سعاد قطناني
إعلامية عملت في إعداد وتقديم العديد من البرامج السياسية والاقتصاديــة والثقافيــة صدر لها كتاب (BBC انكسار الصورة)
أوراق 11
ملف أدب السجون
للرواية كجنس أدبي الكثير من التعريفات وربما يكون أحد تعريفات الرواية هو الاستغراق بالواقع إلى درجة الخيال، أو هو الخيال عندما يلامس الواقع، أو عندما يتجاوز سحر الكتابة عالم الخفة وكسر قواعد المألوف إلى كسر قواعد الكلمات وأشد تعبيراتها عادية لتصبح كلما غاصت بالواقع أشد تعبيراً عن الخيال، عن السحر، عن اللا مألوف، ويكون القول ببساطته وسيل حروفه الذي لا ينشد القص بقدر ما ينشد استعادة الثواني اللزجة هو الأكثر تعبيراً عن الخيال الذي يصيغ مكوناته من أشد عناصر الواقع عادية.
فكيف نحكي حكايات المعتقلين والمغيبين، نصف عبراتهم، نفهم نبراتهم، ونحترم سكناتهم لنطلق الذاكرة والخيال معاً؟؟
قد يستطيع المحكي اليومي عن السجن واستعادة المعتقل أو المعتقلة اللحظات المعاشة بكل تفاصيلها البسيطة أن يخترق أكثر جدران الواقع صلابة ويجعلك تغوص في الخيال إلى درجة اللا معقول فأنت هنا تكتب الرواية وتقص الحكاية دون أن تجهد نفسك في كيفية صياغة الكلمات أو قولبة العبارات لتشكل المعنى والحدث.
وإذا كانت الشعرية والغرائبية من أبرز مكونات اللغة الروائية الحديثة فإن المفارقة بين الحياة والموت، بين السجن والحرية والتعبير عنهما بكلمات تصف اللحظة وتقف عند حدود الآه المعبرة عن قساوة البعد وخرمشة الحرمان والتوق إلى الحرية تنقلك إلى ما يفوق المعنى الرمزي لتلك الشعرية وأكثر ايغالاً في الغرائبية، حيث يسيل الكلام من شقوق الضوء المتخيلة، ومن أحلام حبستها سماكة الجدران لتتخطى قواعد المنشور العادي، ومن حروف تنتشل الضوء من سواد اللحظة في محاولة لتفكيك عجينة مشاعر الفقد والألم والحنين؛ وتلك الطاقة التي يبثها المعتقل وهو يسترجع ما يدمي القلب ويستل الروح من بين الكلمات يتشكل فضاء يحاكي شعرية القول والمعنى، ومن تلك الخلطة السحرية بين واقع غرائبي إلى درجة الخيال وخيال تكوَّن من أكثر لحظات الواقع حقيقية تُصاغ الكلمات ويُصاغ أدب السجون أو المعتقلات وتولد الحكاية.
عندما يسكن الليل وتهيج الذكريات تعلو همساتهم لتصبح بكاءاً وصراخاً ونواحاً وعويلاً ينادي أسماءهم في ليالي الوحدة والخوف والنسيان، حتى الأغنيات “أغنياتهم” صارت تعلو لتنادي الذاكرة “ذاكرتهم”، والذاكرة تستدعي الذاكرة في الليالي الطويلة…
أكثر من أربعين حكاية صاغت أبجدياتها عتمة السجن حين حككت الجرح… وبكينا…
في كل حكاية كنت أرقب السجان وهو يسعى أن يكسر الروح فصار الوجع قنديلاً يتوهج في ثنايا تلك الأرواح التي لم تنطفئ…
على كرسي الذاكرة جلسوا معتقلين ومعتقلات وبدأنا بسرد الحكايات…نغوص في الليل حتى القاع، وننبش ما التصق بالروح من وجع وألم وكبرياء، ونحك صدأ القضبان بحثاً عما التصق بها من آهات وأمنيات.
السجون في سوريا أفواه جائعة لا تشبع، تبتلع أحلام السوريين ومن في حكمهم منذ خمسة عقود وأكثر، وحتى اليوم لم ينته الهول.
من باب أسود إلى هوةٍ أكثر سواداً يمتد حبل الألم السوري؛ من ذاكرة خالد العقلة وتفاصيل مجزرة سجن تدمر، حين سال الموت كثيفاً وانطفأت القلوب على وقع أقدام القتَلة وهم يطلقون الرصاص عليهم وكأنهم أشباح، وتجمدِ الخوف على وقع الصراخ ونطق الشهادتين، من تلك الذاكرة استطاع خالد العقلة أن يعرف المفقودين بعرف الغياب الذي لا ينتهي حين استعاد ملامح الوجوه لحظة الخوف وفقدان الأمل حتى لحظة الوداع الأبدي، ويقول لأهاليهم الذين سألوا عنهم، بعد ثلاثين سنة، ادعوا لهم بالرحمة!!
