محمد سامي الكيال
ترافق الأحداث المأساوية الكبرى، التي تتعرض لها كثير من الدول العربية، أسئلة تبدو بديهية للغاية: كيف يمكن لأنظمة سياسية واقتصادية في هذه الرثاثة والعجز وانعدام الكفاءة أن تستمر عقوداً طويلة؟ وتصمد أمام تقلبات تاريخية شديدة الصعوبة؟ ثورات الربيع العربي، التي لاقت نجاحاً نسبياً، واستطاعت إسقاط الحكّام المزمنين، جعلت المسألة أكثر تعقيداً: الأنظمة قادرة على البقاء حتى لو فقدت رؤوسها، وتملك أنصاراً متحمسين مهما عجزت عن تأدية وظائفها الأساسية، بما في ذلك حفظ حق الحياة بمعناه الأبسط.
لا يواجه المتظاهرون الغاضبون في العالم العربي أنظمة ديكتاتورية متطورة، تملك مشروعاً، وبالتأكيد لا يمكن مقارنتها بتوتاليتاريات القرن الماضي، مثل الأنظمة الفاشية والنازية والشيوعية. وكذلك من العبث تشبيهها حتى بأنظمة عالمثالثية دموية، مثل نظام بينوشيه في تشيلي. نتحدث هنا عن دول لا تستطيع أن تقدم وعوداً جدّية لمواطنيها في أي مجال، ولم تعد تملك أيديولوجيات متماسكة لبناء هيمنتها. إضافةً لهذا فإن حرمان مواطني الدول العربية من أبسط حقوقهم الحياتية والاجتماعية، لا يعني بالضرورة أن السلطة حرمتهم من «الحياة المؤهلة» بضماناتها السياسية والقانونية، وردتهم إلى وضعية «الحياة العارية» لأن هذا التمييز يصعب تطبيقه على العالم العربي، حيث لا تملك الدول سياسات حيوية واضحة، متعلقة بمستوى الحياة والصحة العامة ومعدلات الوفيات والولادات، ولا تسعى إلى تنمية الحياة أو إفنائها على أساس توجهات مدروسة، ومن المتعذر رصد أي خطط ذات معنى في ممارسات الأجهزة السيادية في هذا المجال. وبالتأكيد لا يمكن اعتبار القتل العشوائي، سواء نتيجة الإهمال، أو في إطار الحروب الأهلية، «سياسة حيوية» لممارسيه والمتسببين فيه.
من جهة أخرى يعاني المتمردون على الأنظمة من مشاكل ذات طبيعة مشابهة، ليس فقط غياب المشروع والأيديولوجيا والتوجه، بل أيضاً عدم القدرة على إبداء ما هو أكثر من الغضب، من جهات تُحمَّل مسؤولية كل شيء، ويُعتبر زوالها حلاً سحرياً لما تعاني منه المجتمعات من كوارث. يبدو هذا الغضب قريباً ببدائيته من الأنظمة التي يحتجّ عليها، وكأن بنية الأنظمة تولّد بشكل مباشر أشكال مقاومتها، وتورثها سماتها. ربما يجب البحث عن الإجابات ضمن أطر نظرية وسياسية مختلفة، فنحن لا نواجه ديكتاتوريات أو سياسيات حيوية، أو عمليات إبادة منظّمة بأشكالها الكلاسيكية، كما لا نشهد حراكاً اجتماعياً معارضاً من النوع المألوف. وسمات الوضع الراهن تجعل اللجوء إلى الإجابات المريحة أمراً متعذراً.
يعاني المتمردون على الأنظمة من مشاكل ذات طبيعة مشابهة، ليس فقط غياب المشروع والأيديولوجيا والتوجه، بل أيضاً عدم القدرة على إبداء ما هو أكثر من الغضب، من جهات تُحمَّل مسؤولية كل شيء، ويُعتبر زوالها حلاً سحرياً لما تعاني منه المجتمعات من كوارث.

