عبد الله الحريري
عبد الله الحريري: سورية – درعا – 1983 – طبيب – ديوانا شعر: الشهيق إلى الرئة الحرام /سورية 2015 – لا تنس قلبك حافياً /2019 – العديد من المقالات والنصوص الأدبية في عدد من المواقع الإلكترونية
أوراق- العدد10
ملف أدب الشباب
إذا كان لا بد من تسميتهم (الشباب) فلا بد من تسمية مقابلة لهم (العُجُز) بدلاً من المرسخين؛ الكلمة المقابلة دلالياً لكلمة الشباب في معرض الكلام عن الكتابة والكتّاب، ولن أكتب (عنهم) وكأنهم بعيدون، أو كأنهم على منصة التشريح وتحت عدسات مكبرة تبحث عن خفايا لدى فئة طارئة على وسط منسجم، بل سأكتب عنا جميعاً؛ المعروفين منذ أزقة دمشق وحلب وحمص… ومقاهي الجامعة والمركز الثقافي الفرنسي.. والروسي كذلك، منذ ذاكرة البارات التي أصبحت أمكنة لتقشير البطاطا، والبارات التي دافعت عن نفسها من أجلنا، المنغمسين في نمطية الأدباء والمثقفين: مرتدي القبعات، مرخي الشعور مكرمي الشوارب واللحى، القابضين على سجائرهم في كل صورهم الفوتوغرافية، رافعي كؤوسهم للعابرين وللكلام العابر، المحتدمين في جدال السكارى اليومي، نحن الذين التقينا في غاليري مصطفى علي وبرج الفردوس وتناوبنا على نادي الصحفيين ونينار وشينو والعلية وأكسجين وألف ليلة وليلة وموفق ومرايا وملحمة إسكندرون ونادي الضباط وصف الضباط (أسماء أماكن) مستنزفين جيوبنا وجاثمين على أحلام ما كان لها أن تتحقق إلا في غمرة هذا السُّكْر العظيم.
أذكر حين اجتمعت على طاولة واحدة في مقهى اللغات (جامعة دمشق – كلية الآداب) مع تمام هنيدي وأحمد عزام، يوم 13 شباط 2011 حين أعادت الشاشة المعلقة على الحائط قبالتنا إعلان استقالة حسني مبارك على لسان عمر سليمان.. استدرنا ونظرنا في العمق السحيق الذي يخبئه بؤبؤ العين كأن كل واحد منا ينظر في قعره، ليكسر صمتناتمام قائلاً: “معقول يصير عنا هيك؟” لم نقل شيئاً حينها، إلا أننا خرجنا من مقهى اللغات ورأينا كلية الآداب كما لم نرها من قبل، في بداية آذار 2011 بدأ تواصلنا (وائل سعد الدين وعدنان حمدان وأنا) مع مجموعة 17 نيسان للتغيير، حلمت، وأظن أن وائل حلم كذلك، بكتابة شعارات وكلمات أغاني المظاهرات المتخيلة التي سنجوب بها شوارع دمشق، هل كانت لنا أحلام حقيقة في ذلك الوقت؟ وهل كانت رغبتنا جدية في تحقيقها أو تحققها؟ كم كان صادماً أن تنقلنا أيام قليلة سريعة وأدرينالين يرتطم بسقف الدماغ والقلب فيكاد يحطمه من واقع رتيب مكرر حد الانسجام والإتقان إلى لحظة الكشف عن مدى الافتراق بين خيالنا ورغباتنا، بين رغباتنا وإمكاناتنا؛ كان ذلك أشبه بالتعري وسط ساحة الأمويين، وأكاد أجزم أننا جميعاً أردنا ذلك أو تجريبه على الأقل.
