«لقد أنقذت زواجي». هذه جملة تكررت في رسائل رجال ونساء متزوجين من إنكليز إلى كايت فوكس، مؤلفة كتاب «مراقبة الإنكليز». وغالبا ما كانت هذه الجملة يتبعها التصريح الطريف التالي: «كنت أظن أن زوجي (زوجتي) يعاني (تعاني) من مرض عقلي، لكنني فهمت الآن أن الأمر وما فيه أنه إنكليزي (إنكليزية)»! أرّق فهم أسباب السلوك الإنكليزي، الكاتبة، وحين لم تفدها، وهي الإنكليزية، قراءة عشرات المراجع والكتب والأوراق حول الموضوع، قررت أن تقوم باستكشاف ذلك بنفسها.
بسبب طبيعة الموضوع، قررت فوكس، أن تخالف طرق الأنثروبولوجيين التقليديين في الدراسة، متبعة ما سمته طريقة الإنكليز في «عدم أخذ الأمور كثيرا على محمل الجد» (في عكس لعنوان كتاب أوسكار وايلد «أهمية أن تكون جديا») لكن كتابها غير التقليدي، أصبح مع ذلك، أحد المراجع الأنثروبولوجية الشهيرة في دراسة الشخصية القومية الإنكليزية، وأصبح مصدر إلهام لعدد كبير من تلاميذ هذا الفرع العلمي.
تقول الباحثة، إن أول تجاربها في تفحّص إحدى الصفات الشهيرة في الشخصية الإنكليزية، وهي قضية الاعتذار دائما، استلزمتها عدة كؤوس من البراندي، كي تستجمع شجاعة معاكسة إنكليزيتها، والمخاطرة في تعمد الاصطدام مع أشخاص عابرين، لتحسب نسبة من يقول منهم إنهم آسفون (ومن يعرف الإنكليز سيلاحظ أنها ستكون نسبة كبيرة) ثم لتقيس مفعول ارتكاب خطيئة بالمقاييس السلوكية الإنكليزية: تجاوز الطابور!
واجهت فوكس، بداية، مسألة تواجه دارسي الجماعات البشرية من الأنثروبولوجيين، حين يدرسون مجتمعات «محلّية» أجنبية عليهم، وهي الحاجة لفصل أنفسهم عن تلك الجماعة، ليستطيعوا مراقبتها وجمع معلومات علمية عنها، ومعضلة العمل على تفهم ثقافة وسلوك وطرق رؤية تلك الجماعة لنفسها والعالم، مع منع تحيّزاتنا الثقافية والسلوكية وطرق رؤيتنا من التحكم في ذلك الفهم. غير أن القضية كانت مختلفة تماما بالنسبة لها، لأنها كإنكليزية هي نفسها، فهي تنتمي إلى ثقافة السكان المحليين Natives نفسها التي تريد مراقبتها، وهذا يجعل المعادلة السابقة غريبة بعض الشيء، خصوصا حين تقوم ببدء دراستها من مراقبة سلوكيات وقيم وعادات عائلتها، واعتبارهم، كما تقول مازحة، «فئران تجارب».
تقول الكاتبة إنها هدفت لكشف «القواعد» غير المكتوبة للشخصية الإنكليزية، وهو ما يعني محاولة فهم وتعريف ثقافة الشعب الإنكليزي، وما يتضمنه ذلك من أشكال السلوك، اللباس، طرق الحياة، الأفكار، المعتقدات والقيم، وكل ما من شأنه أن يشكّل «الشخصية القومية» لأمة، معتبرة أن علينا القبول بوجود اختلافات بين الثقافات.
مكدونالد أم حكم ذاتي؟
هل يمكن أن يتحول السعي لإظهار الفروقات والميزات لتحديد «شخصية قومية» لأمة ما إلى هوس بالتمايزات الثقافية، وأن ينسى الباحث الأنثروبولوجي أو الإثنوغرافي (المختص بالثقافة) أننا ننتمي جميعا للنوع البشريّ نفسه؟ لتجنب ذلك قام باحثون عديدون بتقديم قوائم بالممارسات العابرة للثقافات، التي تجنب أمثال الباحثة، هذه المخاطرة المعرفية. من هذه العناصر الإنسانية المشتركة بين البشر: قوانين التملك، الزواج، تقاليد التحريم والتجنب، طرق حسم النزاعات، الاعتقادات الدينية، الأنظمة الاجتماعية، تقاليد البلوغ، المغازلة، أنظمة تزيين الجسم، الفعاليات الذكورية التي تمنع عنها النساء، المقامرة، صناعة الأدوات والأسلحة، الأساطير، الرقص، الزنا، القتل، الانتحار، الشيزوفرينيا، أشكال العصاب والمرض النفسي، ومهن تطبيب كل ذلك إلخ.
