لماذا ترجم الفرس والباكستانيون والأتراك كلمة revolution بمفاهيم تحيل إلى الانقلاب والدوران، فيما ترجم العرب الكلمة بجذر لغوي يحيل إلى الهياج والغضب، وهل يمكن لهذا الاختلاف أن يؤثّر في طريقة رؤيتنا اللغوية والفكرية للعالم؟
تحيل كلمة Revolution، في اللغات اللاتينية، إلى مفهومي الدوران والانقلاب، وهي تســـتخدم في سياقات سياسية (انقلاب سياسي) وثقافيـــة (تغير مفاهيــمي) وعلمــية (مثل دوران المحرك في السيارة: 1000 revolutions)، ونجد استمرارا لسياق هذين المفهومين في عدة لغات حيث يترجم الأتراك كلمة revolution بـDevrim (دوران)، فيما تستخدم الفارسية والأوردية لترجمة Revolution كلمة انقلاب.
في المقابل تستخدم كلمات Askari Darbe (ضربة عسكرية) في التركية، وفوجي بغاوت في الأوردية، وكـــودتاي نظامــي في الفارسية، لترجمة Military coup الإنكلـــيزية أو coup d’Etat militaire الفرنســـــية أو golpe military الإسبانية، حيث يحضر العسكر أو الجيش في جزء من الجملة، ويحضر مفهوم «الضربة» في الجزء الآخر (في الفارسية والفرنسية تنضاف كلمة الدولة أو النظام: ضربة عسكرية للنظام/الدولة).
انتفى ضمن السياق التاريخي المعاصر للغة العربية، على عكس هذه اللغات جميعها، استخدام كلمة انقلاب، القادرة على التعبير عن تغيّر جذري يحصل على المجتمع ككل، وتم استبدالها بكلمة الثورة، وهو ما ربط الحركة السياسية الاجتماعية، التي تهدف لتغيير الأسس السياسية للمجتمع (أو الأسس العلمية لقضية ما)، بصفات الهيجان والغضب والثوران، وهي صفات تنتمي إلى مجال شعوريّ ينفلت فيه العقل ويشيع الغضب والهياج أكثر مما تنتمي إلى مجال سياسي ـ اجتماعي.
ثورة 1789: انقلاب… تغيّر كامل
توضح المعاجم والمصادر المعرفية واللغوية العربية هذه الإشكالية، ففي «مقاييس اللغة» لابن فارس نجد: «ثار الشيء يثور ثورا وثؤورا وثورانا»، وفي «لسان العرب» نجد إن «ثورة الغضب حدته. والثائر: الغضبان، ويقال للغضبان أهيج ما يكون: قد ثار ثائره وفار فائره إذا غضب وهاج غضبه»، و»يقال انتظر حتى تسكن هذه الثورة، وهي الهيج»، وفي الحديث: «بل هي حمى تثور أو تفور»، وإذا وصلنا إلى «محيط المحيط» لبطرس البستاني (توفي عام 1883) نجد: «ثار الشيء يثور ثورا وثؤورا وثورانا هاج. والغبار سطع. والقطا والجراد نهض. والدم ظهر. ونفسه جشأت. وفلان إليه وثب. وبه الناس وثبوا.
ثورة تثويرا هيجة وأثاره إثارة أهاجه» و»الثائر اسم فعل من الثوران» و»الثائرة مؤنث الثائر والشغب والضجة جمعها ثوائر». يظهر الاختلاف المعبّر عن تغير تاريخي لغوي هائل، عندما نصل إلى معاجم حديثة كـ»معجم اللغة العربية المعاصرة» (صدرت طبعته الأولى عام 2008) لأحمد مختار عمر، حيث نجد أول اقتراب من المعاني الحديثة للكلمة: «ثار عليه: تمرد عليه وأعلن الثورة والعصيان. ثار على النظام/التعسف/الظلم/الفساد»، وفي تقصي كلمة انقلاب في المعجم نفسه نجد: «انقلب الحكم: تغير «انقلبت الأدوار» (نلحظ هنا استعادة لفكرة الدوران).
ستظهر الإشكالية مجددا حين نطالع قواميس الترجمة الفرنسية والإنكليزية، ككتاب «المنهل» لجبور عبد النور وسهيل إدريس، حيث تترجم «ريفوليوشن» بـ: «دوران (طواف جرم سماوي في مدار)… زمن دوران (جرم). دورة دولاب. ثــــورة. قوى ثوريــة»، لكن المثير أنه عندما يترجم La Revolution يقول: «ثورة 1979 الفرنسية. انقلاب. تغير كامل»، كما يترجم جملة La machine a vapeur a revolutionne l’industrie بالقول: «الآلة البخارية قلبت أوضاع الصناعة». أما في قاموس «المورد» لمنير البعلبكي فيترجم «ريفوليوشن» بـ: (1) الدوران: طواف جرم سماوي في مدار (فلك) «ب» دورة (فلك) (2) «أ» دوران حول المحور (ميكانيك) «ب» دورة (ميكانيك) (3) ثورة. وحين يترجم كلمة Revolutionize يقول: يطيح بحكومة قائمة (2) يتشرب بالمعتقدات الثورية (3) يثور: يحدث ثورة (أي تغييرا أساسيا أو كاملا) في.