في ذلك الوقت من دمشق كان الاغتراب/الضياع أقرب ما يكون إلى هوية؛ شيء ما يفصلنا عن الجذور، وأين الجذور؟ هل يمكننا أن نعتبر زيارة إلى منزل مظفر النواب وهو متعب وفي حالة صحية سيئة أو مرور أحمد فؤاد نجم على بيت القصيد لقاءً مع الجذور؟! كانت هناك حاجة لما يشبه المجموع الجذري من مدارس وأجناس أدبية وفكرية ونقاد وجمهور لتتم عملية التمثيل الضوئي -إن صح التشبيه- على وجهها المجدي، ولعل تماهي المؤسسة الأدبية والثقافية والفنية مع أداء دور الفرقة الحزبية -كما فعل اتحاد الكتاب في مرحلتنا، وربما قبلها، والدور الإشكالي لوزارة الثقافة- عزز حالة الشتات بما يعنيه فصل الجيلين الأدبيين المتتاليين، بالإضافة لما وصفه حازم صاغية بـ (تطويع المخيلة الجمعية للسوريين) يوضحه ما أورده باسل العودات في مقال بعنوان (سعد الله ونوس مسرحي يعترف بهزيمة جيله) على أنه من رسالة شخصية لسعد الله ونوس: “نحن المثقفين، سُلطة ظل شاغلها الأساسي أن تصبح سلطة فعلية، أو أن تنال فتاتاً في السلطة الفعلية، إننا قَفا النظام، ولسنا نقيضه أو بديله، ولهذا ليست لدينا طروحات جذرية، ولا آفاق مختلفة، والمراوغة تطبع عملنا وتشكل جوهر سلوكنا، يا للخيبة! ويا للحزن”.
ربما كانت تلك خطة نظام الحكم في طمس المرحلة السابقة بكل توجهاتها غير البعثية وترك الجيل الجديد ينمو كأعشاب منفردة: ما انسجم منها مع المألوف سمح له بالنمو، وما لم ينسجم قُلع من جذره الهش على أنه عشب ضار متطفل غير منسجم، ففي المراكز الثقافية العربية المنتشرة في أحياء دمشق لم أرَ إلا عمر الفرا، أما في بيت القصيد فقد التقيت بالأدب والفن الذي يعرض في الأقبية المكتظة بالناس ودخان السجائر والكحول/ كمخدر عام، ربما كان بيت القصيد آخر رسائل دمشق عن التاريخ والشعر والأدب والفن والحرية التي تتيح لك ثلاث دقائق مساء كل إثنين لتقول شيئاً دون رقابة، ليس كل إثنين يمكنك ذلك؛ إلا أن الجلوس هناك والاستماع، حتى لسقط الكلام والغناء، كان أفضل من الاستماع لخطاب أمين فرع الحزب، كما قال لقمان ديركي يوماً أو أحب أن يقول. ما أقصده أن غياب دور المؤسسة الثقافية وانقطاع الصلة مع الجيل السابق جعل من اللايقين سمة جيل الكتّاب ما بعد عام 2000، بينما كان الانعزال -إن صح التعبير- سمة الجيل السابق الذي عايش مرحلة القسوة المفرطة التي مارسها النظام ولم تقتصر على فئة دون سواها حيث كان المستهدف هو الغير.. أي غير كان؛ هذا اللايقين هو الذي أوجد حالة رجراجة ظهرت في تباين سلوك الكتّاب مع انطلاقة الثورة، وأحياناً أدت إلى تناقض تام في سلوك الواحد منهم، ويمكن أن نذكر عن أحد وقف إلى جانب الثورة ودعمها وكتب لها وعنها، إلا أنه أيضاً قدم مشروعاً لتحسين عمل شركة سيرياتيل لصاحبها رامي مخلوف نهاية عام 2011 ولو حصل أن قُبل مشروعه لكان موظفاً في تلك الشركة منذ ذلك الوقت، كما يمكننا أن نقارن بين الصفحتين: التاسعة والعاشرة، من ديوان (عشاء متأخر تحت جلدي) لعُلا حسامو؛ ففي التاسعة المذيلة بـ (دمشق. ظهر 3/4/2011) تقول:
هو لم يقل شيئاً ولكن..
زلزل الطرقاتْ
واغتصب السكون المستطيل
بل
أنجب المعنى..
