الرّواية:
أوديان وساباش بطلا الرّواية لم تجمعهما الأخوة والنّسب فقط بل الحبّ، أحبّا بعضهما بشدّة، وتعاهدا
لكنّهما اختلفا فكرياً، فتابعا دراستهما الجامعية في جامعتين مختلفتين. ناصر أودايان ثورة الفلاحين متأثراً بالفكر الماركسي لماو تسي تونغ، أمّا ساباش فلم يقتنع بأنّ فكراً مستورداً من ثورة أخرى يمكنه أن يحل مشاكل الهند.
ذهب ساباش إلى الولايات المتحدة ليدرس الدّكتوراه في الهندسة الكيميائية. أثناء غيابه تزوَّج شقيقه من فتاة أحبّها مخالفاً التقاليد واضطر للسكن مع والديه لوقوعه في ضائقة مادية، قتل بعد زواجه بزمن قصير أثناء الاضطرابات التي عصفت بكالكوتا، عاد ساباش وتزوج من زوجة أخيه بعد أن أخبرته بأنّها حامل لينقذها من معاملة والديه السّيئة واصطحبها معه إلى أمريكا.

غاوري الزّوجة وجدت نفسها في وضع صعب، لم تكن تحبّ سوباش، مع أنّ معاملته لها كانت في غاية اللطف، لم يكن ينتظر منها أي خدمة كأخيه بل يقوم بأعماله كلّها بنفسه، مع هذا كانت تقارن بين الشّقيقين الذي تعيش معه والذي يعيش داخلها. استقلا في العيش كلّ واحد في غرفة. وانعكست تصرفاتها الباردة على ابنتها بعد الولادة، فمالت الابنة إلى الأب الذي يعتني بشؤونها كافة، تقوقعت غاوري على نفسها ورفضت أن تنجب من ساباش وظلّت تجترّ ذكريات حبّها لشقيقه.
وجدت غاوري أخيراً أنّ المنقذ لها هو متابعة الدّراسة في الفلسفة، وقد منحها ذلك فرصة للابتعاد أكثر عن البيت وابنتها وزوجها. كان على ساباش أن يغضب منذ البداية لكنّه لم يفعل حتّى رأى إهمال غاوري لابنتها وتركها وحيدة في البيت، حينها قطع علاقته بها ولم يعد يكلمها.
توفي والد سوباش واضطر للذهاب إلى الهند وأخذ معه ابنة شقيقه “بيلا” لتتعرف على وطنها وجدَّتِها. وهناك رأت صورة والدها على الحائط وقُدِّم لها على أنّه عمها.
في تلك الأثناء تركت غاوري المنزل وغادرت إلى كاليفورنيا ولم تترك عنوانها. وانقطعت للتدريس في الجامعة والتأليف. توفيت والدة ساباش وزار الهند أكثر من مرة، ثمّ بدأت علاقته ببيلا تسوء بسبب تدني علاماتها الدراسية فاستعان بمعالجة نفسية، بعد حصولها على الشّهادة الثانوية فوجئ ساباش بأن بيلا ترفض الدراسة وترغب بالعمل في المزارع ومساعدة الفقراء والمعوزين. تركت البيت وعاشت وحدها، زارته في أحد الأيام وأخبرته أنها حامل ولا تريد أن تتزوج والد الطفل ولم تخبره من يكون. حينها أخبرها ساباش بالحقيقة، حقيقة والدها الذي قتل ووالدتها وحقيقته هو. رفضت بيلا التّصديق في البداية ثمّ فهمت السبب في معاملة والدتها لها ورفضها العودة إلى الهند.
كتب ساباش لغاوري رسالة يطلب منها الطّلاق، أعدت الأوراق الضّرورية وجاءت إليه في البيت الذي كانا يعيشان فيه معاً. لم يكن ساباش موجوداً. لكنّ بيلا كانت هناك، طردتها بقسوة وأخبرتها أنها لا تريد رؤيتها أبداً.
فيما بعد كتبت بيلا لأمِّها رسالة أخبرتها فيها عن ابنتها “مغنا” وتركت لها حرية الاتّصال بها إن شاءت.
بعد مضي هذا الزّمن الطّويل من الحرمان يتزوج ساباش ويذهب مع زوجته في رحلة إلى إيرلندا، يتوقف ساباش أمام حجارة قديمة نصبت لآلهة عُبدت في الماضي، وتذكّر الشّاهد الحجري في الأرض المنخفضة الذي وضعه رفاق شقيقه حيث قتل الجنود أخاه، في المكان الذي كانا يلعبان فيه عندما كانا طفلين!
هكذا تنتهي رواية الأرض المنخفضة بالحزن الشّفيف واللغة البسيطة التي تترك بصمتها على روح القارئ.

البناء والدّراما والشّخصيات:
نمذجت الكاتبة شخصياتها بذكاء بحيث وضعتها في مسارات تعبّر عن العزلة والاضطهاد والاضطراب النفسي والغربة وسط أحداث سياسية صاخبة. وكان لكلّ حدث أو تسمية دلالتها في الرواية وبعدها النّفسي والاجتماعي.
