يسري الغول: حيوات مشبعة بالتيه

0

عدت إلى الحياة مرة أخرى، صدقوني يا جماعة. اكتشفت ذلك بعد أربع سنوات من ولادتي الجديدة، حين توفيت ابنة عمي بحادث أليم، كأنها بموتها بعثت في روحي شريط ذكريات أحفظه عن ظهر قلب، إنني أعيش في كنف العائلة ذاتها، والأمكنة والمواقف، ولم تتخفف الروح من عبء الجسد وتطير نحو السماء لتحلق بين النجوم مثلما اعتقدت سابقًا، كما لم تنتقل لجسد آخر، أو حيوان، أو حشرة، حسبما قرأت في أدب أميركا اللاتينية قبل دفني في مقبرة المخيم. عدت ـ بشحمي ولحمي ـ إلى الأحجية ذاتها، عدا عن أن عمري البيولوجي يختلف تمامًا عن العمر الزمني الذي أنتمي إليه الآن.
تبدأ قصتي في يوم ميلادي الثالث والستين، إذ لم أستيقظ كعادتي. جاءتني سكرة الموت بالحق فعدت إلى رحاب الله. حاولتْ حفيدتي إيقاظي من دون جدوى. جاء الأحفاد الآخرون للحصول على المصروف، لكن الوفاض خالٍ من حياة.
نعم، كان لدي أحفاد، حيث سيصبح لدي مستقبلًا زوجة مزعجة وأربعة من الأبناء، ثم سبعة أحفاد رائعين… لكنْ، هل سأقبل بالعودة إلى ما كنت عليه سابقًا حين أكبر؟ هل سأقبل بالهزائم التي مُنيت بها في حياتي القديمة؟ أم سأتجنب كل الخطايا التي ارتكبتها لحماقتي وسوء تقديري؟!