الحقيقة
ثم ماتْ
وفي الصفحة العاشرة المذيلة بـ (دمشق 23/2/2017) تقول:
“خلايا الذاكرة كثيرة جداً، أكثر من الشعر الأشيب الذي يغطي رأس هذا الكون، وفي كل خلية ثَمّ شيءٌ ما يسأل آخر، آخر لا يجيب، بل يدور حول نفسه ببله، ببله شديد”
فهل كانت الحقيقةُ الصارمة التي أعلنت عُلا ميلادها في المقطع الأول حقيقةً بالفعل؟ وهل ست سنوات تكفي لقلب الحقيقة أو تغييبها؟ أم أننا كنا نقف هناك بين مرآتين مغمورتين بالماء، نرى أخيلة لا نتيقن منها فنتبع إشارات واهمة.. نشك فيها لكننا بحاجة إلى تصديقها؟
نحن الذين فُرّقنا وافترقنا، منا من بقي في مناطق سيطرة النظام، ومنا من اتخذ النجاة هدفاً والهرب وسيلة، ومنا من اتخذ موقفاً أخلاقياً على الأقل باعتبار الثورة فعل خير في مواجهة الشر الكائن في نظام مستبد، وكذلك منا من انخرط في الثورة حتى في عملها المسلح، ومنا الذي ما زال في مناطق شمالي وغربي وشرقي سورية حتى الآن، تبقى الكتابة حلنا الوحيد ومرآتنا الصادقة في الظرف الذي ما تزال فيه المؤسسة الثقافية غائبة ومنتهكة في صور شللية ومحتكرة في هذه المدينة أو تلك حول العالم، لكن أبواب الصلة مع الجيل السابق أصبحت مواربة تحتاج الخطو من خلالها ليس إلا، وساعدت وسائل التواصل الاجتماعي في ذلك، وأصبحنا أكثر تمرساً في سبر العمق إلى ذواتنا الحقيقية التي حاول النظام طمسها وتطويعها، لكننا نقف بعد ذلك أمام الأسئلة الأصعب عن دورنا وتقييم أدوار غيرنا؛ العلاقة بين الإبداع والأخلاق من جهة وبين الإبداع والموقف النقدي من جهة ثانية، ولعلني في ذلك أتفق مع ما ورد في دراسة (عن المثقف والثورة) الصادرة عن المركز العربي للأبحاث والدراسات 2013، فهي لا ترتضي المبدأ النيتشوي القاضي بالفصل بين الأخلاقي/القيمي الناتج عن علاقة القوى وبين الجمالي/الطبيعي الذي يشكل وحده نقداً للواقع، بل ترى في ضرورة الموقف الأخلاقي/الضميري لدى المبدع فينحاز لقيم الخير والجمال والعدل والمساواة لأن التخلي عنه يعني العدمية وربما تكريس الجماليات لاحقاً لترسيخ أنظمة شمولية وتقديس زعمائها والتسليم بالحال القائمة لأن البدائل ستكون أسوأ، وتعفي الدراسة المبدع من إلزامية الموقف النقدي على أن مهمته في ابتكار الجماليات بينما النقد مهمة المثقف العمومي، لكني ألمس لبساً أو ارتباكاً في المعنى عند الكلام عن الفصل التام بين التقييم المهني والتقييم الأخلاقي للمبدع نفسه (نحن نتوقع غالباً موقفاً “ضميرياً” و”إنسانياً” من الناس العاملين في مجال الأدب والفن، أو في مجالات العلوم الإنسانية، وهو توقع في غير مكانه، لكنه يقول شيئاً “عنا”، وليس بالضرورة “عنهم”).
أعتقد أن المنتج الأدبي منذ انطلاقة الثورة السورية لم يقع تحت أعين بصيرة لأن النقاد يغيبون عن الساحة الأدبية تماماً، لذلك قال أحدهم: “الثورة السورية بلا شاعر”، وفي الحقيقة أن هناك الكثير قيل ونشر خلال سني الثورة يمكن الوقوف عنده وعليه طويلاً، بما يحمله من إبداع وموقف، وتمكن المقارنة فيما بينها كمرآة باحثة تعبر عن مجتمع بأكمله، ليس فقط خلال عشر أو عشرين سنة بل على امتداد عقود وقرون، يجذبني أن أذكر ما ورد في ديوان (كما لو أني نجوت) لتمام هنيدي:
الفرق بيننا كبير جداً
ليس في بيتنا ثريات كريستال نخشى أن تنكسر فيعتم المكان
المكان الذي تدمر كان معتماً أصلاً
لولا ضوء القذائف لما رأينا الطريق..
وأضع في مقابله ما ورد في ديوان عبد الكريم بدرخان (لون الماء):
بينما كنت أسكب الماء فوق العرق،
وأنسج من الكلمات حمالة لنهود النساء،
كنتم..
تدمرون البلاد.