أي قدر يقودني من موت إلى موت ومن حكاية لا تنتهي إلى حكاية تحك الموت من جديد!!
وجع يقود إلى وجع، وذاكرة تقود إلى ذاكرة تذكيها سنين الاستبداد الطويلة، هذه هي حكاية السجون في سوريا… فمن ذاكرة خالد العقلة في تدمر إلى ذاكرة أيهم صقر في سجن صيدنايا على وقع مجزرة أخرى حين صار الدمع ماء يسقي وجع القلب الجائع لكسرة خبز…
من رجفة قلب محمد برو حين نسي طفولته معلقة مع رفاقه على أعود المشانق في تدمر إلى ذاكرة جلال مندو وهو يحفر قبره بيديه كي ينام بعد أن أنهكه الخوف والتعب قبل أن يولد، والجلاد مازال واقفاً بالمرصاد بانتظار الأحلام التي لم تولد…
من لسعة العجز عند لينا الوفائي في غرفة التحقيق وهي تقف أمام رفيقها وزوجها عدنان محفوض دون أن تستطيع مسح جرحه عندما دفعها السجان دون أن ينظر في عينيها خوفا من أن يتعملق الإنسان فيه من هول اللحظة إلى لولا الآغا التي تقف عارية إلا من خوفها في غرفة التحقيق أمام زوجها أحمد مهمندار… هي امرأة سورية أخرى في زمن آخر لا تستطيع أن تمسح جرح زوجها ولا أن تزيح الموت عن عينيه!!
أسباب الموت كثيرة في السجون السورية… قد يكون القهر أحدها، والتعذيب ليس آخرها… فكل الرفاق ومن يشاركونك العازل والقصعة هم موتى في طور التنفيذ أو ربما وأنت معهم وهم معك كأنكم تجالسون الموت أو الموتى…
كأن الرواة من معتقلين ومعتقلات نجوا من الموت مصادفة، كما نجا نظمي محمد، أو ربما عادوا من برزخ الموت، كما عاد من الموت أحمد حمادة في ليلة القدر وأفلت من الموت ليشعل الذاكرة عن “أبو الموت” الذي كان يتربص بأنفاسه… وكأن الأمر كان أشبه بتمرين الروح على الموت والحياة جيئة وذهاباً، كل يوم، حتى نجا!!
ربما يكون بصيص الضوء أو نسلة الضوء القادمة إلى عتمة الزنزانة هو ما جعل الموت مستحيلا و لكن الحياة عصية، فباسل هيلم قال إنه من عمق الألم وفي سواد الظلمات جاءت نسلة ضوء في زنزانته المعتمة وقرأ على حائط الزنزانة: “بكرا أحلى”؛ في حين أقسم براء السراج وهو على حافة الموت بأنه سيهزم باب الزنزانة الأسود ويذهب إلى هارفرد …. هذا اليقين تشبث بروح رياض أولر وهو يجاور الصراصير مع ثلاثة ثقوب في باب الزنزانة وهي تكسر هيبة الظلام وتطمئن القلب إن الحياة مازالت تشرق في الخارج…
ملامسة الموت تارة والاقتراب من الحياة تارة أخرى بين حائطين يُسيجان أفقاً تناهى إلى الصفر، هو تمرين النفس على التلاشي كلما اقتربت أقدام السجان من زنزانة مالك داغستاني ثم الانبعاث للحياة من جديد مع نغمات عود إبراهيم بيرقدار…
ومن تهاليل العيد التي تتسلل إلى زنازين تدمر لتذكر بهول الفقد وخذلان النسيان عند حسن النيفي إلى ذاكرة تعشقت برائحة الشنكليش وزيت الزيتون عند بسام يوسف الذي يطهو الطعام كي يستعيد رائحة أمه التي رحلت وهو خلف القضبان… لتستصرخ دعاء شاهر يونس المصلوب مقابل عري صبية بأن “يا الله كفى…” لتصبح صورتها وجع الذاكرة الأبدي مطبوعاً على عينيه.
كيف أفر من ذاكرتي “ذاكرتهم” وإلى أين؟؟!!
في الليل الطويل تعود فدوى محمود وتجلس أمامي وهي تنادي ابنها المغيّب ماهر الطحان وتقول له “سجنتُ في الماضي كي تنجوَ أنت… وللأسف لم تنجُ ولم ننجُ”… وبعد ثلاثين عاماً من سجنها أرى عمر الشغري وكأنه ابنها يجلس في ممرات الموت يعد الموتى ويحافظ على ما تبقى من الروح في أربعين سنتيمتراً…
كيف أهرب من صوتي “صوتهم” يدق جدران القلب… أن اسمعي ولا تشيحي وجهك، بعضهم أشاح بوجهه عن ألمه كي ينسى ولست أنا من أشاح وجهه؛ غياث سعيد وأنور البني وشبال إبراهيم حاولوا ذلك وكلما تحدثوا كان الكلام سكيناً يجرح الوجدان!!