***

تجرني أمي إلى غرفة الملابس عنوة، تسب وتلعن الحظ النحس الذي جعلني مختلفًا عن أقراني، تعتقد أنني مصاب بالتوحد؛ فماذا أقول لهذه المرأة عصبية المزاج؟! هل ستفهم كلامي، أم إن حديثي سيزيد من روعها وخوفها عليّ؟ ثم ماذا ستفعل لو أخبرتها بما سيجري مع إخوتي من مصائب، ومع أبي من أمراض؟ ربما ستقول إن مس الشيطان وحسد الأقارب والجيران لجمال سحنتي ضرب عقلي، وبتُ مجنونًا يجب منعه من الخروج إلى المدرسة، أو أي مكان آخر، بل ربما ـ في لحظة غيظ ـ تشي للجارات: إنني طفل مبارك اطلع على الغيب، وعرف من الملائكة خطوب المستقبل؛ فأحسنُ الظن هو أن أتوقف عن ثرثرة ستودي بي إلى الهاوية.
تخبر أمي جارتنا البدينة أنها ستأخذني إلى طبيب نفسي، الجارة التي تلصصتُ عليها عندما كنت مراهقًا؛ فأبصرتني من دون أن تغضب، بل صارت تتعمد إظهار مفاتنها لي وهي تنشر الغسيل، لدرجة أن نسيت القراءة معها، وبت متيمًا بتفاصيلها في الأحلام والكوابيس.
ستذهب أمي وجارتنا إلى العرافة، ثم الشيخ ياسر، والعارف بأمر الله “خالدي”، أعرف ذلك، وأعرف كل ما سيجري، سأبتسم في وجوههم وهم يرشون البخور حولي، والملح فوق رأسي. لن أشعر بالتقزز، أو الخوف، لكنني مضطر لإخافة كل من يحاول إزعاجي، مثل الشيخ نصر الأحمر، فأصرخ في وجهه: “توقف عن ملاحقة جارتك سعدية يا حمري“. يتراجع إلى الوراء ويصاب بالروع، يستعيذ بالله من الشيطان ومني، فأزيد من خوفه وأواصل: “قريبًا سيقتلك أهلها ويلعنك سكان حارتك“؛ تضربني أمي وتصرخ: انخمد يا ولد، احنا في إيش وأنت ف إيش.
يولي الأحمر هاربًا إلى جهة غير معلومة، كما قيل في طفولتي الماضية، من دون ذكر الأسباب، ويظل الناس يحلفون بعمره وكراماته؛ لأنني كنت ـ فيما يبدو ـ رسالة الله التي غفرت ذنب ذلك الأحمق، وسترت عيبه وزلاته وعلاقاته غير المشروعة مع بعض النسوة.
أكبر قليلًا، أجري بين الأزقة، أرتطم بجدران متهالكة حتى أصل السوق، لن أعبث بمياه الصرف الصحي مع ابن عمتي، كما في حياتي السابقة، سنقلع عن تدخين عيدان الملوخية، بل سأحضر سيجارة حقيقية من جيب بنطال أبي، فيفضحني الغبي الذي سيصير شرهًا في شرب الماريجوانا والسفر، يضربني والدي بقسوة، لكنني رغم ذلك أستمتع بمجّ السيجارة بينما أبصر الحياة بشكل مختلف، إنني الستيني ابن العشرة أعوام.
أحمل حقيبتي وأذهب إلى مدرسة (العتيقة). أعبث مع أصدقائي بعيدان صغيرة وأوراق يابسة سقطت بعدما أصابها خريف العمر بالتعب، تمامًا كما سقط جارنا مازن برصاصة قناص عند دخولنا المرحلة الإعدادية؛ ففي إحدى المظاهرات، أطلق جندي النار متلذذًا باصطياد الأطفال، ممارسًا ساديته بحق الجوعى ممن يبحثون عن بقايا طعام في السوق، دون أن يعرف ذلك الوغد كيف سينقلب الحال بعد عدة سنوات ليصير الأطفال عمالقة، يقتلونه وزوجته في مستوطنة غوش قطيف انتقامًا لطفل آخر.
أكبر من دون خوف من البرق والرعد، أو النوّة التي ستأتي على المخيم، سأمشي برفقة أمي إلى البقالة منتشيًا، وهي تغني:
ــ أنت البطل يا ابن بطني.
أعرف أن العاصفة ستدمر بعض البيوت الصغيرة الواطئة، وستلقي بحاوية القمامة في حوش حارس المدرسة، كما ستخلع جذور الزيتون، لكنها لن تتعرض لأصحاب الوجوه النضرة بالسوء. لن أخاف السحب وهي تنتفخ كامرأة تحمل في بطنها جنينًا مشوهًا يشبه الذين تفجروا في أثناء إلقاء الصواريخ فوق بيوتنا قبل أن أموت وأبعث مرة أخرى.
الزمن يجري، يهرول، يسابق ظلي المتكسر وينحني للريح، بينما تتغير الأحجية. يذهب بي أبي إلى الشيوخ، وأمي إلى العرافات، في محاولة لفك طلاسم صمتي وعجزي عن التواصل مع أقراني في المدرسة الإعدادية. أذكر أنني سئمت الذهاب إلى الأطباء في حياتي السابقة لأجل كيّ وحمة في الرأس تشبه الأرنب، واليوم يجري ذلك الحيوان اللعين في بساتيني ليأكل الجزر الموغل في قلب سيصيبه العطب.
ــ هذه ليست وحمة، أنت في حاجة لعملية جراحية صغيرة، وسيختفي الأرنب.
