
حوار: نور فليحان
وحيدا إلا من أفكاره في حقل التفاح، يلوح السؤال بصوت ليلى، ليلى الحبيبة، وربما الوطن القريب البعيد “قديش فيك تعيش بظل حدا ثاني؟” ولا يجيب عدنان. لا يجيب ويدخّن سجائره كأن كل واحدة منها هي الأخيرة ويشرب -بكثير من التردد – كأس الماء الذي تركت والدته صلواتها على حافتها. لا دهشة في أيام عدنان التي تمشي على إيقاع عزلته عن محيطه ونظراته الباحثة عن وطن لا يعرف إن كان له وجود على هذه الأرض، لكنه يرنو إليه. جثة تئن خلف الشريط تكسر إيقاع العزلة، فهل يصير الغريب للغريب أنيسا؟ وأي إجابة ينتظر عدنان الذي يسأل: ” هل كان من الأجدر أن نرضى بلقمة صغيرة ونزهة كئيبة في هذه الدنيا؟”.
السؤال الأول: متى بدأت علاقتك مع السينما؟ وكيف تشكّلت؟
في عمر العشرين، وتحديدا في مدينة يافا، زرت السينما للمرة الأولى. كنت حينها أدرس مجال المحاسبة وفقا لرغبة والدي ولم يسبق لي عيش تجربة السينما لدرجة عدم معرفتي للسلوكيات التي يجب اتباعها في صالة السينما، كيف نحجز وأين ندفع وغيرها من التفاصيل. لا أنسى تفاصيل العرض الذي كان لفيلم روسي مدته ثلاث ساعات، وأنا بالطبع لا أتقن الروسية ولم أفهم الترجمة التي كتبت بالعبرية وبالتالي كانت الصورة وسيلتي الوحيدة للتواصل مع الفيلم المعروض، ويومها شعرت كما لو أنني أفقد عذريتي مع السينما. مر الوقت كما السحر، وظلّ أثر التجربة معي ولمدة أسبوعين يشاكسني لأفسر شعوري بأن هذا شيء أعرفه. وهذا ما أعادني إلى ذكريات طفولتي وأيام المدرسة حين كنت أتسلل ليلا إلى صالة المنزل وأشاهد الأفلام دون صوت كي لا أوقظ أهلي وبالتالي اعتمادي الكلي على الصورة. وربما كانت تلك اللحظات التي استعدتها بشكل غير مباشرة حين زرت السينما للمرة الأولى وربما هكذا تشكّلت علاقتي مع السينما وهكذا شعرت أنّها تعنيني وهكذا تشكّل خياري كذلك في طبيعة الأفلام التي أحب والتي تكون الصورة من أهم ملامحها.
السؤال الثاني: كيف كانت ملامح هذا الانتقال من مرحلة التلقّي إلى الإنتاج السينمائي؟
يمكنني وصف هذا الانتقال بأنه حدث ديناميكي أي أنه حتى اللحظة في تغيّر دائم. الانتقال إلى مرحلة إنتاج فيلم هو حلم ومسؤوليّة وبحث ورغبة كبيرة في عدم نسخ الواقع بس إعادة استحضار التفاصيل من مكان وصوت ورائحة وتقديمها وفق رؤية مختلفة وهي المهمة الأصعب حيث أن الأسهل دوما هو اتباع السائد وتقديم المتوقّع.
السؤال الثالث: برأيك ما الدور الذي يمكن للفن أن يلعبه أمام القضايا الكبرى كالثورات والحروب وغيرها؟
ربما كان لأهل الاختصاص على الصعيد البحثي القدرة على تفنيد دور الفن في القضايا الكبرى. ولكن من منحى فنّي ووفق رؤيتي الخاصة، أجد أن الفن ينتج بعد حدوث الصراع وهو ما يمكن أن نراه في موجات السينما الإيرانيّة مثلا أي أن الفن يقدم ردة فعل ما على قضية ما. وفي حالتي، فأنا ولدت في منفى بالحقيقة، والجولان اليوم لم تعد تذكر في نشرات الأخبار ولهذا أصف الوضع فيها على أنّه احتلال منسي. وبما أنني أنتمي إلى الجيل الثالث بعد الاحتلال، فأنا ولدت في محيط كان قد قدّم ردة فعل مسبقة على الاحتلال ولهذا أصف وضعي على أنه معزول وأكثر تعقيدا. وقد يعود السبب إلى ذلك في رغبتي كمنفي لا يعرف عاصمة وطنه الأم في تقديم فيلم روائي يسرد قصة العزلة من خلال دراسة شخصيّة عدنان أو “الغريب”.
