويلة.
فكرة هاريس الأساسية في الكتاب هي أن الثقافة هي وسيلتنا الأساسية للتكيف البيولوجي، ويستخدم هذه الفكرة لشرح قضية شديدة الأهمية وهي إنه في المجتمعات البشرية لا يتم بسط السيطرة الجنسية بناء على أي من الجنسين أكبر أو أكثر حزما، وإنما بناء على الجنس الذي يتحكم بتكنولوجيا الدفاع والعدوان، وبناء عليه فإنه عندما كانت الحرب بأسلحة بدائية محمولة، وسيلة بارزة للتحكم بعدد السكان كانت أنماط حياة الذكور الشوفينيين بالضرورة مسيطرة، وبالتالي ففي ظروف العالم الحديث، يتوقف تكافؤ الجنسين على تقلص الحاجة للجيش والشرطة، أي لتقلص الحاجة للعدوان والدفاع.
بعد شرح طويل لمجموعة من الثورات التي قام بها زعماء دينيون، يخلص هاريس إلى أنه في الثقافة، كما في الطبيعة، تفشل المنظومات مرارا في الحياة، ليـــــس لكونها غير عقلانية، بل لأنها تواجه منظومات أخرى أفضل تكيفا وأكثر قوة، وأن الثـــورات تلجأ لطرق متهورة في مواجهة احتمالات هائلة لإسقاط الطغــــاة، وتتقبل الطبقات والأعراق والأمم تحدي مثل هذه الاحتمالات «ليس لأنها مخــــدوعة بأيديولوجيات غير عقلانية» بل لأن البدائل مقيتة بما يكفي لخوض المخاطر العظيمة.
المصدر: القدس العربي