بدءاً من العنوان “الأرض المنخفضة” وانتهاءً بعلاقة الحبّ الأخوي الأبدية التي قيّدت البطل سوباش طيلة عمره فعاش بدل أخيه القتيل متجاهلاً حياته هو.
برعت الكاتبة في تحليل نفسية شخصياتها والغوص عميقاً فيها، فرسمتها بدقة تجعلنا نتخيّل الشّخصية وكأنّها حية تتحرك أمامنا بملامحها الجسدية ولباسها وتصرفاتها وأيضاً في تقلباتها النّفسية.
أثر الصّراع السّياسي على حياة الشّخصيات
تدور أحداث الرّواية في منتصف القرن العشرين بعد وفاة نهرو واستلام ابنته أنديرا غاندي رئاسة الوزراء. قامت ثورة الفلاحين عام 1967 بسبب مصادرة أراضيهم وحيواناتهم ومحاريثهم من قبل الإقطاعيين بالإضافة إلى الاعتداء عليهم بالضرب. وبقيت الشرطة على الحياد! أدّى ذلك إلى الفوضى، الاغتيالات، وامتدت الاضطرابات إلى الجامعات، استخدمت الحكومة العنف في إخماد الثورة مخلّفة عشرات القتلى الأبرياء.
بالإضافة إلى ذلك تحدّثت الرّواية عن الصّراع الدّموي بين الهندوس والمسلمين.
دفع أوديان الثّمن حياته، ودفعت زوجته وشقيقه ووالديه الثّمن أيضاً نتيجة العنف الذي مارسته السّلطة تجاه المحتجين. الوالدين الوحدة والقهر، الزّوجة والشّقيق الغربة وتوابعها.
الغربة تركت سوباش وغاوري كأنّهما وحيدان في تلك البلاد.. تمر بنا أطياف أشخاص لا نعرفها حق المعرفة، الكاتبة اختارت أن تحكي تفاصيل حياة شخصياتها بمعزل عن المجتمع فنحن نرى الجغرافيا جيداً، ملامح البيوت والطّرقات، الدّقة في توصيفها وأسمائها، ملامح البيئة مع هذا نشعر أن غاوري تعيش في عالم خالٍ من البشر وساباش أيضاً مع أنّه يتزوج في النّهاية ويحاول أن يقبض على الحياة التي فرّت منه.
رصدت الرّوائية الصّراعات النّفسية لأبطالها بدقة..
سوباش: شعوره بالعزلة، علاقته بغاوري، انتماءه إلى الهند وشوقه إليها وتمسكه بالحياة الأمريكية.
تعلّقه بالأمريكية “هولي” جسدياً وموقفه المتردد من الارتباط بها لمعرفته أنّ أهله سيرفضونها لأنّها مطلقة وأكبر منه سناً فاختار أن تبقى علاقته بها سرية.
غاوري: إحساسها بالامتنان من سوباش وعجزها عن إظهار ذلك له، تراه أفضل من أخيه في كلّ شيء، لكنّ حبّ أخيه يسيطر عليها.
والدة ساباش: حبّها لأبنائها، كراهيتها لكنَّتها وعلاقتها بزوجها.
لقد رسمت صورة متكاملة لحياة أبطالها، فلم تنسَ وهي تنبش في نفسياتهم وخصوصياتهم وأفكارهم أن تصف لنا العادات والمعتقدات في المجتمع الذي يعيشون فيه.
الآلهة “دوركا” تنزل مع أولادها من السماء لتزور والدها “هالايا” في يوم محدد من السنة ثمّ تعود إلى زوجها “شيفا”.
احتفال الهنود البنغال بهذا اليوم، وصورت لنا أعراسهم وعاداتهم من تلك العادات. اختيار الوالدين للزوجة (وهو ما لم يفعله أوديان) تقبيل أقدام الوالدين قبل السفر. خلع الأرملة لملابسها وحليها وارتداء ثوب الحداد “الأبيض” والامتناع عن أكل السمك واللحوم.
لم تقتصر في وصفها على المجتمع الهندي بل وصفت ردود أفعال بطلة الرواية في حياتها الأمريكية. الموقف الأول حين اشترت غاوري جبنة طرية ظنا منها أنها شوكولا وتعجبت من طعمها المالح. مقارنتها بين حريّتها في التّنقل في الجامعة وبين الجامعة الهندية التي يحتلها الشّرطة ويدققون في هويات الدّاخلين إليها.
الحبّ:
تفوق الحبّ في الرواية على جميع الصعوبات، أوديان تزوج الفتاة التي أحبّها مُحطِّما التّقاليد.
ساباش ضحى برغباته الشّخصية ورهن حياته لزوجة أخيه بسبب علاقة الحبّ التي تربطه بشقيقه القتيل.. الحبّ أخيراً خلّص الابنة من كراهية أمّها حين صارت أمّاً.
****
صادرة عن دار مسكلياني 2018 تقع في 524 صفحة من القطع الكبير. رشحت لجائزة البوكر البريطانية عام 2013
*مادة خاصة بالموقع