بوح الألم صار رعشة في الصوت… تنهيدة طويلة… وقد يكون دمعة استعصت أو استرسلت… أو ربما ضحكة اختبأ الدمع في جنباتها كما فعل بدر زكريا مرارا وتكرارا…
خوف فتت الروح حين أصبح الوطن خيالاً للقضبان وانعكاساً لصورة “الكيبل الرباعي” وصراخاً يتلوى على الكرسي الألماني!!
لم يكن مصطفى خليفة استثناء حين اعتقل مع زوجته ولا لينا مع زوجها ولا إبراهيم بيرقدار مع إخوته، بل صار الموت يولد من رحم الموت؛ رشا شربجي تقبع مع أطفالها تحت سوط الجلاد وبين أسنان الموت وتنجب طفلتين في المعتقل!!!
سأعيد صياغة الحكايات… أجمع شملها وأشتتها… ألمها وأنثرها… لتقص حكاية الحقد عند النظام في سوريا الذي لم ينسَ صوتاً أوجعه ذات يوم وعاد لأدراجه القديمة، ليعيد نسج خيوط الخوف من جديد على من تجرأ يوماً وقال لا… فمسح الغبار عن ملفات الراحل سلامة كيلة، وغسان النجار، وجورج صبره، وتهامة معروف، وعمر إدلبي وأعاد اعتقالهم!!
قبل الولوج في بوابة الألم من خلال برنامج يا حرية كنت قرأت الكثير عن هذا الشرق المبتلى بالخوف والسجن والقهر والاستبداد من “شرق المتوسط” إلى “تلك العتمة الباهرة” مرورا بـ”القوقعة” وحتى “هروبي إلى الحرية” وغيرها الكثير من الكتابات المعنية بالسجون ولكن مع كل شهادة في يا حرية كنت أسمع ما هو جديد، ما يتجاوز المتخيل!! هل هو الإبداع الشيطاني لانتهاك الروح وهتك النفس البشرية بوحشية لا تنسى؛ منار الجابر رأت الموت والموتى وشمت ريحهم فهل لها أن تنسى، وهل وصولها لهذا التصعيد النفسي يدخلها عالم سحرية القول وحبكة القص؟؟!!
قد تبدو هذه التساؤلات رفاهية حين تقارن الحياة بالموت والفناء بالبقاء!!
محمد الشريف وعمر الشغري وبشار وانلي تذكروا يوميات السجن لأن النسيان استعصى على أرواحهم وكان البوح أقسى!!
كان بوحاً يفتت اللحظات ويصوغ منها حالة غرائبية تستعصي على المعنى العادي أو الموروث في أدب السجون، فكل حكاية لها من الخصوصية ما يصنع الفرادة… ولكن المرأة ظلت الجزء الأصعب في حكاية السجون السورية، فمن الصعب عليها البوح لاستحكام الألم حتى استحال الكلام صمتاً، فكل حكاية كنت معهن، في الزنزانة أو في غرفة التحقيق، وممرات الإهانة، صوتهن ظل يطاردني، حسنة الحريري تهمس في أذني وتشد من أزري، رزان محمد ترتعد، ومريم خليف تفتح بابها وقلبها واسعاً لنا وفي زاوية البيت تنكمش، وكأنها استعادت في لحظة القول صمت الجدران وحيادية الهواء أمام ما يجرح الروح!!
أي حزن زرعه هذا السجان ولم يفت في عضدهن… أي ألم خلفه هذا السجن من الصعب نسيانه!!
في هذه الحكايات نحن أمام رواية كُتبت بلا قلم، بلا أوراق ولا طباعة حتى دون مؤلف استخدم مخياله وموهبته في صوغ ذلك التسلسل الزمني المعجون بشعرية اللغة وتأويل المعنى… بل نحن أمام روح تفرد نفسها، تعري اللحظات لحما ودماً لتتقلص اللغة وتراكيبها أمام هول الحدث، فالصمت لغة، والآه لغة، والدموع لغة، واستدعاء اللحظات التي تعيد الموت الى راهنيته والتعذيب الى صرخاته الحيوانية هو أيضاً لغة أخرى، ويصبح المحكي محملاً بالصورة الواقع وليس المتخيلة، محملاً بالصوت البكر، محملاً بهمسات العيون بالخوف تارة والأمل تارة أخرى، محملاً او محمولاً باختلاجات الوجه ورجفة الشفاه التي تشي بما وراء الكلمات وتبث الروح في الحكايا وربما تجعلها تجلياً من تجليات الرواية أو أدب السجون والمعتقلات.