جسدي ينمنمني، عقلي ساحة حرب، قلبي يدفعني إلى البوح والحديث مع الناس عن موت يمحق المزارع بعد سنين من هذا التاريخ: هل يجب ألا ينتخبوا الحمقى من أجل الفاسدين؟! أم أن الأحداث كتبت في الناموس، ولا يمكن تغيير الواقع؟! هل سيصدقون إن أخبرتهم بما سيحدث من تطور في العالم، مما سيسهل التواصل بين الأهل في كل مكان؟ هل سيتجهزون للطائرات والقنابل المتفجرة والشهداء والفقراء، أم سيلقون بي في مصحة نفسية؟!
أتهيأ للسفر، وأقرر الخلاص الفردي. أحمل حقيبتي وأطير إلى جمهورية مصر التي زرتها وحفظتها قبل أن أمشي في شوارعها. المعضلة أنها باتت تختلف عن آخر مرة زرتها في جحيمي/ حلمي السابق، فعلى بساطتها تبدو ألطف بكثير، بلا تكلف، أو تطرف. هناك ألتقي عمتي التي توفيت بعد عشرين سنة في غزة، حين تم تهريبها من خلال الأنفاق الفاصلة بين غزة ورفح المصرية، لأنها لم تكن تحمل هوية فلسطينية تسمح لها بزيارة وطنها الذي نشأت وترعرعت فيه.
تحضنني عمتي كثيرًا، فأنا من ريحة البلاد، البلاد التي تبدو جميلة، لكن مستقبلها موغل بالدم. تصنع من أجلي وليمة غداء فاخرة بنكهة النيل. أطير لاحقًا إلى ألمانيا، دوسلدورف، ما زالت بعض اليوروهات في جيبي، لكن تلك الجمهورية تتعامل بالمارك، هل ألقي بتلك النقود في الراين، أم أبيعها لمجانين أمثالي؟!
أتحدث مع أمي عبر هاتف عمومي، برقم حصلت عليه من صديق يعيش في برلين. تقول إن أختي مريضة جدًا، وأخي الكبير في قبضة الاحتلال، وأبي نائم. أضحك، أبكي، وأنتظر الصباح، ثم أسألني: ما الذي يجري؟! هل أنا ميت حقًا، أم أن ما يجري مجرد أوهام وهلاوس نتيجة عملية إزالة الزائدة الدودية؟! أتفقد الغرفة، كأنها تغيرت، وكذلك الضيوف.
ــ الحمد لله على السلامة يا رجل، كدت تموت لولا رعاية الله، لقد نجوت بأعجوبة من الشاحنة.
دهشة تتملكني: أين أنا؟ ومن هؤلاء الغرباء الذين يتحلقون حولي؟ وما قصة الشاحنة؟
ــ هيا يا عزيزي، نريد السفر إلى بروكسل برفقة زوجتك وابنتك.
زوجتي/ ابنتي/ أنا لم أعد إلى غزة بعد كي أتزوج من مراهقة تحب الأكشن، ما زال هناك خمس سنوات كي أقرر الزواج.
من زاوية الغرفة يهتف أحدهم بنزق:
ــ انظروا! لقد تم تصوير الحادثة بكاميرا ذات تقنية عالية.
يمنحني أحدهم الكاميرا، يستفزني الفضول لشيء لم أسمع به في حياتي السابقة.
ــ من هذا؟
صمت عميق كأن الدنيا توقفت.
ــ إنه أنت.
ــ أناااا.
ــ هل تمزح؟!
ــ أرجوكم أحضروا لي المرآة.
 المرآة تكذب، أنا لست أنا، هذا الشخص لا ينتمي لي.
ــ أرجوكم! من أنتم، وكيف جئت إلى هنا، أنا يسري الغول من مخيم الشاطئ.
تتعالى الأصوات، تتقلب الوجوه على جمر اللحظة.
ــ اتصلوا بالطبيب فورًا، يبدو أن فادي فقد الذاكرة.
اللغط والدموع والبكاء يحاصر الأصوات والهمسات.
ــ أين أبي؟ أريد أبي عبد الرؤوف. أرجوكم!
ــ أنا هنا يا حبيبي.
ــ من أنت؟!
ــ أنا أبوك يا ولدي.
مارة كثر يلبسون الأبيض، يحملون أجهزة طبية مختلفة، يتحدثون بلغة لا أعرفها:
ــ يبدو أن تعلقه بالأدب وقراءة أعمال الروائيين الفلسطينيين المحاصرين في غزة أصابه بالخبل.
ــ لا، لا، ربما وفاة والدته كانت السبب.
ــ لا يمكن أن يكون فادي بهذا الشكل لولا هجران حبيبته الأولى له.
ــ صدقوني إنه تحت تأثير المخدر فقط، وسيعود لرشده عما قريب.
ــ يجب على زوجته حمايته من الروايات والدراما الزائدة.
يخرجون ويبقى ذلك الرجل الغريب، برفقته عدد من الممرضات ذوات البشرة البيضاء الصافية. يحقنونني بمادة غريبة تسرقني من محيطي لأعود مرة أخرى إلى أبي في المخيم.
ــ كيفك يا حبيبي؟ أين اختفيت؟
أبو اليسر وينك يابا؟
رد يا حبيبي، اشتقت لضحكتك.
ساعات، أو أيام، لا أعرف بالضبط، أغيب عن الوعي مجددًا، زوجتي المتشنجة تصرخ في وجهي أن أترك الهاتف المحمول، وأقوم بنشر الغسيل في حديقة البيت المتواضعة.
أستيقظ، لا أقوى على الحراك، حولي أحفادي، ينتظرون مني مصروفًا، أمامي صورة أبي ذات اللونين الأبيض والأسود، أقوم نحوها متكئًا على عكازي، أقبلها وأبكي، ثم أغيب عن الوعي.

***

فادي، يسري، أبو اليسر، الشيخ الأحمر، الشيخ ياسر، أبي، أمي، المخيم، بروكسل، دوسلدورف.
كل ما في الأمر أنني عدت إلى الحياة مرة أخرى، من دون أن أعرف من أكون، أو أين أنا؟

*ضفة ثالثة