ترجمة: رحاب شاكر
كلما طُرِح موضوع تحرر المرأة للنقاش، تبادرت فورًا للذهن مسألة «الطبيعة» و«الثقافة» أو «الخلقي» و«المكتسب». إما عن طريق الإشارة إلى الصبيان لاعبي الكرة والبنات المتعلقات بالدمى، أو من خلال الملاحظة: إن كان فعلًا لافرق بين كيان المرأة والرجل، كيف لنا أن نفهم ندرة المؤلفات الموسيقيات ولاعبات الشطرنج المتميزات أو الفائزات بجائزة نوبل، باختصار قلة العبقريات؟ بعد جدل قصير نتوصل غالبًا إلى أحد الإستنتاجين التاليين. إما أن نقول: طالما يحق للنساء الإنتساب إلى المؤسسات التعليمية، لابد إذن أنهن كسولات ولا يُتعبن أنفسهن (ألا تتغيب السكرتيرات لأتفه الحجج؟)، أو أن نقول: المرأة عندها دماغ بكل تأكيد، ولكن دماغها لا يتفوق بشيء. تنقصها إذن الشخصية أو العقل. هاهي الطبيعة تكسب الجولة للمرة الألف.
لإعادة الجدل إلى نطاق الثقافة، لابد من إثارة مفهوم مجتمعي قديم: الأقلية. من يرغب بالغوص في كل جوانب المسألة يحتاج إلى صفحات طويلة. والجدول في نهاية هذه المقالة ليس سوى دفعة أولى أقارن فيها بين النساء والسود على بعض الأصعدة. ولكن لمناقشة موضوع العبقريات يكفينا، على ما أظن، افتراض أن أبناء الأقليات معرّضون منذ صغرهم لعملية تلقين لا تنمّي فيهم سوى تلك الصفات التي تعتبرها ثقافتهم من الدرجة الثانية.
عندما تكون حيواتهم نتاج عملية التلقين هذه، يتم بُغضهم وازدرائهم (يحصل هذا بشكل مُقنّع) ولا يُؤخذون على محمل الجد. بمعنى آخر: لا ينظر معظم أبناء الثقافة السائدة إلى أبناء الأقليات على أنهم أعضاء مكتملي القيمة. وبما أنهم يشعرون بذلك، يتبنون سلوك غير مكتملي القيمة (أنظر إلى الجدول: سلوك التأقلم)، بحيث تتوطد فكرة «نقصهم» التي تؤدي بدورها إلى المزيد من السلوك السلبي، وهكذا دواليك.
لاأعرف إن كانت الإضاءة ممكنة على النقص عند جميع الأقليات من خلال ثنائية الروح والجسد. بيد أني أرى هذا ممكنًا بالنسبة لنا وللسود واليهود. اليهود عانوا، والنساء والسود يعانون تحت وطأة عجزهم على التواصل الكامل مع جسدهم أو روحهم، ومن النظرة إليهم على أنهم إما روح أو جسد. وبالتالي تضمر جوانب من شخصيتهم ويتم التركيز على أخرى: الثقافة تفرض على أبناء الأقليات نوعًا من التخصّص. وبهذه الطريقة يوصم (أو وُصِمَ؟) اليهود بوصمة روحية، والنساء والسود بوصمة جسدية. ومن هو روح بشكل أساسي، سيعتمد على التفكير. ومن هو جسد، لن يفكر.
نشوء هذه الأقليات أسباب تاريخية. على سبيل المثال، كلّ أقلية منها ملاحقة بلعنة إنجيلية تختلف عن الأخرى2. قد يكون من المجدي ربط طبيعة اللعنة بمصير هذه الأقليات والتأمل فيما إذا كانت ثمة مبادرة سحرية حديثة قادرة على إبطال سحر الزمن الغابر. لم يمض وقت طويل على إلغاء لعنة اليهود من قبل البابا، بيد أن حواء لم تتخلص بعد من هلاكها الأبدي. لم يحصل هذا ولا حتى ظاهريًا، إن أخذنا موقف البابا من تحديد النسل بعين الإعتبار.
هكذا تواصلُ الثقافة تشكيل هذه الكائنات «غير المتوازنة» والوظيفية، حيث أن تخصّص الأقليات يسهّل الكثير على الثقافة.
نحن النساء، كما الإنسان الأسود، ملاحقات بوصمة الجسد و(كنّا؟) ننتمي إلى خانة الممتلكات. ولطالما تم ذكرنا في نفس الجملة مع الماشية: لا تشتهِ زوجة قريبك… ولا ثوره، ولا حماره. غير أن وظيفة الجسد عندنا تختلف عن وظيفتها عند الإنسان الأسود. السود يستخدمون جسدهم في المهن المنحطة، وأثناء مزاولة العنف (الملاكمة) وفي أشكال التعبير «البدائية». ومهما فعلوا، فهم يبرزون مباشرة من خلال هذه الصفات غير الناضجة. الزنوج الأمريكيون محقون إذن حين طالبوا بـ «بشَريتهِم»، فلقد آن الأوان كي تعاملهم الثقافة على أنهم بالغون. غير أن هناك الكثيرين ممن يعتقدون بأن رجولتهم تتحقق على الطريقة الكلاسيكية: من خلال الحطّ من قيمة النساء.