من الخروج والردة إلى الانقلاب
في مراجعتي لكتب تاريخية عديدة، وجدت شحا هائلا في استخدام كلمة ثورة، وحين تستخدم، كما لدى المقريزي في «كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك» فهي تعني هياجا جماعيا: «فثاروا ثورة واحدة وصرخوا جميعا: امش قدامنا»، أما كلمة الانقلاب فلم يكن لها هذا الاستعمال الحالي أيضا، وكانت تستخدم للتعبير عن معنى تغيّر شيء إلى شيء آخر، كما في «انقلاب الأعيان له باب: انقلاب الماء لبنا وزبدا ببركته صلى الله عليه وسلم»، وكانت المصطلحات السائدة مستقاة من حقل الديني: الخروج والردة والكفر (خروج الزنج والخوارج الخ).
أقدم استعمال وجدته في العصر الحديث للتعبير عن revolution كان لدى محمد روحي الخالدي، عضو مدينة القدس إلى مجلس المبعوثان العثماني، الذي يشير إلى «قرب حدوث الانقلاب» العثماني في مقالة بعنوان «حكمة التاريخ» نشرتها جريدة «طرابلس الشام» في 15 تموز/يوليو 1903، والطريف، حسب الخالدي، أنه حين بلغ العدد الأستانة «واطلع الملدوغون صدر الأمر بتعطيل الجريدة»، ويعيد الخالدي استخدام المفردة في عناوين عديدة منها «الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة» في مجلة «المنار» عام 1908، وهو مصطلح يتكرر لدى كتاب عديدين آخرين من الفترة نفسها، كحسين وصفي رضا (مجلة المنار 1909)، ورفيق العظم («الانقلاب الميمون»، المنار 1909)، ومحمد إنشاء الله (المنار 1909).
تتضح المطابقة بيــــن مصطــــلح الانقلاب وrevolution في هذه المقالات، كما تبدو واضحة في مقالات كثيرة ستتبعها، كما فعل إسماعيل مظهر في مقالة في مجلة «الرسالة» عام 1927 بقوله: «لقد اتبع زعماء الانقلاب التركي الطريقة نفسها التي اتبعها زعماء الانقلاب الروسي البلشفي»، ومقالات محمد عبد الله عنان في «الرسالة» أيضا حيث يتحدث عام 1934 عن «الانقلابات السياسية المعاصرة»، و»الانقلاب الجمهوري في إسبانيا».
من الزهاوي إلى نديم البيطار
يتضح، لدى تفحصنا لتلك الحقبة، وجود استخدامين مختلفين لكلمتي انقلاب وثورة في سياقات سياسية وفلسفية وفكرية واجتماعية، كما فعل الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي في قصيدة في مجلة «الرسالة» عام 1933، التي يبدأها بالقول: «من بعد ما انتظرت حقابا ثارت فمزقت الحجابا»، ثم يقول لاحقا: «إن الحياة لتبتغي في عصرنا هذا انقلابا»، فهنا يستخدم الزهاوي كلمة الثورة كفعل غضب وهياج لكنه يستخدم الانقلاب للتعبير عن تغيّر اجتماعي كبير.
تبدأ كلمة الثورة بالظهور، لكنّها تبقى في مرتبة أدنى من كلمة الانقلاب، كما نرى في مقالة محمد عبد الله عنان في مجلة «الرسالة» عام 1934، بقوله: «منذ الثورة الفرنسية لم يشهد العالم المتمدن انقلابا في النظم الاجتماعية والفكرية، كالذي نشهده اليوم كأثر للانقلابات السياسية التي وقعت منذ نهاية الحرب»، وحتى حين تظهر «ضربة عسكرية» كما جرى عام 1936 في العراق، فإن الكاتب (وواضح أنه شيوعي الهوى أراد إخفاء اسمه بحرفين)، في مجلة «الطليعة» تحت عنوان «ماذا وراء الانقلاب العراقي؟»، يستخدم كلمة انقلاب بمعنى التغيير السياسي الكبير، وليس بالمعنى الذي درجت عليه لاحقا.
يستمر معنى التغيير السياسي والاجتماعي الكبير ملتصقا بالكلمة، حتى أربعينيات القرن الماضي، فيصف ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار اتجاههما السياسي بـ»حركة انقلابية»، ويتابع زميلهما جلال فاروق الشريف، عضو هيئة تحرير جريدة «البعث» التي أسساها، هذا الخط بمجموعة مقالات عن «الانقلاب في حياة الأمة» و»مشكلة الانقلاب الصناعي»، ويحاول كاتب سياسي لبناني، هو نديم البيطار، لاحقا، في كتابه «الأيديولوجية الانقلابية» حل هذه المشكلة اللغوية التاريخية، وتسانده، الكاتبة الفلسطينية سلمى الخضراء الجيوسي بمقالة في مجلة «الأداب» عام 1966 رحبت فيها بكتابه وأشارت إلى الإشكالية الحاصلة: ارتباط كلمة انقلاب بالحركات العسكرية، واكتساب كلمة ثورة قدسية، فتقول إن البيطار «يفصلهما عن مفهومهما الشائع ويعود بهما إلى أصليهما. فكلمة «ثورة» تعني موقفا يتمرد فيه الفرد ضد شيء ما، بدون أن تدل على أن ذلك التمرد يجب أن يعني تحويلا لذلك الشيء بشكل يغير طبيعته»، أما كلمة «انقلاب فهي تعني تحول الشيء إلى معالمه الأولى».
*القدس العربي