السؤال الرابع: فيلم “الغريب” يبدو للمشاهد كرواية طويلة، فيها الكثير من الكوادر البصريّة التي لابد من تفكيكها لفهم الحكاية، ثم يلقي “عدنان” أو “الغريب” قصيدة تجيب على تساؤلات قد تكون رافقت المشاهد أثناء مشاهدة الفيلم. هذا السرد الروائي في الفيلم يعكس وجود حالة وطيدة ما بينك وبين الأدب المكتوب، فكيف تعلّق على ذلك؟

بالتأكيد أنا متأثّر بالأدب المكتوب، وخاصة الشعر الذي أحبه ولا أتقن كتابته ولكنّه يجذبني لما فيه من مساحة للخيال وتشكيل الصور والمشاهد وهو ما يتقاطع مع السينما. نحن حين نقرأ، نتحمّل بداية مسؤولية أن نقرأ أي أن نكتشف القصة ونترك لخيالنا مساحة ليجسّد الكلام المكتوب من خلال مشاهد. وبالتالي يصير الأمر كمثلث زواياه الثلاث هي المكتوب، والمتلقي، والكاتب. وبإسقاط الكلام على السينما، فجوهر السينما هو كيف نعرض القصة لا كيف نحكي وبالتالي ترك مساحة للمشاهد ليتمكن من التفاعل مع الفيلم لإعادة تشكيل المشهد والمشاعر. وفيلم “الغريب” بني وفق هيكل تراجيدي غير تقليدي يدرس شخصية “عدنان” بأخلاقية عالية أي بعيدا عن إطلاق الأحكام أو السؤال عن أسباب ما فعل وإنما التركيز على النتيجة والبحث فيها. وهي أيضا سينما منسيّة برأيي في خضم واقع يسعى لتقديم لإلام لا تترك للمشاهد أي فرصة للتفاعل أو طرح الأسئلة خلال أو بعد الفيلم.
السؤال الخامس: يمكن القول إن فيلم “الغريب” كان على درجة عالية من الرمزيّة، والرموز من الأدوات الفنيّة التي ينبغي التعامل معها بحساسية عالية بحيث لا تكون كثيرة جدا فتطغى على الفيلم وتعطل على المشاهد الفهم والتفاعل، وألا تكون قليلة بحيث لا تخدم الغرض من حضورها في الفيلم. كيف تمكنت من ضبط الرموز في فيلم الغريب؟
منذ بدء العمل على تصوير فيلم “الغريب” أبقيت في ذهني ضرورة تحقيق التوازن. وبرأيي فإن كل فيلم يمر بثلاث مراحل ولادة، تكون الأولى في مرحلة كتابة النص حيث يمكن المبالغة والذهاب إلى نهاية الأشياء وبالتالي حضور الترميز والاستعارات وغيرها من الأدوات البلاغيّة. المرحلة الثانية هي مرحلة التصوير، وهي المرحلة التي لا اتبع فيها النص بالكامل رغم أنه الحامل الأساسي للفيلم. ولكن التصوير هي المرحلة التي يبدو الفيلم فيها أكثر قربا بعد انتقاله من صيغة المكتوب إلى المرئي وهنا يمر العمل في مرحلة تنقيح ومعالجة رمزية ومراعاة أن وجود بعض الرموز لا يخدم فعلا النص. المرحلة الأخيرة هي المونتاج وهنا أتذكر القاعدة التي تقول بأن عليك قتل ما هو عزيز عليك* بمعنى حذف بعض المشاهد التي قد تكون كمخرج معجب ومتعلّق بها لكنها لا تتلائم وإيقاع الفيلم.

السؤال السادس: لابد من وجود رسالة أو هدف ما يسعى العمل الفني أو المخرج لتحقيقه، وفي خضم كل الصراعات في العالم قد يبرز سؤال الجدوى من الأشياء ليعرقل العمل أو ليثير بعض الشكوك. كيف تتصرف أمام هذا السؤال، الجدوى من الأشياء؟
هذا السؤال حاضر بكل لحظة، أصلا هل هنالك جدوى من وجودي ككل!؟
أنا مدرك ومتصالح مع الجزء المكتئب منّي وهو -برأيي- شيء نتشاركه جميعا وبلا شك كلما زاد وعي الشخص لمخاوفه ومشكلاته وغيرها كلما كان الامر أصعب وقد يحدث أن أمر بلحظات من الانهيار الوجودي حيث تحضر أسئلة على سياق ما الجدوى من كل شيء؟ ولكن أحاول في الوقت نفسه العمل على تبسيط الأمور والبحث عن نظرتي الخاصة للحياة والسينما وغيرها من التفاصيل وما أتعلمه يوما بعد يوم هو أن السينما هو أسلوب حياتي حيث أرى العالم وفق نفس النظرة والايقاع الذي اعمل وفقه فيلما حتى في ابسط التفاصيل كجلوسي على مقعد في حديقة مثلا. البحث عن الإجابات ليس بالأمر اليسير والشك مفتاح للحركة والبحث والاستمرار والابتعاد عن المسلمات ووفق هذا أفهم الحياة وأتعامل معها. السينما هي متنفس لي بغض النظر عن أي شيء اخر هي ليست وسيلتي فقط وانما نمط حياتي.
*you have to kill your darlings العبارة باللغة الإنجليزية هي
*خاص بالموقع