الوضع بالنسبة لنا يختلف: جسدنا هو ملك الآخرين. يمكننا وصف هذا الأمر بسبل مختلفة. بالنسبة للعنصريين نحن شيء فيه فتحة. فتحة من أجل الإنجاب أو للقضيب، شق يمشي على ساقين حسب تعبير مجلة بورنو كاندي. العنصريون القدامى ينظرون إلينا كأمهات المستقبل الحقيقيات أو المعطوبات، وإلى الصغيرات كموضوع للشهوة. أعرف رجالًا حزنوا جراء موضة التخلي عن السوتيان، إذ ما عادوا يصابون بالإثارة أثناء التنزه في المدينة.
بتعبير أبسط: التخصّص المفروض علينا هو الجمال والعناية بالآخر. جسدنا يعتني «من تلقاء نفسه» بجنينه أثناء الحمل. وبعد الوضع تستمر العناية وتطال أشخاصاً آخرين ماعدا الزوج والأطفال.
عندما يُفرض تخصّص ما على جماعة معينة، فمن الطبيعي أن تتحقق أهم المنجزات ضمن هذا التخصّص. السود والنساء عندهم عباقرتهم إذن، غير أنهم عباقرة الجسد. عباقرة الإنسان الأسود هم الملاكمون والموسيقيون (تعبير بدائي). وعباقرتنا هن عارضات الأزياء ونجمات الباليه ومغنيات الأوبرا صاحبات المقاسات المذهلة، واللواتي يقدمن نسخة فنية عن الجسد الجميل وسبل استنطاقه.3 ولدينا أيضًا عباقرة العناية: كبيرات الأمهات وغيرهن ممن امتدت عنايتهن خارج حدود المنزل وقادتهن إلى فتح سلسلة من المؤسسات الخيرية. على سبيل المثال تريسا فان أفيلا، ومدام ده ماينتينون، وفلورانس نايتنجيل. بيد أن الثقافة لا تعترف بعبقرية هؤلاء العباقرة ولا تقدّر تخصّصهم. قد تسير الأمور بشكل مغاير أحيانًا، فيصبح تخصّص أقلية ما مع الوقت هو محطّ أسمى تقدير. حصل هذا مثلًا مع اليهود.
لنساء والسود يتولون وظيفة الخدمة، لذا من غير الممكن التخلي عنهم ولم يشك أحد بأهميتهم. أما بالنسبة لليهود، لم يسبق أن كان لهم مكانًا، ولقد نُبِذوا بشكل أبدي. من هنا يأتي التغاضي عن جسدهم والتركيز على الروح. التخصّص الذي تم فرضه على اليهود هو الروحانية والذكاء. ولم يتم إفساح المجال أمام هذا التخصّص في الثقافة السائدة وبين اليهود، إلا بعد أن انطلقت عملية العلمنة وتهشّمت صورة الرب الأب، على الأقل عند النخبة الفكرية. وهكذا تم تسليم دور السلطة الأبوية إلى «الإنسان الروحاني»: المفكر الكبير أو الفنان. ومنذ تلك اللحظة، حوالي نهاية القرن الثامن عشر، توافق التخصّص اليهودي مع مثاليات الثقافة وصار عندنا عباقرة يهود مشهورين.
بيد أن هذا لم يُضْفِ على اليهود سوى هيبة متناقضة عند النخبة. لم يتم الاعتراف باكتمال قيمتهم، بل وُصِموا بـ «العقلية» جراء تخصّصهم، وصاروا أعظم خطراً لشدة ذكائهم. لم يساعدهم عباقرتهم على استرداد جسدهم.
أتساءل إن كان قد مرّ عهد كنا فيه مكتملي القيمة؟ هذا ليس مستغربًا. بالنسبة للنساء، أرى بأن احتمال غيرة الرجال من قدرتنا على الولادة أكبر من حسدنا لهم على امتلاكهم قضيبًا. أليس غريبًا أن تنقلب هبة الطبيعة إلى عجز؟ إليزابيت جولد دافيس4 وغريغور مندل5 يتبعان خطى الأقدمين في اعتقادهما بوجود حقبة ما-قبل تاريخية كانت مرتبة المرأة عالية فيها، تلتها حقبة انحسر فيها التأثير الأنثوي. مندل
يستنتج دونما توثيق بأن تقهقر دور المرأة أعطى دفعة للتحضّر، بينما تورد جولد دافيس الكثير من المواد الأثرية لتثبت بأنه كانت ثمة حضارة أمومية وصلت إلى مستوى وقدرة تقنية دثر سرًّها الزمنُ. الشيء الذي اتفق عليه الباحثان هو النظرة إلى المرأة على أنها كائن جبار – خذوا عدد الربّات الجليلات بعين الاعتبار -، وعلى أن دور آلهة الأنوثة تقلّص لحساب الذكورة (العهد القديم). ترى جولد دافيس أن هذه العملية رافقها تزوير منظّم للتاريخ: كل الإنجازات الأنثوية انتقلت إلى الرجال. وهكذا تم تسليمنا مكانة متواضعة في التاريخ وبدأت عملية تقويض ثقتنا بأنفسنا.
يرى مندل أن الصعوبة تكمن في أن هذه العملية تتكرر في حياة كلّ فرد. في المرحلة الأولى من الحياة تكون المرأة هي الشخص المهيمن: الأمهات، أو النساء، هن اللواتي يعتنين بالأطفال الصغار. ومهما كانت المرأة متفانية، لا بد أن يمرّ طفلها بلحظات إحباط، فيعكس خوفهـ/ا وغضبهـ/ا على الأم، أي أن يبرر عدوانيتهـ/ا بوجود أمّ سيئة أو خطيرة. من هنا جاءت سمعة الأمهات السلبية – المصطلح اقتبسته من مندل – التي تملأ الحكايات. كم قرأنا عن المشعوذات الشريرات، بينما يبقى الساحر الشرير شخصية نادرة. ربما هي خدعة خبيثة من الثقافة أن تكلفنا لوحدنا بالعناية بالأطفال: بهذه الطريقة تكون سمعتنا عند الصبيان والبنات هشّة منذ البداية.
