كان ينبغي أن يترجم هذا الكتاب إلى العربية قبل عشر سنوات، وأن يقرأه أكبر عدد من السوريين. صحيح أن العثور على ناشر له وقتها كان سيثبت أنه أمر بالغ المشقة، لكن كان من شأن اطلاع أعداد أكبر من المهتمين السوريين عليه أن يساعد على تبين جوانب من سيرة “المجتمع المفخخ”، مجتمعنا، لم يجر التطرق إليها في وقت سابق. تمثيلات قطاعات من السوريين لبعضهم وطرقهم في بناء هوياتهم بالتقابل مع سوريين آخرين، وعلى خلفية بنى وعلاقات للهيمنة الاجتماعية الثقافية دولياً، هذا موضوع لم يجر تناوله من قبل، ولا تكاد تتوفر حوله حتى عناصر أولية (شهادات، مذكرات، مقالات…). هذا لأنه، مع كل ما يتصل بالطائفية والعلاقة بين الجماعات الأهلية، خطر سياسياً، محفوف بالتحريم والكبت، وقد يتعرض من يقترب منه لانكشاف يمتد بين التهديد الأمني وبين التسفيه الطائفي من قبل حراس التابو. لكن وحده الكلام على هذه الألغام في جسدنا الاجتماعي هو ما كان يمكن أن يساعد في نقل وجودها السري إلى العلن، ويحفز على التفكير بسياسة نزع ألغام وطنية، ورسم خرائط لتوزعها ومواضع تفجرها المحتملة، فيجعل من متساكنين لا يثقون ببعضهم مجتمعاً متفاعلاً.
وأرجو أن يغفر لي القراء الإشارة إلى أني اطلعت على الكتاب قبل نحو عقد من السنين، واستفدت منه بقدر كبير في تبين سرديات لقطاع من مواطنينا لا يتاح الاطلاع عليها ولا يمكن حدسها (ذكرت الكتاب وأحلت إليه في فصل طويل عن “الطائفية والسياسة في سوريا”، منشور في كتاب “نواصب وروافض” الذي حرره حازم صاغية؛ الطبعة الأولى، دار الساقي، 2009). ولو كانت توفرت كتب أو دراسات مماثلة عن كيفية تمثيل المسيحيين السوريين مثلاً، أو الكرد السوريين، أو السنيين السوريين…، تمثيلهم لذاتهم، وما هو الآخر الذي يعرفون أنفسهم بدلالة التمايز عنه، وماذا يتذكرون وماذا ينسون، ومع من يشعرون بالقرب وبمن يتماهون، لكنا بلا ريب في وضع أفضل بكثير لفهم بعضنا، وتطوير قدرة أكبر على تقمص بعضنا، ولكانت رابطتنا السورية أكثر تعافياً.
يعتمد كتاب “العلويون: الخوف والمقاومة” على تركيب بين خبرة ميدانية للكاتب النروجي الذي درس بناء الهوية العلوية في منطقة الساحل أساساً، وبين عُدة نظرية مأخوذة من البنائية ونظرية الخطاب. نقطة الضعف المتأصلة في هذا المنهج هي أنه لا يقر بتناول الوقائع الاجتماعية والتاريخية كشيء مستقل عن خطابات يقرر أنه لا خارج لها، ولا تحيل (الخطابات) إلى واقع مستقل عنها. وهو ما يفتح الباب لخطوة أخرى باتجاه العدمية المعرفية. فما دامت الوقائع لا تعطى خارج الخطابات، فإن انعدام استقلالية الوقائع متساوٍ في الخطابات المختلفة، وإن الخطابات عن وقائع بعينها كلها متساوية في الشرعية، وإنه ليست لدينا طريقة لنقرر أفضلية بعض تلك الخطابات على بعض. ننتقل على هذا النحو من القول إننا لا نعرف فئة من الوقائع، الوقائع السورية اليوم مثلاً، وإنها غير موجودة خارج خطابات النظام والروس والإيرانيين والأميركيين والجهاديين وغيرهم، إلى اعتبار هذه الخطابات متساوية فيما بينها ومساوية لما نحاول قوله، نحن، السوريين، الذي عملوا من أجل تغيير ديمقراطي في بلدهم، ثم إنها لا تتفاضل إلا بميل بعضنا إلى هذا أو ذاك منها. يغدو المزاج الشخصي معياراً للحكم في شأن الصحيح وغير الصحيح على نحو صار مكرساً اليوم في عقيدة ما بعد الحقيقة التي هي استطالة لهذا المنهج. هذا لا يقوض المعرفة وحدها فيما نرى، بل والديمقراطية أيضاً، وأي تصور عريض لمجتمع أكثر عدالة. الديمقراطية تقوم على الحق في الرأي، نعم، لكنها تقوم أيضاً على استقلال الحقيقة عن الرأي والتفضيل الشخصي.
ولعله من هذا الباب، باب إنكار وجود خارج للخطابات، تجنب الكاتب النروجي التقديم لكتابه بفصل عن تاريخ سوريا المعاصر وقبله الحديث. لكن الكاتب على كل حال لا يقول بحال إن محتوى كتابه يتناول الوقائع أو التاريخ، ما يتناوله هو تمثيلات جماعة أهلية سورية (العلويين) لأنفسهم، وما يتضمنه ذلك من ملامح للحقل الاجتماعي والعقدي والسياسي الذي تجري فيه هذه التمثيلات.