لا أستطيع إلا أن أرى هذين الشاعرين على شرفتين متقابلتين ينظران إلى ساحة الحرب/سورية من بعيدَيهما، أحدهما يرى من كريستال الدمع والآخر من كريستال العرق.. من تقرح الأقدام ومن فجوات القلب، أحدهما يحاكم الماضي القريب بالماضي البعيد والآخر يحاكمه بالمستقبل، أحدهما يتكلم بالـ (نحن) والآخر بالـ (أنا)، كل على طريقته فيبدوان قريبين/غريبين. ألا يمكن أن يكثر الناقد كلامه هنا؟ لماذا لا يصفق الجمهور إذاً ويطلب الإعادة؟ ربما يقول قائل: “لأن الجمهور مستهلك التفكير باليومي السريع الذي أتاحته الحرية السريعة، فهو منشغل عن هويته بالبحث عن هويته وعن قضاياه بالمطالبة بقضاياه” مستشهداً بتشبيه سلافومير مروتسك للعالم: “دكان صغير يزخر بأثواب تنكرية تحيط به حشود تبحث عن ذواتها.. وبوسع المرء أن يغير الثياب بلا نهاية، فما أروع الحرية التي ينعم بها الباحثون عن ذواتهم.. فلنستمر في البحث عن ذواتنا الحقيقية، بشرط ألا نعثر على الذات الحقيقية أبداً، فلو بلغناها لانتهت المتعة” وربما يدلل على ذلك بمطلع ديوان (كبرت حين ضاق القميص) لحيدر هوري:
أهجئ عمري
قميصاً.. قميصاً..
وأفتح أبواب سري لغيري،
فتنمو السماء بقلبي.
أشيل الذين سبقت خطاهم،
إذا انتبهوا للحياة وماتوا،
فتذبل أغصانهم قرب غصني،
لتمضي الوجوه إلى غربة زينتها الجهات.
ويصح هنا بجدارة ما قاله حسن الراعي المرتبك بين هواه وهويته المفروضة وهويته الضائعة:
أريدني.. أين أنا يا أنا؟! ما زلتُ ألقيكَ في العزلةِ
متى سأنجو من غدٍ عابثٍ فيما يثور العطر في الوردةِ؟
فشلتُ في كل أناً كنته.. سر فالمسير غاية القِبلةِ
حتى إذا لم ألقني سوف يلقاك الخلود منتهى اللذةِ
ولربما لو كان البيت الأخير على هذا الشكل (حتى إذا لم ألقني سوف يلهيك المسير سيد اللذةِ) لكان أكثر واقعية من تفاؤل حسن.
أما أنا فأتذكر التواريخ 1920 – 1948 – 1952– 1964 – 1967 ……، وأتذكر شعراء المجموعتين الفلسطينيتين: (محمود درويش – توفيق زياد – سميح القاسم) و(عزالدين المناصرة – مريد البرغوثي – أحمد دحبور)، وأتذكر ما قاله محمود درويش عن قصيدة (سجّل أنا عربي): “وحدث ما لم أكن أتوقعه؛ شيء يشبه الكهرباء شاع في الجو، حد أن الجمهور طلب مني إعادة القصيدة ثلاث مرات.. أقول لك بصراحة: من قرر أن هذه قصيدة هم الناس وليس أنا، هم الذين قالوا لي: هذا شعر”؛ فأنتبه أولاً إلى الفترة الزمنية بين عام 1948 والفترة التي تشكلت فيها مدرستا الشعر الفلسطيني (المقاومة – الثورة)، وثانياً إلى ما أشار إليه محمود درويش عن قرار الجمهور بأن هذا شعر، لعل ذلك يبدو أوضح إذا تمعنا بالتفريق بين الزمن الصلب والزمن السائل عند زيغمونت باومان، كأني به يقول: ما الذي يمكن أن يفجره/يشيعه الشاعر عند الجمهور إذا كان الجمهور نفسه قد تحلل من قضاياه (كهربائه) الصلبة؟ فالقومية العربية مثلاً قضية أوهن من أن يغامر بطرحها شاعر في هذا الوقت (تخيّل شاعراً يصيح الآن بالجمهور: “سجل أنا عربي”)، ومن المهم الانتباه إلى أنها لم تصبح كذلك بعد ثورات الربيع العربي لكن الثورات كشفت هذه الحقيقة ليس إلا، ربما كان علينا أن نعي هذه الحقيقة منذ أذيعت أغنية (عربي أنا إخشيني….) ما الذي كان يضحكنا في هذه الأغنية يا ترى؟!