كلما كبر الأطفال، تم حلول السلطة الذكورية محل الأنثوية، على الأقل في مجال التعليم والثقافة. هذا يناسب الصبيان، لأنهم قادرون على التماهي مع سلطة من نفس الجنس. هذه السلطة لا تدخل حياتهم إلا بعد أن يصبحوا أقل عجزًا. أما بالنسبة للبنات، فالعقبات نحو النضج تزداد صعوبة، فمعظم الشخصيات ذات المكانة المرموقة هي من الرجال. وحتى لو ثابرن على تنمية ذكائهن حتى سن الثامنة عشر، أي أن يتطورن ضمن محيط تسيطر عليه إنجازات الرجال، يبدأ التثبيط شبه المؤسساتي الذي يتخذ شكل مرحلة ما قبل الزواج: تعليمات البحث عن زوج والتلميح بأن السعادة غير متاحة إن لم يتم العثور عليه.
من الطبيعي أن يستصعب شخص موهوب بـ «شيء» (عبقري) تنمية موهبته عندما يكون في الثامنة عشر من عمره. فلا أحد يعرف إن كان هذا «الشيء» يستحق فعلًا، ولا تشعر الـ «أنا» بالسند إلا بعد حصولها على اعتراف المجتمع، أي من خارجها. أضف إلى أن هذه الـ «أنا» تحتاج إلى ضمانات بأن هذا «الشيء» سينفعها في حياتها. وهنا نصل إلى الفرق الأول بين الصبيان والبنات. الصبيان يثقون إلى حدٍ ما بأنهم سيستثمرون موهبتهم الغضة لمدى الحياة وبأنهم سيتطورون معها، هذا جزء من دور الرجل. الأمر يختلف عند البنات اللواتي يستكشفن موهبتن كمن يقول: «الله أعلم!». فالحكايات ليست مليئة بالمشعوذات فقط، بل تنضح أيضاً بالأمراء، وبعد الأمير تأتي قبيلة من الأطفال وحياة سعيدة غير مُعَرّفة. هذا يعني بأن الفتاة الموهوبة تنقصها صورة واضحة عن المستقبل، فلا تتجرأ على مباشرة أمور مفتوحة على اللانهاية، لأن الأمير ينتظرها خلف الشجرة وعليها أن تحسب حسابه على طول الخط.
لهذا السبب تكون مقدرتها على التركيز أقل بكثير. الفتى قادر على تأجيل التفكير بالجنس الآخر، فالمكافأة لا تهرب. والرجل المشهور يملك كوكبة من المعجبات، لا بد أن يجد واحدة تكون مستعدة لأن تقاسمه الفراش وتخدم الرجل الكبير. ما إذا فعلنا مثلهم، فسنضع أنفسنا خارج سوق الزواج ونفقد جاذبيتنا الجنسية. ينظر الرجال إلى المرأة الموهوبة بأحاسيس متناقضة، فهي لا تولّد عندهم الإحترام فقط، بل تدسّ في قلوبهم الخوف. احتمال أن تبقى هذه المرأة وحيدة كبير. أضف إلى أننا مضطرات للاستعجال، كما يقول الناس. وبما أن الثقافة ميّالة إلى إعلان موت شهوتنا في وقت مبكر، لا نتجرأ على الانتظار. وحالما نتزوج، تصبح كل انشغالاتنا نوعًا من سدّ الفراغ ولا تؤخذ على محمل الجد. كلّ هذا لا يشجع أبدًا على بذل أقصى الجهد، ولا على التعرق بنسبة التسع والتسعين بالمائة التي تستجلب الواحد بالمائة من الإلهام. تابع الباحثان تيرمان وأودن6 أطفالًا موهوبين حتى سن النضج، ولاحظا أن ذكاء النساء يتراجع وسطيًا، بينما يبقى ذكاء الرجال كما هو وقد يرتفع. عندما لا نستخدم موهبتنا، تموت. ثمة عامل يتعلق بما سبق: درجة الطموح. وهنا أيضاً تلعب مرحلة ما قبل الزواج دوراً هاماً. في حال رغب أحد استثمار موهبته، عليه فرض الشروط على نفسه ورفع مستوى تطلعاته. الصبيان يعرفون أن عليهم الاعتماد على أنفسهم قبل كل شيء، أما البنات غالباً ما يتم تصريف طموحهن عبر قنوات أخرى. هكذا نجد في إحدى استطلاعات الرأي بين التلاميذ الأمريكيين – المتشابهة في جميع أسئلتها – أن ثمة سؤالًا فرعيًا تم تقسيمه حسب الجنس. الذكور سُئلوا: ماذا تريد أن تصبح في المستقبل؟ والإناث سُئلن: ماذا تريدين أن يصبح زوجكِ؟ طرح هذا السؤال صحيح في حال كان هدفه قياس مستوى الطموح. فلقد كشف بحثٌ أن تلاميذ الثانويات الذكور الطموحين يركزون على مستقبل عمل لأنفسهم، والبنات يبحثن عن تحقيق طموحهن من خلال رجل المستقبل .. من أجل إنجاز أي شيء تحتاجين للشعور بأنكِ قادرة ومسموح لكِ. بمعنى آخر: تحتاجين لصورة إيجابية عن نفسكِ وعن جماعتكِ. وهذا ما لا نملكه، فنحن ميّالات إلى الحطّ من قيمة إنجازاتنا وإنجازات بنات جنسنا. أسوق على سبيل المثال ذلك البحث المبني على التشابه بين مقالتين. تمّ عرض المقالة نفسها على مجموعتين من الطلاب. قيل للمجموعة الأولى بأن الكاتب هو جون ماكي، وللمجموعة الثانية بأن الكاتبة هي جوان ماكي. تقييمهم لمقالة جون كان من جيد إلى ممتاز، بينما حازت مقالة جوان على علامة وسط. حتى الإناث من الطلاب كان رأيهن هكذا8. جميعنا يفكر: بما أن المقالة لامرأة، لن تكون ذات مستوى عال بكل الأحوال. أضف إلى أن ثمة بحث يؤكد أننا نخشى النجاح. نخاف من مجرد فكرة أن نصبح شخصية هامة. تبيّن هذا من خلال تمرين كتابة نصّ عن جون/ أنّا طالبـ/ة الطب الأكثر تميزًا على دفعتهـ/ا. ماهو مستقبل جون؟ (موضوع الإنشاء للذكور)، وماهو مستقبل أنّا؟ (موضوع الإنشاء للإناث). أكثرية الصبيان توقعوا بأن مستقبل جون سيكون باهراً، أما الإناث فأحلن أنّا إلى زاوية صغيرة في مكتب. هذا مفهوم طبعاً، لأن النساء في المراتب العليا أقرب للاستثناء، والاستثناءات يعانين الكثير .
وعلينا ألا ننسى أن العباقرة هم رأس الهرم. كلّ طفل هولندي يعرف من هم أساتذة العصر الذهبي الكبار، غير أن غالبية الهولنديين لا يدركون عدد رسّامينا الكبير إلا بعد أن تتم مواجهتهم بالأساتذة الصغار في متاحف خارج هولندا.
لاعبو الشطرنج الكبار يعيشون في بلدان تعتني بتقاليد المسابقات في هذا المجال. أما عباقرة الشطرنج، كالروس مثلًا، تربوا في بلد يلعب الشطرنج كهواية إيجابية في أوقات الفراغ. بمعنى آخر: إذا كان ثمة بيئة لاكتشاف المواهب، ستظهر تلك المواهب حتمًا.
وثمة وجه آخر لهذه القضية:
قال أحدهم يومًا: «جوائز نوبل وراثية»، ولم يقصد أن العبقرية تنتقل من الأب إلى الإبن، بل أن بعض المؤسسات تنتج الكثير من الماهرين، لأن القادمين الجدد يتأثرون بمستوى تفكير الموجودين قبلهم، فيضعون شروطاً أعلى على أنفسهم. من أجل تنمية الموهبة يحتاج المرء إلى تقاليد ثقافية وانتماء إلى فريق عالي المستوى. بالنسبة لنا، نحن النساء، ينقصنا كلا الدافعين. لا توجد فرق عمل مؤلفة من نساء عالمات نرهب العمل معهن، وليس ثمة تقاليد ثقافية تحرّض البنات. التقليد الثقافي الوحيد الذي يتوفر فيه هذا الشرط هو الباليه. في كلّ المجالات الأخرى تواجه البنات المقاومة نفسها التي يواجهها الصبيان في عالم الباليه. ولأنهن لا ينضبطن بدورهن الجنسي، يصبح تواجدهن غير بدهي، والنتيجة هي عدم ثقتهن بأنفسهن. وعدم الثقة تنهش الطاقة المبدعة.
ماذا يتعين علينا فعله كي نتخلص من وضع الأقليات، ولنجد السبيل إلى الإكتمال النفسي؟ الحل الأكثر جذرية هو رفض تخصّصنا الجسدي، والنظر إلى أنفسنا وإلى بعضنا البعض على أننا أشخاص. كما علينا أن نعتاد القيام بالأشياء التي تهمّنا أولاً. علينا نفيَ ذلك الملاك الذي يملي علينا التفاني لسد احتياجات الآخرين قبل أن يأتي دورنا. لأن هذا الملاك يرى نفسه مسؤولًا عن عدد لا يحصى من الناس والحالات. هذا الملاك يمنع الموظفات من القبول بعمل أفضل كي لا يوقعن رئيس عملهن في مشاكل. هذا الملاك يجعلهن يعملن في أوقات غير مناسبة، خوفًا على رئيس عملهن المسكين من التلبك في عمله. هذا الملاك، والذي سميته سابقًا «القلب الطيب»، ليس ملاكًا على الإطلاق. هو عدم استقلاليتنا وعدم قدرتنا على استمداد حياتنا من أنفسنا. عندما نعتني بالآخر، نتأكد من حق وجودنا ولا نضطر لمواجهة واجبنا المخيف بتوجيه مستقبلنا الشخصي. هذا الأمر له علاقة بالنضوج، بيد أن الثقافة تزرع العراقيل أمامنا. الصبيان يدخلون سن الرشد حالما ينغرسون بشكل نهائي في سوق العمل بعد إنهائهم الخدمة الإلزامية. أما عندنا، فالرشد ينقسم إلى عدة تجارب: الحبيب الأول الحقيقي، الزواج، الأمومة، وفي بعض الحالات العشيق خارج مؤسسة الزواج10. طالما أنكِ لم تمري بكل هذه التجارب، لن تتعرفي على الحياة وستتخبطين في ضباب يمنع عنك رؤية أسرار المرحلة القادمة حتى ولو كنتِ محاطة يومياً بأناس تجاوزوها. الصبيان يزاولون دورهم الاجتماعي من خلال التعثر والوقوف من جديد ويصارعون دونما توازن من أجل هويتهم. في حين تبدو الفتيات بلا شخصية أو كيان ويختفين وراء ابتسامة بانتظار ما سيأتي.
