إلياس خوري: في زمن كورونا

0

إنه زمن كورونا.
زمن بطيء يلهث، وشعور بالغربة يحاصرنا.
صار الجسد احتمال عدو.
صارت العزلة أشبه بالقدر.
هل الطبيعة عادلة، أم أن فكرة العدالة التي أطاح بها الإنسان انتقلت إلى الطبيعة، لتعلن أن العشوائية قد تكون مبدأ الكون.
أسئلة كورونا الفلسفية والفكرية سوف يأتي أوانها بعد انقشاع غيمة الموت هذه.
أما اليوم فعلينا أن نقرأ أسئلة البقاء.
فالبقاء ليس غريزة فقط، بل إنه القيمة الإنسانية الأسمى.
كيف نتحصن بهذه القيمة الإنسانية في مواجهة الخطر؟
نعيش عزلة إرادية تقودنا إلى طرح السؤال حول بلاغة الهشاشة الإنسانية التي نسيناها بسبب تحوّل فكرة تفوّق الإنسان على الطبيعة، وقدرته الهائلة على ترويضها إلى ديننا الجديد.
كورونا أعادتنا إلى الهشاشة الجماعية، البشر في كل القارات يواجهون خطر الاختناق الرئوي الذي يجدون أنفسهم عاجزين عن إيجاد علاج له.
في بيروت وفي ميلانو، في يوهان وفي نيويورك، نحن في مركب واحد تتلاطم حوله أمواج الموت.
كورونا تتحدّى العالم، إنها منعطف إعادة النظر في قيم الزمن النيوليبرالي التي سلّعت كل شيء.
كما أنها لحظة لمعاينة وحشية الاستبداد الذي يحجب الحقيقة، كي يسقط في النهاية صريع الحقيقة التي رفض الاعتراف بها.
وهي أخيراً تطرح السؤال حول علاقة التطور التكنولوجي بالاستبداد والمراقبة، كما يشير إلى ذلك نموذج المواجهة الصينية الشرسة للفيروس القاتل.
لكنها هنا في بيروت تأخذ شكل الامتحان الكبير للناس التي احتلت الشوارع وصارت اليوم أسيرة البيوت والعزلة والخوف.
إنها امتحان للقيم الجديدة التي صنعناها معاً في مواجهة قاسية مع الأخطبوط الأوليغارشي وميليشياته وأدواته السياسية من أعضاء نادي اللصوص الحاكم.
نحن في أزمة طاحنة قبل كورونا وتداعياتها، لكننا مع كورونا، ومع الخِفة واللامبالاة الرسمية التي استقبلت الطيارات التي حملت الوباء، ومع انكشاف النظام الصحي اللبناني، نواجه حالة طارئة تحتاج إلى كل مخزون القيم والممارسات التي صنعتها انتفاضة 17 أكتوبر.
نعم، إنها امتحاننا الإنساني والفردي والجماعي.
نحن في الهشاشة، لكنها ليست هشاشة فردية فقط، بل نحن في هشاشة جماعية، تزيد من شعورنا الفردي من جهة، لكنها تربط مصيرنا بالآخرين من جهة أخرى.
نستمع إلى عدّاد الأرقام الصادرة عن مستشفى رفيق الحريري الحكومي، حيث يتكدّس المصابون بالوباء، ونشعر أن قلوبنا ترتعش خوفاً عليهم وعلى أنفسنا.
هم صاروا نحن.
وهم تعني كل المقيمين في لبنان.
الجميع في الخطر، وكلمة الجميع تمتد أيضاً إلى خارج الحدود، إلى كل الشعوب، التي تواجه الخطر نفسه.
جاءت كورونا لتصنع أممية الهشاشة الإنسانية، وأممية المواجهة.
لن تستطيع دولة أو قارة أن تنتصر منفردة، كلنا في مركب واحد تتقاذفه أمواج الخوف ويهيمن عليه شبح الموت.
كورونا تعلّمنا التواضع، كل خطابات التفوق العنصري انهارت.
إن التأكيد على وحدتنا الإنسانية تطيح بالقيم الطبقية السائدة، ليس في لبنان فقط بل في العالم بأسره.
نعرف أن الطبقات الغنية تحاول أن تجد خلاصها في أنظمة صحية طبقية، تجعل من الحق في العلاج امتيازاً طبقياً، كما هو الحال هنا في لبنان وفي أغلبية بلدان العالم التي تفترسها الرأسمالية المتوحشة.
لكننا رأينا كيف صار المستشفى الحكومي المهمل والمهمّش هو ملاذ اللبنانيات واللبنانيين الوحيد، وكيف كان طلاب الطب في الجامعة اللبنانية، جامعة الفقراء التي يستبيحها أمراء النهب والطائفية كل يوم، هم أبطال المواجهة. وكيف تُلقي أزمة الانهيار المالي، التي تتحمل مسؤوليتها الطبقة الرأسمالية الحاكمة، بظلالها السوداء على ضآلة كمية الأجهزة الطبية، وخصوصاً أجهزة التنفس التي نحتاجها.
درس كورونا الأول هو سقوط نظام التمييز الطبقي في الطب.
ودرسها الثاني هو الوحدة في مواجهة العزلة.
مشكلتنا مع السلطة أنها تكذب في كل شيء. كيف نصدّق من ضرب عرض الحائط بصحتنا ولم يوقف الرحلات الجوية إلا بالأمس؟
كيف نصدّق من يدّعي الحرص على الحياة بينما تقطر الدماء من يديه؟
كيف نصدّق الذين يبثون الشائعات الطائفية في سعي محموم للمتاجرة بالموت؟
كيف نصدّق من نهب الأموال وهو يتباكى اليوم على شح موازنة مواجهة الوباء؟
بالأمس لم نصدّقهم وثرنا عليهم، واليوم لن نصدّقهم وسنتابع ثورتنا ضدهم.
ثورتنا اليوم هي تعميم الوعي وفرض شروط مواجهة الوباء.
وهذا يتطلب تمسكاً بقيم العدالة والمساواة ورفض الخطاب العنصري الذي يتجاهل فقراء لبنان ومعهم آلاف اللاجئين السوريين والفلسطينيين، الذين يعيشون في شروط بيئية وصحية مرعبة.
وهذا يعني أن إعلان «التعبئة العامة» الذي اتخذته الحكومة ناقص، لأنه يهمل الجانب الاجتماعي. ماذا عن حماية المياومين؟ وماذا عن حماية الجسم الطبي؟ وماذا عن مصير المرضى في ظل إغلاق الضمان الاجتماعي؟ وماذا عن المستشفيات الخاصة التي لا بد من وضعها في خدمة مجانية لضحايا الوباء؟ وأخيراً، ماذا عن عربدة جمعية المصارف وتصرفاتها التي توحي بأنها الحاكم الفعلي؟
نحن في مواجهة وباءين مستفحلين: كورونا من جهة، وتحالف المصارف وأمراء السياسة من جهة ثانية، وسلاحنا الوحيد هو التأكيد على الوحدة الشعبية.
نقول للجميع، أي نقول للخائفين، أي نقول لأنفسنا، إننا أصبحنا من دون أن ندري ضحايا، وعلينا أن نخلع عنا ثوب الضحية، فالمعرفة العلمية هي سلاح المواجهة، والتضامن هو أداتها، وسنعبر معاً عاصفة الموت بوعود الحياة.

المصدر: القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here