تمايز غير وظيفي
يشير عالم الاجتماع الألماني نيكولاس لومان إلى نوعين من
التمايزات الاجتماعية، أولها قروسطي يسميه «التمايز الطبقي» (بالمعنى
الإقطاعي للطبقية) والثاني حداثي هو «التمايز الوظيفي». كانت الوظائف
الاجتماعية الأساسية في المجتمعات القديمة، مثل تحديد ما هو عادل وخيّر
وجميل وحقيقي، وتنظيم المجتمع على أساسه، تتم داخل طبقات اجتماعية مغلقة،
نبلاء، فرسانا، كهنة، فلاحين، طوائف دينية، الخ، وكل طبقة تقوم بوظائفها
بانفصال عن غيرها من الطبقات، ضمن هرمية اجتماعية بين الطبقات وداخلها.
التمايز الوظيفي في العصر الحديث جعل الأنظمة تكتسب العمومية الاجتماعية
والانفتاح المعرفي، فيمكن لأي فرد، من أي طبقة اجتماعية كانت، أن يصبح
جزءاً من أنظمة القانون والفن والتعليم وغيرها، إذا اتبع إجراءات معيّنة،
تمكّنه من فهم أكواد الأنظمة وإجراءاتها. الأنظمة الحديثة مغلقة تشغيلياً
رغم انفتاحها المعرفي، أي أن طريقة اشتغال نظام الاقتصاد مثلاً، تقوم على
أساس معطيات ورموز اقتصادية بحتة، حتى لو تأثرت أيديولوجياً وإجرائياً
بالسياسة أو عوامل أخرى، فهذا التأثر لا يتم إلا بعد ترجمته إلى رموز
اقتصادية، وفعالية النظام بأكمله تقاس باستقلاله التشغيلي عن بيئته، أي عن
بقية الأنظمة الاجتماعية.
لا يمكننا الحديث عن تمايز وظيفي في الأنظمة الاجتماعية العربية، يمكن على
الدوام لمعطيات خارجية، أن تفرض نفسها على عمل أي نظام بشكل عشوائي، فيبقى
المعتقلون في السجون بدون أي مبرر قضائي، كما في حالة نظام القانون؛ تستخدم
المصطلحات الدينية في الحديث عن قضايا نظام العلم؛ وتدار العمليات
الاقتصادية بتخبط كبير، لا مبرر له من داخل نظام الاقتصاد. في الوقت نفسه
لم تعد المجتمعات، في أغلب الأحيان، قائمة على طبقات مغلقة، رغم كل التمييز
الطائفي والإثني والجنسي، مع وجود التعليم العام ووسائل الإعلام
الجماهيرية وعمومية القوانين المدنية.
يبدو التمايز قائماً بالأحرى على أنماط معينة من الولاء: لا يُحاسب الزعماء
السياسيون وغيرهم من النخب على أساس كفاءة مستندة إلى معايير نظام اجتماعي
ما، بل على أساس ما يمثلونه لمواليهم من حضور رمزي، يضمن نفوذ الجماعة
وتفوقها، أو حمايتها من أخطار وجودية، حقيقية أو متخيلة. يمكن على هذا
الأساس فهم منطق موالي الزعماء الطائفيين في لبنان، أو الارتباط بين جزء
كبير من أفراد الطائفة العلوية والنظام السوري، فليس المهم في هذه الحالات
أن تكون القيادات قادرة على تأدية الوظائف الأساسية، وسيصبر أنصارها على
الفقر المدقع والإهمال الجسيم، ما دام بإمكانها التمثيل الرمزي، المباشر أو
غير المباشر، للجماعة. سوء الأحوال لا يكون هنا مقدمة للثورة، بل على
الأغلب سيدفع كل جماعة ولائية، التي لا تساوي الطائفة الدينية بالضرورة،
للسعي للانقضاض على جماعة أخرى، أو الاستعداد للدفاع عن النفس في مواجهتها.
قد يمكن تفسير علاقات الولاء هذه بعوامل شديدة التداخل والتراكب: الطائفية،
الشبكات الزبائنية، الطبقة الاجتماعية، الأيديولوجيا، إلخ، ولكن من
المنظور الوظيفي البحت، الذي ننتهجه هنا، يغدو التعويل على فشل الأنظمة
وانعدام كفاءتها، واعتبار زوال «الطبقة السياسية» والزعماء متاحاً، ومقدمة
للخلاص، غير ذي معنى.
يخرج المتظاهرون مطالبين بالعدالة أو الحرية، أو تحسين الظروف المعيشية، ويصدمون كل مرة بأن سعيهم ينتهي غالباً إلى تصليب الولاءات القديمة نفسها، والغرق في نزاعات دامية بين المجموعات الراسخة.