النتيجة الثانية هي أن البنات يتطلعن بشدة إلى زيارة دار البلدية (للزواج). ثمة عوامل أخرى تلعب دورًا هنا: رغبتهن بالتخلص من منزل الأبوين أو الهروب من الوحدة. ولكن الأهم هو ذلك الدافع المشروع نحو اكتشاف حياة البالغين.
النتيجة الثالثة هي التقصير الدائم. فإن تزوجنا أم لا، ستعيش الكثيرات منا حتى سن الثلاثين في غابة من التوقعات التي تعيقنا عن رؤية مستقبل لشخص واحد. وفي حال صحونا أخيرًا، تكون اليقظة مرعبة، إذ لامجال للتحرك أو هكذا نعتقد.
في ختام كتابها نساء الغد تتساءل إيفيلين سوليروت11 فيما إذا كان من الممكن تغيير أنماط العمل للرجال والنساء على حد السواء. وهذا لأن نتائج البحوث تدلنا على أن الرجال يقدمون أحسن ما عندهم قبل سن الخامسة والثلاثين، بينما تبدع النساء في سن متأخر. لا عجب، تقول سيليروت، لأنهن في المرحلة الأولى من حياتهن منشغلات بالحب والأطفال، وكلاهما يستهلك الطاقة.
أتساءل فيما إذا كانت سيلوروت محقة، حتى ولو كانت قياسات تلك البحوث صحيحة. هل هم الأطفال الصغار والحب، أم دور الحالمة الذي يجعلنا جميعًا نشبه الجميلة النائمة؟
مهم جداً برأيي أننا لم نتعلم التفكير بمستقبل لشخص واحد. أدرك أن هذا المستقبل بعيد المنال أساساً ولن يمنحنا المجتمع مكانة مستقلة. حتى حين تمكنّا من كسب مالنا بعرق جبيننا وبطريقة تناسب ميولنا، وُضِعنا تحت ضغط الاختيار أو المشاركة: إما أن نتزوج وننجب أطفالًا وننتهي عند هذا الحد، أو نمتنع عن الزواج فتلاحقنا هالة غريبة، أو على الأقل هذا ما كانت بنات جيلي يسمعنه. إلى درجة أني كطفلة ظننت بأن رائحة المسنّات غير المتزوجات مقززة. لسن نتنات، ولكن يكدْن.
وبعدها جاءتنا كتب البنات. ولم تكن المشكلة أن رائحة النساء الوحيدات فيها لا تحتمل، فلا أحد يرد على ذكرهن أصلاً. كتب البنات، هذا يعني الكثير من الضحكات المكبوحة وأنس الأعياد والنزهات في الغابة ودغدغات الحب، والنهاية كلام في دار البلدية. باختصار: رومانسية. بيد أنها كانت ولا تزال رومانسية سلبية. رومانسية الصبيان تكمن في التغلب على المصاعب، رومانسية البنات في لغز الحدث الذي لا يخترنه بأنفسهن. أبطال كتب الصبيان مبادرون، بطلات كتب البنات ينتظرن نشوة السعادة.
السيء في الموضوع هو أن هذه الكتب ذات الدور الهام في التنشئة الإجتماعية، تعرض الزواج على أنه نهاية كل الطرق. إن أردنا معالجة بطء النضوج عند المرأة، علينا كتابة كتب يكون فيها الحب والزواج محطتين في الحياة ويتم التتويج من خلال شيء آخر. كما في كتب الصبيان، يجب أن تروي قصص البنات نجاحات فردية أو جماعية: البطلة أو البطلات يواجهن المصاعب، ولكن مشروعهن ينجح في آخر المطاف.
من المهم طبعًا أن تحظى الفتيات بأمثلة إيجابية متخيلة، بيد أن هذا لا يكفي. يجب أن تتواجد أمثلة عن سيدات جريئات في محيطهن الواقعي. علينا أيضًا أن نتدرّب على الجوانب الإيجابية لدور الرجل، بالرغم من كل التكييف المضاد. لا أقصد القول بأن الصبيان قادرون على تبني هذا الدور بغاية السهولة. كم هو مؤثر منظر الفتيان الوافدين على عملية الإنتاج وهم يصارعون هذا الدور. الفرق أنهم يُترَكون لصراعهم، ونُحرم نحن منه. إذ بعد إتمام الدراسة ذاتها، يميّز المجتمع بين البنات والصبيان. لا أحد يطلب منا أن نُنّمي قدراتنا القيادية، ولا حتى أن نتفوه بأشياء منطقية.
ولكن إذا اخترنا الغوص في بحار التجربة، علينا أولاً تغيير أدواتنا. غالباً ما تنجز النساء أمورهن كلّ واحدة على حدة، والنتيجة هي خوف عندهن (لا أحد يمد يد العون) وعند الآخرين. وحالما نكتسب المهارة، نصيبُ الأخريات بالفزع لأننا نتقن لغزاً لا يعرفنه.