وليس صحيحاً بحال أن تناول هذه القضايا مسيء سياسياً واجتماعياً، أو “مثير للنعرات الطائفية”، وأن إخماد هذه النعرات المحتملة يوجب بالأحرى التكتم على هذه الشؤون. بلى، إن من شأن الكلام العام عليها أن يثير حساسيات وانفعالات غير طيبة لبعض الوقت، لكن هذه متولدة عن ألفة مديدة بالتكاذب العام المحروس سياسياً، وبكلام نقوله علانية وآخر لا نقوله إلا لخاصتنا. إلا أن المواجهة الصريحة للنزعات المتصلة بالطوائف والإثنيات وحدها هي ما تنقلنا من الحساسية والحرج مما لا يقال علناً، إلى الإقرار بتنوعنا واختلافاتنا، بتوتراتنا وارتياباتنا، بأوهامنا عن بعضنا وبسبل التدرب على احترام بعضنا، ويوفر مساحات عامة متحررة من الحساسيات والإحراجات، نتصرف فيها ونفكر كسوريين متمرسين بمحاربة الكذب. ما نحتاج إليه ليس الاستمرار في تجاهل ما نعلم أنه هناك، بل ربما تناول تمثيلات جماعاتنا المختلفة لبعضها، مع الحرص على استقلال التاريخ عن سرديات الجماعات، والعمل على كتابة تاريخ اجتماعي وسياسي لبلدنا يتوخى العدالة والاستيعاب، ويحارب الإقصاء والتمييز والامتيازات.
ونعلم، وهذا غائب عن الكتاب للأسف، أننا افتقرنا في أي وقت لنقاش عام في هذه الشؤون، ولسياسة عامة علنية تتصدى لها. الواقع أن الشرط السياسي يحول بالأحرى دون النقاش والنشاط السياسي المضاد للطائفية، على ما يشير الكاتب غير مرة بوضوح. لكن ليس دون نقاش يعمل على تسمية أشياء بأسمائها، وليس دون عمل سياسي علني يقاوم منع تسمية الأشياء بغير أسمائها، كان يمكن أن نحول دون انفجار المجتمع المفخخ. أما وقد حصل الانفجار، فإن الاستمرار في التكاذب والتجاهل يتجاوز أن يكون جبناً وتخاذلاً إلى أن يصير تواطؤاً مع الأوضاع ذاتها التي قادت إلى الانفجار، أو انحيازاً إلى ما لا يتجاوز تسويات بين نخب الطوائف.
هذا “مكتوب” في إلغاء التاريخ لمصلحة السرديات، والحقيقة لمصلحة الرأي. لا يتكون فضاء عام يُعمِّره غير محسوبين على طوائف وإثنيات إن بقينا في إطار السرديات والخطابات والمعتقدات والآراء الخاصة. نحتاج إلى الدفاع عن استقلال الحقيقة من أجل الدفاع عن استقلالنا عن أطر أهلية موروثة، ومن أجل أن تكون الديمقراطية وتصوُّر مجتمعٍ أعدلَ ممكنين.
ومن تجربتنا الباهظة الكلفة، نعلم اليوم أن من أبرز وجوه التفخيخ سرديات مظلومية وسرديات تفوق، وفر الكاتب النرويجي أمثلة طيبة عليها من البيئة العلوية، وإن لم يستخدم هذين المدركين. مثل هذه السرديات منتشر اليوم في سوريا، فلم يكد يبقى بيننا من ليسوا مظلومين من قبل آخرين، ومن ليسوا متفوقين على هؤلاء الآخرين بالذات، ومن لم يطوروا خطابات ورموزاً لا تؤكد مظلوميتنا وتفوقنا إلا لتؤكد بالقدر نفسه ظالميتهم وتدنّيهم. وهذه وصفة للإبادة على نحو نستطيع توفير أمثلة عديدة عنه في مختبرنا السوري. لكن ليس هذا وجه التفخيخ الوحيد. قبل ذلك هناك التفخيخ الأمني بأجهزة متخصصة في التعذيب والإذلال والقتل، بذلت طوال جيلين كل ما تستطيع لتجعل السوريين كلهم وشاة و”كتبة تقارير” أمنية، وهناك أشكال ازدادت فداحة من التمييز خلال جيلين وولدت أحقاداً ومخاوف كثيرة، وهناك صيغ مترسخة من التلاعب المتعمد وقصير النظر بالثقة بين السكان التي لا يتكون مجتمع على غير أرضيتها. هذه أوجه “موضوعية” للتفخيخ الذي تطرق إليه تورشتين وورن في مقدمة هذه الطبعة العربية، بذكره لـ”المظالم السياسية التي كانت واضحة جداً وملحة جداً” و”لاستجابة النظام القاصرة جداً” لها، التي وصفها أيضاً بـ”الحماقة”.
أنوه بالترجمة السلسة للصديق ماهر جنيدي، وبمبادرته إلى أتاحة هذا الكتاب الصغير المهم للقراء، مستهدفاً نزع صفة المجهول “الذي تحاك عنه الأساطير” في شان طوائفنا “الكريمة”، تلك الأساطير التي يقول ماهر إنها لم تلعب في ذهنه غير “دور الناسف الذي يطيح الحقيقة بمعية الخيال، والصدق بمعية الكذب، والوقائع بمعية المختلق”. فكأننا سلفاً في عالم ما بعد الحقيقة، بفعل انحصارنا في عوالم ضيقة لا تتواصل، وليس بفضل نسجنا شرانق فكرية عازلة، تحمي (مثلما يفعل كثيرون في الغرب) من الإحساس بالتعذيب والجوع والاغتصاب والقتل والمجازر حين يقع على غيرنا، تلك الوقائع المفرطة الاستقلالية التي لا تقبل الذوبان في أي خطابات.
*******
النص مقدمة ياسين الحاج صالح لكتاب: العلويون، الخوف والمقاومة، الذي ترجمه إلى العربية ماهر الجنيدي، وصدر عن مركز حرمون ودار ميسلون هذه السنة.
*كاتب سوري
المصدر : بوابة سوريا