“لا يكفي أن نصف زنزانة السجين، بل لا بد من أن نقدّم عن كثب مشهد انكسار الروح” هكذا قال ممدوح عدوان، إذاً لعل الشعر لم ينتبه لا للقضايا التالفة ولا للمستجدة الملحّة، أو لعله موجود ولكنه بلا جمهور، وهذا يفسر التفاعل الكبير مع عنوان المجموعة القصصية (ساعدونا على التخلص من الشعراء) للقاص المتميز مصطفى تاج الدين موسى، ألا توازي عبارة (ساعدونا على التخلص من الشعراء) عبارة (ساعدونا على التخلص من عديمي الجدوى/مفجري القنابل ومثيري الجماهير) بهذا المعنى؟ إذا صح ذلك فإن مصطفى قد فجر أحد قنابل ما بعد الحداثة بين الجمهور وعلى الشعراء أن يندثروا أو يتحولوا للشكل الملائم لهذه المرحلة السائلة كما يقول ديوان (يجدر بك أن تتبخر) لتمام هنيدي.
هناك زمن لازم لاكتمال رؤية الشاعر، لأنه مختلف في بنيته وغايته عن غيره من الكتّاب، يصدق ذلك قول محمود درويش: “الطريق هو الطريقة”، لعل ذلك يوافق قول إدوارد برنشتاين: “الهدف لا شيء، والحركة كل شيء”، والحركة تعني زمناً ولكن هل تشترط المسار؟ بالنسبة لي لا أعرف كيف يمكن لما بعد الحداثة أن تعرّف حركة بلا مسار، لكني أؤمن أن الشعر ابن القضايا الصلبة لأنه حركة ذات مسار، لذلك يتراجع، في الزمن الأقل صلابة، دوره وسوقه وجمهوره حتى في باريس نفسها كما أخبرني يوماً صديق فرنسي. وحدثٌ مثل الثورة السورية وما أعقبها من جريمة مزمنة ممارسة على الشعب السوري لا يمكنه انتظار اكتمال الرؤية الشعرية، إنه بحاجة إلى كتّاب أكثر قرباً وإخلاصاً كالقصاصين والروائيين ومن الطبيعي أن يكثر ويغزر نتاجهم الأدبي لأن كثيراً منهم عاشوا تجارب وصدمات غير عادية وكما خلصت دراسة روبرت ميلر عن ذاكرة الصدمة في أنها تؤثر بشكل إيجابي على الإبداع اللفظي، وبالتالي فإن السيرة الذاتية لهؤلاء تكفي لأن تتحول إلى أعمال قصصية وروائية تستحق القراءة، وحتى الذين لم يعيشوا تجارب مشابهة، فإن ما يُسمع ويروى ويُرى عن هول الحرب السورية ومدى فداحة الجريمة الممارسة على الشعب يكفي لتشكيل تصور يقارب الذاكرة الذاتية من حيث حقيقيته.
تبقى فكرة من الضروري التنويه لها: لا تتشابه ثورات الربيع العربي من حيث دور وتأثير المثقفين فيها، لكني سأتحدث عن الثورة السورية التي كانت حالة رفض سريعة (بعد حوالي أربعين عاماً من تشكل النظام الديكتاتوري فيها) لواقعها، فقد كان رفضاً شعبياً بامتياز غابت عنه حركة المثقفين والمفكرين إلا ما ندر، وربما كان ذلك سبباً في رفض بعضهم لهذه الثورة لأنها لم تكن من بين توقعاتهم أو لم تأت على مقاسات تطلعاتهم، وفي سورية لم تكن مظاهرة المثقفين في دمشق تموز 2011 كافية لإثبات حضورهم الريادي كما هو حري بهم، وأنا لا أقول إنهم لم يشاركوا بالمطلق، أبداً، أمثلة كثيرة يمكن إدراجها في المشاركة ابتداء من د. الطيب تيزيني رحمه الله إلى أصغر خريج جامعي، بل أقصد دورهم كفئة ومهمتهم كموجهين إن لم يكونوا قادة؛ هذا الغياب يدفع بعض الكتّاب (الشباب) من شعراء وروائيين وقصاصين إلى الخوض في المجال الفكري محاولين إثارة الأسئلة الكبيرة وقلقلة طمأنينة الجمهور وتغريب حالات الائتلاف الوهمية مع ولاءات قديمة ويقينيات راسخة، ولعل الرواية هي الجنس المناسب لذلك بما تتيحه من فسحة للسرد ومجال للطرح على ألسنة شخصيات غير غريبة منها الواقعي ومنها المجلوب من التاريخ ومنها المسحوب من الآتي.. الآتي المليء بالتكهنات، وهنا نشهد حركة انزياح للتجربة الروائية حتى عند الشعراء أنفسهم، والأمثلة كثيرة مثل رواية (حربلك) للشاعر محمد طه العثمان ورواية (عام الجليد) للشاعر رائد وحش، وربما سنرى الكثير من هذه الأمثلة في المستقبل.