بمعنى آخر: مازلنا في مرحلة التعليم الذاتي، وينقصنا التدريس المنظّم. الحال يشبه وضع التعليم منذ قرن تقريباً. حتى ذلك الوقت كان من الطبيعي ألا تتعلم المرأة شيئاً، ماعدا التدبير المنزلي وبعض المعرفة التزيينية. والنساء المتطورات اضطررن لتعليم أنفسهن بأنفسهن، أو بمساعدة أب أو أخ أو معلم خاص. لم يكن ثمة أطر مؤسساتية، مما زاد الشك بقدرات النساء الدراسية. ومن هنا نشأت «مدارس النساء» في البلدان الأنجلوساكسونية ومدارس الـ «ها بي إس» للبنات في هولندا.
هذه المؤسسات القديمة «دُمِجت» حاليًا، ولم يعد التعليم المدرسي والجامعي منصبّاً حصرياً على الرجال. ولقد تم جزئياً تذليل العقبات الفكرية التي تعترض الطريق إلى العالم، من دون أن ينسحب هذا على العقبات النفسية. لذلك علينا خلق الأطر للتغلب على السلبية، وتبنّي سلوك ناضج وحضور اجتماعي. من الأفضل أن يتم هذا من دون الإختلاط مع الرجال في بادئ الأمر. هل هذه مهمة النساء في قطاع التنشئة الإجتماعية؟
كي نصبح أناساً ناضجين، علينا أن نتعلم ونعلّم الجيل الذي بعدنا كيف نصمّم مستقبلاً لشخص واحد، لفرد في مجتمع وليس لعضو في الجنس البشري. علينا أن نتعلم ونعلّم بعضنا السلوك والحضور المناسبين للأفراد المستقلين اجتماعياً، وهذا يعني رفض سلوك التأقلم وردود الأفعال التي تميّز الأقليات. ومن أجل هذا نحتاج إلى بعض العلاج السلوكي.
علينا أن نتعلم كيف نصبح عسيرات ونطالب بسياسة التحفيز. ما عدنا قادرات على بلع العنصرية السلبية. هذه العنصرية السلبية منعت عنّا المناصب، إلا في حال كنا مميزات جداً أو تحولنا إلى «عاديات» في قطاع معين. إذ حتى لو لم نكن متزوجات أو أمهات، يأتي دائمًا أولئك الزبائن أو الزملاء أو المرؤوسين ليعترضوا على استلام امرأة المنصب من دون أن يضطروا لتقديم حجج منطقية. يقولون فقط: عندنا امرأة أخرى في ذلك المنصب، أو: لا نريد مشاكل في القسم. سياسة التحفيز هي أن تُستبدل العنصرية السلبية بإيجابية. بالنسبة للرجال العادلين هذا يعني: عيّنوا امرأة في منصب مرموق ودرّبوها إذا كانت غير واثقة بنفسها، والإحتمال كبير أن تكون كذلك. عندما يتم تقديمها لزملائها تلقائيًا، سيتعود الجميع على استقبال المزيد من النساء مع مرور الوقت12. أما بالنسبة للدولة، فمن واجبها استثمار المال والاهتمام برفع مستوى تعليم البنات وتطبيق سياسة الكوتا: تخصيص نسبة من المقاعد الجامعية للبنات تساوي نسبة المتخرجات من الثانوية13، والعمل على أن تكون نسبة الموظفات تساوي المتخرجات من الجامعة. ذا كانت العنصرية الإيجابية تطبّق على الرجال، فلم لا تطبّق كذلك على النساء المتنفذات. كل النساء اللواتي تبوأن منصباً عتيداً في المجتمع والعلم والسياسة، مدينات لنشاط النسويات في الماضي. وطالما لم تتحقق المناصفة بين الرجال والنساء، مطلوب من المتنفذات أن يستثمرن في النساء الأخريات والتنقيب عن الموهوبات ودعمهن. هذا إلى جانب قدرتهن على استلام دور الأمثولة والفائزين بجائزة نوبل. عندما تشرع الرائدات بالإعداد لمشروع ما، في التمريض أو العمل الاجتماعي، تلتم من حولهن الأخريات. حسب علمي، يوهانا فيستردايك14 هي العالمة الهولندية الوحيدة التي لعبت هذا الدور، ولقد كانت نسوية واعية لنسويتها. إذا تمكن هذا الجنس من النساء استرداد عافيته، ربما لن تضطر البنات إلى تقليد الحسناء النائمة.
هل سيؤدي هذا كله إلى ظهور العبقريات خلال جيل واحد؟ لا أدري ولا يهمني هذا. الأهم أن نشتغل كمجموعة على وعينا لذاتنا وأن نتعلم استخدام عقلنا. ألم تكن النساء ذات يوم كائنات قادرة على اكتشاف إمكانيات الأرض وتطويعها؟
هذا الوعي للذات لا يأتي من تلقاء نفسه. عندنا مشكلة الصيت السيء وتصوّرنا السلبي عن مجموعتنا. من أجل التخلص من هذا، يتعين علينا اكتشاف الحقيقة. ولكن الحقيقة ليست في متناول اليد، فهي مندثرة تحت غطاء سميك من الصور النمطية. لا نملك عملياً أمثولات واقعية، وأمثولاتنا الخيالية تشكو من المعاني السلبية والمنتقصة. علينا إذن ألا نغالط أنفسنا: الشخصيات التي تصلنا عبر الأساطير وقصص الإنجيل وحكايا التاريخ، لا تملك قيمة الأمثولة، بل تلقّن الأجيال القادمة، رجالًا ونساء، السلوك الصحيح الذي لن يلوث السمعة.
