تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها في محاولة لإضاءة جوانب من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، 5 كانون الثاني/ يناير، ذكرى ميلاد السيميولوجي والروائي الإيطالي أومبرتو إيكو (1932 – 2016).
إذ كان عقد روايات أومبرتو إيكو (السبعة) قد اكتمل في العربية، وذلك خلال العام المنقضي بترجمة رواية “الشعلة الخفية للملكة لوانا” (دار الكتاب الجديد، ترجمة معاوية عبد المجيد)، فإن أعماله في حقول أخرى تحرّك فيها (قرابة الخمسين إصداراً) لا تزال في ثقافتنا أشبه بـ”متاهة”، والكلمة أثيرة لدى أومبرتو إيكو وهو الذي اعتبر كتابه “من الشجرة إلى المتاهة” (2007) خلاصة مساهمته في مجال تخصّصه السيميولوجي.
يقودنا هذا الالتفات العربي إلى الرواية أكثر من بقية انشغالات إيكو إلى عدد من الملاحظات في الوقت نفسه؛ منها أسبقية حضوره كروائي على الرغم من أن الكتابة الأدبية أتت في مرحلة متأخرة من مساره التأليفي، أي بعد البحث الفلسفي، والتنظير الأدبي، والسيميولوجيا. ألا يشير ذلك إلى إشكاليات في تلقّي ما يُنجز ضمن هذه المجالات، رغم الجهود اللافتة التي بذلها مترجمون مثل التونسي أحمد الصمعي (“السيميائية وفلسفة اللغة”، و”أن نقول الشيء نفسه تقريباً”، إضافة لمعظم روايات إيكو)، واللبناني أنطوان أبو زيد (“القارئ في الحكاية”)، والمغربي سعيد بنكراد (“العلامة.. تحليل المفهوم وتاريخه”،…).
لكن هذا الالتفات للرواية أكثر من غيرها لا يخصّ الثقافة العربية وحدها فقد حدث الأمر ذاته في كل فضاء وصله إيكو. فعلى الأرجح، ومنذ أن تظهر رواية “اسم الوردة” (صدرت بالإيطالية في 1980) في لغة ما حتى “تجُبّ ما قبلها” من أعمال إيكو فتدفع بمؤلفات أساسية كـ”البنية الغائبة” و”الأثر المفتوح” إلى مستوى ثان من الشهرة، خاصة مع تراكم الأعمال الروائية الناجحة للكاتب الإيطالي؛ من “بندول فوكو” (1988) إلى “العدد صفر” (2014).
ما يُطمئن حيال هذه الوضعية أن إيكو كان يفسّر انزياحه للرواية منذ ثمانينيات القرن الماضي بأنه ضربٌ من “إستراتيجية معرفية” حيث يمثّل الأدب فضاء عمومياً تلتقي فيه المعارف، وبالتالي يمكن تمرير كل ما يُنجز في الغرف الضيّقة للتخصّصات ضمن “نظام علامات جديد” أسهل في التداول بين الناس، وبذلك كانت المدوّنة الروائية لإيكو أشبه بإسفنجة تشرّبت مياه المجالات التي انهمك فيها، ولا ننسى هنا أنه يجمع اهتمامات متباينة؛ من آداب وفنون القرون الوسطى إلى قطاعات الثقافة الحديثة من سينما وكرة قدم وإنترنت.
هكذا، وفي حين يعتبر البعض – بتحسّر – أن الوجه الأدبي أخفى الصرح الفكري، كان إيكو يرى أن هذا التنوّع في استعمالات أجناس الكتابة والعبور بخفّة بين المجالات أمر طبيعيّ بل ضرورة يمليها تضخّم المعرفة العالمة وتحوّلها إلى متاهة متشعّبة ومصدر تشتّت للذكاء البشري.
بشكل ما، كانت الرواية بالنسبة لإيكو عملاً مستوفياً لشروط الانتماء إلى حقل السيميولوجيا، وإن اعتمدت صيغة مختلفة عن البحث بمعاييره الأكاديمية. بعبارة أخرى، كان يمارس “علم العلامات” حتى وهو يكتب الأدب، بل إنه بهذا الخروج عن الحدود المرسومة للحقول المعرفية كان يقدّم محاولة لحلّ معضلة تصريف المعرفة بعد اكتسابها بالأدوات النظرية الصارمة.
فعل ذلك أيضاً من جنس إبداعي آخر، هو المحاولة، وكذلك من خلال الكتابات الصحافية. يمكن أن نرى هذا الخروج بالسيميولوجيا من قواعدها البحثية نوعاً من التواضع المعرفي، ولكن أيضاً يمكن اعتباره مراجعة قام بها إيكو الذي كان يؤمن في بدايات حياته الأكاديمية بأن السيميولوجيا سترث كل المعرفة البشرية أو على الأقل ستكون الحقل المعرفي المحوريّ لزمننا. فهم إيكو أن هذا التصوّر لا يعدو أن يكون “يوتوبيا”، فنقدَها بشكل لطيف وهو يهجر شكليات البحث السيميولوجي دون أن يفارق جوهره.
بنظرة فاحصة إلى جملة مؤلفاته، سنقول بأن هناك أكثر من أمبرتو إيكو. قد تحتاج كل قارة سكنها إلى عناية خاصة، وانتباه إلى الإشارات التي تركها المهندس للتحرّك في البينان الذي شيّده. كل ذلك ليس سوى تمرين على دخول المتاهات، فما الذي تمثّله المتاهة التي أنشأها إيكو أمام متاهات أكبر نواجهها. كأن إيكو كان يقول لنا: ماذا لو كسبنا كل المعرفة وخسرنا علاقتنا بالعالم؟
(العربي الجديد)