الشباب (وهنا تليق بهم التسمية) يواجهون مشاكلهم بأنفسهم، يحملني ذلك على التفاؤل الحذر، الحذر لأن كثيراً من هذه المحاولات لا يشي بتوجه ودراية وكفاءة، إلا أن عدداً من النشاطات والمشاريع تنبئ بالقليل المبشر، فإضافة إلى المواقع الإلكترونية العديدة والأنشطة الأدبية الكثيرة الفيزيائية منها والافتراضية تبقى دور النشر علامة الجودة والقياس لكل مرحلة، فمن جهة استطاعت بعض الدور المكابرة والاستمرار خلال عشر سنوات قاسية، منها دار ممدوح عدوان ودار كنعان، ونجحت دار نون4 بمتابعة عملها من خارج سورية، وتبقى العلامة الأكثر دلالة نشوء دور نشر جديدة مثل المتوسط وموزاييك على سبيل المثال لا الحصر، وكان مؤسسو هاتين الداريين من الشعراء وأصدقائهم الشعراء.
كثيرة هي الأعمال الأدبية المنشورة في السنوات الأخيرة، وليس من باب الحكم عليها أو على أجناسها، لكن من باب طرحها كنصوص احتاج أصحابها أن يفرغوا سردية كبيرة من الثورة/الحلم والحرب والفقد والاعتقال والتهجير والغرق …. إلخ، ربما ستكون أساساً لجزيرة صلبة تنبئ عن واقع أدبي مزدهر في قادم الأيام، أذكر منها، وهي كثيرة:
مجموعات قصصية عديدة لمصطفى تاج الدين الموسى كان آخرها (ساعدونا على التخلص من الشعراء)
مجموعة قصصية لرشا عباس (ملخص ما جرى)
مجموعات قصصية للدكتور إياس الرشيد (هل ظهر جعموم) و(عضة خطروش) و(دبكة نيوتن)
مجموعة قصصية (ميغ 21) لفاطمة ياسين
مجموعة قصصية (وجهة غير واضحة) لمنذر سليمان
رواية (عام الجليد) رائد وحش
رواية (دورة أغرار) نبيل محمد
رواية (حربلك) محمد طه العثمان
رواية (باب الفراديس.. الرسائل المفقودة لغيلان الدمشقي) جابر بكر
رواية (أبناء الوحشة) فوز الفارس
رواية (الفرقة 17) زارا صالح
رواية (السماء تمطر بشراً) محمد خليل
شعر (يجدر بك أن تتبخر – كما لو أني نجوت) تمام هنيدي
شعر (النجم أوضح في القرى) مصعب النميري
شعر (مياه صالحة للقتل) حسين الضاهر
شعر (كبرت حين ضاق القميص) حيدر هوري
شعر (عشاء متأخر تحت جلدي) علا حسامو
شعر (الموتى يتكلمون هباء – كتاب الأشياء) جوان تتر
شعر (لون الماء) عبد الكريم بدرخان
شعر (5 ميغا بيكسل) فايز العباس
شعر (سماء واسعة لفرح مر – جاءت تربي الضوء) محمد طه عثمان
شعر (ماذا يقول دوار الشمس لهذا الحقل ليلاً) ريبر يوسف
أعتذر من جميع الذين لم أذكر أعمالهم، فهذا ما أسعفتني به الذاكرة، والأعمال أكثر من أن تجمل في مقال صغير.