من المثير أن نضع بعضًا من هذه الشخصيات تحت المجهر وندرس المعاني التي ترافقها، وفيما إذا كانت على صلة بالواقع التاريخي. فهذه الشخصيات ما زالت حيّة في مخيلتنا الجمعية وتعاود الرجوع إلينا عبر اللوحات والأفلام والرسومات ذات الطابع الكلاسيكي جداً.
لا مجال لكل هذا في هذه المقالة. ولكن من أجل الإضاءة على نوع المسائل التي تُثار هنا، اخترت شخصيتين نسائيتين لهما صيت سيء إلى درجة لم يحصل أن سمّيت بنتًا نسبة لهما: كسانتيب وكيناو.
كيناو رامية القطران وقائدة غضب مدينة هارلم. كيناو هي اللحظة التي تتحول فيها النساء إلى ضباع ورمز الجحيم الذي سيعمّ العالم في حال سيطرت النساء. كسانتيب هي المرأة غير المعجبة بزوجها المهمّ، فتلاحقه بهمومها الصغيرة. كسانتيب هي البلاء الذي ينزل بالرجال أحياناً بعد الزواج.
ولكن ماهي الحقيقة التاريخية بخصوص كيناو وكسانتيب؟ كيناو كانت مواطنة شجاعة تسكن في مدينة هارلم. تنحدر من عائلة محترمة وتكسب كأرملة خبز أطفالها الأربعة من خلال تجارة الخشب. وبما أنها ماهرة في صنعتها، استشارها الناس من أجل تقوية دعامة سور المدينة. وربما وقفت هناك كحارسة، لوحدها أو مع نساء أخريات. ولكنها لم تكن يومًا قائدة متوحشة لجيش من النساء ولم ترم بالقطران أبداً.
كسانتيب كانت أصغر من سقراط ومنزلتها الاجتماعية أعلى منه. ولقد تم تصويرها من قبل تلاميذه بطريقة سلبية، ليبيّنوا كم أن أستاذهم متسامح.
القصص الشنيعة عن كيناو وكسانتيب هي إذن من نسج الخيال. ولكن لماذا نتناقلها فيما بيننا؟ بالنسبة لكسانتيب، يمكننا العثور على مبرر «نفسيّ» لإحياء هذه الأسطورة: تأثير التناقض. عندما يصبح شخص ناضجاً بما فيه الكفاية لدخول البانثيون، تُمسح عيوبه (من منا يعرف أي سخافات قام بها رسامنا الكبير رمبرانت؟) ويتم التركيز على عيوب المحيطين به، وقد تُخلق أحيانًا من لا شيء، كما هو الحال مع كسانتيب. أما بالنسبة لكيناو، فحتى هذا المبرر لا ينسحب عليها. كيناو وكسانتيب قصة أخرى، إذ من خلالهن ينعكس خوف الرجال (كل المؤرخين إلى حدّ الآن رجال). كسانتيب هي الخوف من شكّ النساء بأهمية فكر الرجال وأشغالهم15، وكيناو هي الخوف من أن تصبح النساء كائنات مستقلة يفهمن قضايا الرجال ويستطعن نقدها بشكل مفيد. وهكذا يُحكِم الرجال قبضتهم على النساء تجنباً من هجومهن على أناهم: الزوجة الناقدة تضبط نفسها كي لا يشبهها أحد بكسانتيب، والمرأة المشاركة في المجتمع تتكلم بحذر أو تسدّ فمها كي لا تُقارن بكيناو .
نستغرب كيف يتعامل الإتحاد السوفياتي مع كتب التاريخ والموسوعات: في زمن التحولات السياسية، يُمنع البيع وقد تُمزّق صفحات من الكتاب وتُستبدل بأخرى. التأريخ عندهم له هدف سياسي، ألا وهو التأكيد على أن الحكّام الحاليين على حق. تدوين تاريخ النساء له الهدف ذاته، ولكن نظراً إلى أن الحكام متحكمون منذ زمن سحيق، فهم لا يحتاجون إلى المقصّ والصمغ. حكم الدولة الشمولية طال إلى درجة جعلت قيم النظام وحقائقه بدهيات لا تحتاج إلى تبرير.
ثمة طرق أخرى لتقويض سمعة النساء ووعيهن لذاتهن. وأنجع الطرق هي تنحية النساء الفاعلات جانباً، إما من خلال تقليصهن إلى جسد أو إلى روح من الدرجة الثانية. التقليص إلى جسد يُلمّح إلى المتعة التي يؤديها هذا الجسد للقضيب. يبدو أن باربرا كاستل حصلت على منصبها السياسي بفضل جودة ملابسها الداخلية، ووصلت الروائية كوليت إلى ما وصلت إليه عبر النوم في فراش الجميع. وثمة سبل غير مباشرة لوصم النساء بختم القحبة. فحين يكون جسدهن جميلًا، يصبحن نجمات سينمائيات من دون أن يضطررن للتمثيل. كانت مارلين مونرو تظن بأن نجاحها عائد لها، غير أن هذا النسق يتكرر كثيراً. ريتشار بيرتون ممثل، أما إليزابث تايلور فهي جميلة.
