صحت لابني كي يحضر حلقة من «بيت فقير بيت غني» وهو برنامج يقدم عائلتين من فئتين اقتصاديتين مختلفتين، تتبادلان الميزانية المالية الأسبوعية والمنزل والسيارة، ويحكي أسئلة من قبيل: هل المال يصنع السعادة؟ حالما بدأ عرض الحلقة حتى صاح سامي: «هذا آدم. وهذا أخوه محمد». اكتشفنا أن العائلة الفقيرة عربية، وأن ابني كان يعرف أولادها من مدرسته الأولى وفريق كرة القدم الذي كان يلعب فيه.
استلمت العائلة العربية مبلغا يقارب 2500 جنيه هو الفائض الأسبوعي للعائلة الغنية، التي استلمت بدورها 120 جنيها، وهي الميزانية الماليّة الأسبوعية للعائلة العربية، وسكنت كل عائلة بيت الأخرى وتقمّصت نمط حياتها لمدة أسبوع.
قام الأبوان العربيان باستخدام المال بطريقة مضحكة أحيانا (طلبا مرتين، على ما ارتأياه «أكلا فاخرا» مؤلفا من «فيش أند تشيبس» الأكلة الشعبية البريطانية الشهيرة)، كما قاما بقرارات ذكيّة، مثل شراء كومبيوتر لمساعدة الزوجة في نيل الشهادة الجامعية، وشراء بلاي ستيشن للأطفال، الذين أصابتهم نوبة من الفرح الجميل.
انتقلنا إلى منزل وحيّ آخر، بعيدا، منذ ثلاث سنوات لنسكن قرب مدرسة ابني الخاصة، التي دفعنا أقساطها عبر رفع الرهون على البيت، الذي ازدادت قيمته بشكل كبير عبر السنين، وهو أمر جعلنا نشعر بأننا في منزلة بين المنزلتين، بين طبقة أمثالنا ممن جاؤوا إلى بريطانيا لاجئين، أو طالبين للعمل، والطبقة الوسطى التي تمتلك أسباب الصعود، مستفيدة من التسهيلات الماليّة الكثيرة للراغبين في الاستثمار، وتجريب حظوظهم في الارتقاء الاجتماعي. صحت ابني مرة كي يشاهد برنامجا يشارك فيه زميل له في المدرسة، وكانت تلك مناسبة من الأم الغنية وابنها للتنفج والتصنّع المبالغ فيه لكليشيهات الحديثي النعمة («النوفوريش» بالتعبير الفرنسي الشهير).

اعتادت الأم التقاط الأغنياء الكبار (كأبيه الذي طلقها لاحقا) والاغتناء على نفقتهم، وكان البرنامج يظهر انتقالها إلى منطقة جديدة «للصيد الاجتماعي» وخناقاتها مع شركة النقل، على طاولة ثمنها 50 ألف جنيه، ولوحة ثمنها الشيء الفلاني. كانت العائلة الأولى تبدي سعادتها بتوفر مبلغ كبير (في ظنّها على الأقلّ) من المال لديها وسكناها لأسبوع في بيت غني، وكانت تعبيرا عن مجمل نضال مهاجرين لتحسين ظروفهم، وارتقاء السلم الاجتماعي، أما العائلة الغنية فكان ظهورها في ذاك البرنامج الآخر شائنا حقيقة. لم تكذب العائلة الفقيرة ولم تتنفج وتتصنع، لكنّها في النهاية، لم تختلف من حيث المبدأ، مع العائلة الأخرى، في سعيها، نحو الغنى والتخلّص من الفقر.
«أفواه وأرانب»… «الملك هو الملك»
في حلقات أخرى من برنامج «بيت فقير بيت غني» تتكشف التشابهات بين الأغنياء والفقراء، حيث يجمعهم المرض مثلا، وتظهر سعادة فقراء لأنهم قريبون من بعضهم، وبؤس أغنياء يعانون من غياب الأب أو الأم، وهي عناصر دراميّة لم تتوقف الروايات والأفلام والمسلسلات وبرامج «تلفزيون الواقع» عن استثمارها. رغم الموازنات الذكيّة التي يقيمها المنتجون، فإن أغلب حلقات البرنامج المذكور كانت تظهر شقوقا تتكشف في حياة الفقراء سببها المال، وشقوقا أخرى في حياة الأغنياء سببها أحيانا كثيرة السعي المحموم نحو مزيد من المال.
أتذكر في بداية مراهقتي، مسلسلا أمريكيا بعنوان «الغني والفقير»، وهو يتحدّث عن شقيقين من أصل ألماني، سلك أحدهما باب المغامرة بالأعمال، فأصبح ثريا وسياسيا كبيرا، وبقي أخوه يعارك الحياة السفلى وشرورها، وسيفيض عن الإحصاء عدد الأعمال التي تدور في فلك هذه القضية (أذكر على سبيل المثال الفيلم الإنكليزي «الملك والشحاذ»، والمصري «أفواه وأرانب»، ومسرحية سعد الله ونوس «الملك هو الملك»)، وكذلك الأشخاص الذين تعتبر حيواتهم أمثلة معبّرة عنها، كما هو حال كثير من الطغاة والمخترعين ورجال الأعمال.