ما يستثنى من هذه الممارسات البشرية العامة، كما تقول فوكس، هو طريقة تشكيل القواعد التي تتضمن الفعاليات البشرية، بما فيها العمليات البيولوجية الطبيعية مثل، الأكل والجنس تحوطها مجموعة من القواعد المعقدة، التي تحدد أين ومتى ومع من وبأي طريقة يمكن أن تؤدى، وجميع البشر يميزون بين ثقافة وأخرى بملاحظة هذه القواعد، فأول ما ننتبه إليه حين نذهب إلى مكان أجنبي أن هناك طرقا مختلفة لعمل الأشياء في الطعام واللباس وطرق السلام والصحة والتجارة والضيافة والمزاح إلخ. إحدى الأفكار الشائعة التي يفندها الكتاب هي الزعم أن العولمة وتأثير الثقافة الأمريكية بشركاتها الكبرى مثل، كوكا كولا وماكدونالد والنزعة الاستهلاكية، حلّت مكان الشخصيات والثقافات القومية، حيث تقول إن هذه العناصر تمت المبالغة فيها، وأن شيوع العولمة والثقافة الأمريكية تناظر مع (إذا لم يكن أحد أسباب) زيادة النزعات القومية والوطنية والقبلية، ومطالب الاستقلال والحكم الذاتي، وزيادة الاهتمام بالإثنية والهوية الثقافية، وأن هناك، في بريطانيا نفسها، ورغم تأثير الثقافة الأمريكية الكبير، دلائل على تزايد، ما تسميه الباحثة، بالقبلية والتنوع الثقافي.
التحفظ والبلطجة: مرضان إنكليزيان؟
تفند فوكس أيضا الفكرة العامة عن أثر الطبقية في الشخصية الإنكليزية، فرغم أن الإنكليز لديهم وعي بالموضوع الطبقي، فإن الموضوع لا يتعلّق، ضمن الثقافة الإنكليزية، بانتمائك لطبقة محددة فقط، بل كذلك بكيف وأين ومع من تأكل وتشرب، وأين تتسوق، والملابس التي ترتديها، والحيوان المنزلي الذي تقتنيه، وكيف تقضي وقتك، والكلمات التي تستخدمها وكيف تنطقها.
تذكر فوكس، في هذا السياق، بما قاله جورج أورويل من أن الفوارق الطبقية تبهت بين الإنكليز «في اللحظة التي يتواجه فيها بريطانيان مع أوروبي» وأن التمايزات بين غني الإنكليز وفقيرهم تراجع حين تنظر إلى الأمة من الخارج.
بعد استبعاد الأسكتلنديين والأيرلنديين والويلزيين من بحثها، لأسباب علمية، كان مثيرا للتفكر أن الباحثة وجدت أن الآسيويين والأقليات في إنكلترا يشكلون جزءا من الشخصية الإنكليزية، فرغم أن الأقليات تشكل قرابة 10% من سكان البلاد فإن أثرها في الثقافة الإنكليزية كبير، وأنها أسهمت في تأسيس «قواعد» الشخصية الإنكليزية. إحدى الآراء المثيرة للتفكر أيضا في الكتاب اعتبار الكاتبة أن القوالب النمطية STEREOTYPES تحتوي جزءا من الحقيقة، وإذا لم تكن تلك التنميطات «حقائق» لكن تداولها بين شعب ما عن نفسه، يقدم رؤية ثقافية عن نفسه ومعتقداته وقيمه، وبدلا من الابتعاد عن التنميط، فقد رأت أن الأنسب علميا أن تقوم بتفحص صدقية هذه التنميطات عبر وضعها تحت مجهر الفحص العلمي الدقيق.
بعد بحثها الطويل، تقوم فوكس بتلخيص الشخصية الإنكليزية ببضعة تعريفات مفيدة، يشكل مصطلح Dis-ease الذي يمكن ترجمته بـ»عدم الراحة» مركزه، وهو يعني مجموع المعوقات والتحريمات الاجتماعية التي يتميز بها الإنكليز.
تصف فوكس هذه الظاهرة بأنها خليط من مرض التوحّد والخوف من الأماكن العامة، النقص في الارتياح، الانزعاج، وعدم القدرة على الفعل والتفاعل الاجتماعي، والشعور بالحرج، والإحساس بالوجود ضمن جزيرة، التذبذب، المحافظة، العسر العاطفي، ضعف القدرة على التعاطي المباشر والواضح مع كائنات أخرى. تفصّل الباحثة انعكاسين متناقضين ناتجين عن هذه الظاهرة، فعندما يجد الإنكليزي نفسه في وضعية اجتماعية مزعجة، فإنه يصبح إما مبالغا في الاعتذار، دفاعيا، سلبيا بشكل عدواني، أو صاخبا، فظا، عنيفا وهجوميا بشكل مزعج، وهذان المظهران المشهوران لتحفظ الإنكليزي و»الهوليغانزم» الذي يتميز بالبلطجة والعنف والهزء بالقوانين.
لمعالجة هذا العطب، يقوم الإنكليز بممارسة الألعاب والرياضات، وارتياد الحانات والنوادي، والحديث عن الطقس وممارسة الهواية وشرب الكحول، ومتابعة الإنترنت، وفوق كل ذلك، وبما يفوقه أهمية: الدعابة، التي تخترق الحياة الإنكليزية في كل حين. تدرس فوكس أيضا النزعة التجريبية والحسية التي تتمثل برفض الإنكليز للتنظير والتجريد والدوغمائية والغموض، وهي صفات أوروبية واجهها الإنكليز بعناد التأكيد على الحقائق الصلبة والحس المنطقي والواقعية ورفض الادعاء والزيف.
يجيب «مراقبة الإنكليز» على أسئلة كثيرة كما يحفز على الاستفادة من منهجه وأفكاره في الحفر في هذه المنطقة المجهولة الهائلة غير المستكشفة في ثقافات منطقتنا، وكذلك في تأثير الثقافة الإنكليزية، والثقافات الأوروبية، في ثقافاتنا الخاصة.
*القدس العربي