وينسحب على الثنائي بيرتون- تايلور ما ينسحب على سقراط وكسانتيب. كلما تشيّأت تايلور، برزت إمكانيات بيرتون بشكل أفضل. يحصل نفس الشيء عندما يُنظر إلى المرأة كروح من الدرجة الثانية: في هذه الحالة تنتقل إنجازاتها إلى زوجها. هو العقل المفكر وهي المساعدة المخلصة المنتفعة من عظمته.
يبدو أن هذه الظاهرة تطرأ في الكثير من الزيجات التاريخية، بيد أني لم أتمكن من إثباتها سوى عند مدام كوري. ثمة من يدعي أن كل ما فعلته هو المجاهرة بأفكار زوجها فقط. وحتى عندما لا يكون هناك زوج قريب منها، أو كان تخصّصه مختلفًا عنها، فلن نعدم تواجد رجال أو زملاء أعلى وأعرض وأعظم منها. مهما كان مستوى جين أوستن وبرونتي وجورج إليوت جديرًا بالتقدير، لن يصلن إلى وزن تولستوي ودستوفسكي وشكسبير.
وهكذا يحصل التناقض التالي: إنجازات النساء تُستغل لتأكيد عدم اكتمال قيمتهن. يتم تقويض المرأة المبدعة، ومعها جميع النساء. كما أنها تُستخدم ضد البقية: إذا كانت هي قادرة، هذا يعني أنكن كسولات وبائسات. مما يؤدي إلى كرهها (أثناء حياتها فقط) من قبل البقية، وهكذا تنجح سياسة «فرّق تسد».
وستخطئ المرأة مهما حاولت، وسيكون لهذا أثراً على ثقتها بنفسها. لمَ نستغرب إذن أن تحظى مقالة جون ماكي على تقييم أعلى من مقالة جوان ماكي؟
إن أردنا التخلص من شكّنا وشك الرجال بإنجازاتنا، يتعين علينا إعادة كتابة التاريخ والسعي لنشر النسخة المصححة. لن يحصل هذا من تلقاء نفسه، فعلم التاريخ، ككل العلوم الإنسانية، ليس بريئًا من حكم القيمة. إن لم نولِ اهتماماً للموضوع لن يتم تصحيح صور الماضي الخاطئة. لسنا مهمّات، لذا لن يطالب أحد بتحطيم القوالب التي تحصرنا. المعلومات عن كيناو وكسانتيب وجدتها في الطبعة السادسة لموسوعة فينكلر برينس (1951 و1954)، ولكنها حتى الآن لم تجد طريقها إلى عقول الجامعيين الذين أعرفهم، ولا حتى المتخرجين من كلية التاريخ.
تُلقى حالياً محاضرات حول المرأة كمجموعة منفصلة في جميع جامعات الولايات المتحدة. وفي نيويورك صار لديهم معهد لدراسات المرأة يضمّ مائة وخمسة وسبعون باحثًا (كما قرأت في لوموند). علينا أن نؤسس شيئاً مشابهاً، حتى ولو كان هدفنا لا يتعدى تجنيب الأجيال القادمة تبني الصور النمطية دون أدنى تفكير أو عدم استيعاب أنها جزء من تصوّر معين عن العالم.
لا يكفي كنس كتب التاريخ. يتعين علينا أيضًا تعلم التنقيب عن الحقيقة، وهذه تجربة صعبة. كتب ستندال منذ مائة وخمسون عامًا بأن النساء (أو بالأحرى نساء عصره) غير قادرات على كتابة الروايات، لأنهن عاجزات عن الصدق تجاه أنفسهن – وإلا ستظهر حقيقة فظيعة. وفي 1928 تكتب فرجينيا وولف أنها نجحت بطرد الملاك من داخلها، بيد أن الجزء من نفسها، وبالأخص غير المرضي عنه من قبل الثقافة، مازال محبوساً في الأقفال ويرفض أن يُكتب على الورق.
لا أصدق أن ثمة شيء قد تغيّر منذ ذلك الحين، وما زالت إمكانية حدوث المزيد من التمزق قائمة. منذ الأزل ونحن نكشف عن أجسادنا ونتلقى الإهانة لذلك. ولكننا نحتفظ بالأشياء الأخرى لأنفسنا، لأن أي نوع من الصراحة سيُستغل من قبل الرجال لتلطيخنا كأفراد وكنوع جنسي. تحت وطأة نظام الأقليات، يصبح الكلام فاضحاً للنوع الجنسي كله.
ومع ذلك يتعين علينا أن نتعلم من بعضنا ونكتشف كيف تمكنت النساء أن تتحرر في الماضي. نحن بأشد الحاجة إلى أمثولات نتماهى بها. ليس من السهل العثور عليها، لأن المتحررات قلما يكتبن مذكراتهن أو أي شيء آخر. علينا إذن أن نعتمد على أنفسنا قبل كل شيء. فرجينيا وولف تمكنت أخيراً من جعل الكلمات تخترق (أو تقترب من) وعيها. ولكننا غالباً غير قادرات على ذلك، مع أنها الطريقة الوحيدة لفك حصار تكيّفنا مع هذا الواقع. لذلك علينا أن نحكي لبعضنا عن رحلتنا القاسية نحو الحرية ونصِف كل المطبّات وكل الوحوش التي اكتشفنا أنها مجرد فزّاعات. لسنا مسؤولات عما أصابنا في الماضي، ولكننا مسؤولات عمّا يمكن أن يتغير أثناء حياتنا.