يقدّم الأمريكي روبرت كايوساكي في كتابه «أب غنيّ أب فقير» مقارنة بين ما تعلّمه من أبيه الجينيّ، الذي يمتلك أموالا كثيرة خلال حياته، لكنه يبقى فقيرا، وأبيه المتبنى الذي يدرّسه أن الغنى يمكن أن يحصل حين تتبنى طريقة حياة مبدعة، وألا يرضى عن نفسه، وأن يخلق الثروة لا أن يفتش عن وظيفة وراتب إلخ (والحديث يدور طبعا ضمن آليات الاقتصاد والمال الأمريكية) ويقدّم الكتاب مناسبة لفكرة سبق أن عرضها الكاتب ألين دي بوتون، في سياق آخر، وهي أن المدارس والجامعات (والآباء التقليديين) لا يعلّمون التلاميذ كيفية التعامل مع الحياة، بل يقدّمون حياة موازية أشبه بمركز لتوليد العمال من موظفين ومحامين وأطباء ومهندسين، لكنّهم لا يعلّمون طلابهم أصول مواجهة الحياة وطريقة فهمها.
المادة الرمادية التي تريد امتلاك العالم
يمكن توسيع مفهوم الغنى حين نقبض على جذره الذي يتمثل، في اعتقادي، بغريزة البقاء، التي نتشاركها مع باقي كائنات العالم، وتفرض على الجنس البشري إيجاد مصادر طاقة تجدد عمل الخلايا المكوّنة لأجسادنا، خصوصا الدماغ الذي يحــــتوي على 86 مليار خليّة عصبيّة، ويعادل طول نسيجه العصبي (حسب مجـلّة «العـــالم الجديد» New Scientist) قرابة 170 ألف كيلومتر، وهو «عضو» جائع للطاقة، وهو المسؤول أيضا عن رغباتنا في امتلاك طاقة فائضة وخزنها، وهو ما فعله البشر مع شيوع ملكيّة الأرض والماشية (سبب أول صراع ميثولوجي بين قابيل وهابيل، وتاريخي بين الفلاحين والرعاة)، وصولا إلى ملكيّة البشر والشعوب والأموال الطائلة. تتصل، في رأيي، هذه الغريزة، والتطوّر العقلي المتزامن معها، مع رغبة الخلود، الماديّة أو المعنوية، التي مدّدها المصريون القدماء إلى ضمان الخلود بعد الموت، فيما اكتشف جلجامش، «أعظم جميع الملوك»، و»الذي رأى الهاوية»، بطلانها.
يمكن، من دون تكلّف شديد، رؤية قصّة البشريّة بأكملها، ضمن منظور السعي للتملّك، بدءاً من الاجتماع البشريّ وأركانه، وقاد تحوّل هذا الشرط الإنساني البسيط إلى صيغته المعقدة لإنشاء الممالك، وشن الحروب إلى مجمل التطوّر الإنساني، وحاولت الأديان وأشكال الفلسفة والأدب وعلوم الجمال، حلّ هذا الاستعصاء الكبير ومعالجته، لتصبح بدورها جزءاً منه، ومن «كتاب الموتى» والإلياذة والباغافاد غيتا وملحمة جلجامش إلى «تاجر البندقية» و»البؤساء» و»أبناء حارتنا»، انشغل الفلاسفة والأنبياء والكتاب والشعراء في حل اللغز، وفي الإضافة عليه.
لقد فشلت محاولات البشر، كما يقول يوفال هراري، في تحقيق رؤية عالمية، لكنّ «غازيا شديد التسامح والقدرة على التكيّف، حوّل الناس إلى أتباع متحمسين، ونجح حيث فشل الملوك والآلهة»، ولم ينجح الصينيون والهنود والمسلمون والمسيحيون، الذين ينتمون إلى ثقافات مختلفة، في الاتفاق على أي شيء «إلا الإيمان بالذهب»، ورغم أن الفلاسفة والمفكرين والأنبياء «لطخوا سمعة المال لآلاف السنين، ونعتوه بأنه جذر كل الشرور»، فإنه «نظام الثقافة الوحيد الذي أنشأه البشر، والذي يمكن أن يجسر أي فجوة ثقافية، ولا يميز على أساس الدين أو الجنس، أو العرق أو السن أو الميول الجنسية».
لقد وحّد الإيمان بالمال البشر جميعا، فقيرهم وغنيّهم، ولكن بعد رحلة طويلة من اعتبار الأصداف والماشية والذهب والفضة والورق مالا، جاء الزمن الذي صارت فيه الثروة مجرّد رقم سرّي، منظوم بطريقة معقدة جدا على الشبكة السوداء للإنترنت، ورغم وجود شركات لبيع وشراء العملات الرقميّة، كالبيتكون والإيثيريوم، فلا أحد يعلم يقينا من الذي اخترع البيتكون، واختفى أغنياء العملة الرقمية وراء أحجبة كثيفة، كما اختفى وراءها «أنبياء» العصر الحديث من مؤسسي الحقبة الرقمية، وكارتلات المخدرات، وتجار الأسلحة والمجرمون. مع ذلك فقد بقي الفقر فاضحا والغنى فاحشا، ولم تتغيّر الرغبة في التملّك الأقصى، ولو على حساب فناء الأرض نفسها.
*المصدر: القدس العربي