ولاء هش
تبدو المشكلة الأساسية للمعارضة، من المنظور نفسه، عدم قدرتها على تشكيل مجموعة ولاء قادرة على فرض نفسها اجتماعياً. يخرج المتظاهرون مطالبين بالعدالة أو الحرية، أو تحسين الظروف المعيشية، ويصدمون كل مرة بأن سعيهم ينتهي غالباً إلى تصليب الولاءات القديمة نفسها، والغرق في نزاعات دامية بين المجموعات الراسخة. الثورة المصرية، على أهميتها، وصلت إلى طريق مسدود، مع تحوّل المواجهة السياسية والاجتماعية إلى استقطاب بين طرفين، الدولة (أو الجيش) والإخوان المسلمين. في حين فشلت القوى المدنية في تشكيل أي جسم سياسي متماسك، وتغرق اليوم في نزاعات صغيرة، تدلل على عجزها الكبير في بناء الجماعة السياسية.لاقد يكون الخلط الكبير بين المنطق السياسي الحداثي، الذي يؤمن به كثير من الناشطين المعارضين، والشرط السياسي الواقعي، الذي يعملون ضمنه، سبباً في الفشل المزمن لكل مشاريع التغيير، ولكن المعارضين أنفسهم يتصرفون، في كثير من الأحيان، كمجموعة ولاء مغلقة، ولكن ضعيفة الفعالية، ترى أن المشكلة تقتصر بفساد وشر بقية المجموعات. ربما يكون الحل هو سعي المعارضين لبناء شعب، أو طبقة اجتماعية، تعمل على تحطيم بقية المجموعات الولائية سياسياً، وتمايز نفسها عنها جذرياً، بكونها تمثل المتن الاجتماعي، الملغي لتشرذم الولاءات. ولكن هذا شديد التعذر في الظرف الحالي لأسباب متعددة، أحدها أن الثائرين يظنون أن تكرار شعارات مكافحة الظلم والفساد كافٍ وحده لتغيير الواقع.
فئوية «المجتمع المدني»
على الرغم من السوء الاستثنائي للأوضاع العربية، فإن عدم فعالية الحراك الاجتماعي بات، منذ زمن، مشكلة عالمية، فقد عجزت أكبر الاحتجاجات حجماً وطموحاً، عن إفراز تعبيرات سياسية وتنظيمية ذات مشروع واضح. في حين أدى اضمحلال القوى السياسية التقليدية إلى بروز فئة «الناشطين» وهي مجموعة عالمية من العاملين في الشأن العام، مرتبطة بمنظمات ذات أيديولوجيات متشابهة، تطرح قيمها، بوصفها بديهيات واجبة التحقيق. ورغم قرب كثير من هذه القيم من المفاهيم الكونية لحقوق الإنسان، إلا أن جماعات الناشطين تصبح تدريجياً مغلقة على نفسها قيمياً واجتماعياً، ومتعالية على الظرف السياسي والاجتماعي الملموس الذي تعمل ضمنه.
لعب الناشطون المدنيون في العالم العربي دوراً مهماً أثناء فترات الصعود الثوري، خاصةً من خلال مطالبتهم بالمساواة القانونية، وإنهاء التمييز المشرعن بحق فئات معينة، مثل النساء والمثليين والأقليات، ما جعلهم أكثر عمومية من نظرائهم الغربيين، الذين انشغلوا غالباً بقضايا «العدوان المصغّر» إلا أن الناشطين العرب يُبدون بدورهم عجزاً كبيراً في ما يتعلق بالعمل السياسي بمعناه الشامل، وغير قادرين على بناء جسم سياسي لمجموعات الاحتجاج التي باتوا يتصدرونها، على الأقل أمام وسائل الإعلام.
رغم كل هذا فإن المجموعات الولائية، بما فيها فئة الناشطين، ليست معطيات ثابتة وأزلية، والمنظومات القائمة تنحدر ذاتياً، بشكل درامي، نحو درجات غير مسبوقة من الفوضى، فتفقد صفتها، بوصفها منظومات، ويصبح التنبؤ بمجريات الأمور غير ممكن منطقياً. وفي هذا الشرط لا يمكن أن يكون الحراك سبباً للفوضى، كما يتخوّف كثير من نقّاده ومعارضيه.
القدس العربي