ياسر الأطرش: المُخبر.. بائع الدم والضمير

0

مهما قيل في تراجع تأثير الآداب والفنون في حياة الناس، وعلى أن كثيراً مما يقال صحيح، إلا أن دوام تأثيرها صحيح أيضاً، وليس فيما هو قشريٌّ ظاهريٌّ فقط، وإنما يتعدى الأمر ذلك إلى النواة، حيث يصنع المجتمع دولته الموازية ويضع قوانينه الخاصة، بعيداً من الدولة ومؤسساتها الحاكمة، مهما كانت سطوتها.

وإن كانت أبسط أشكال تأثيرات الآداب والأفكار والفنون، تتجلى أمامنا يومياً في آلاف المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، تلك المنشورات التي تجتر أفكاراً ومقولات وأشعاراً وحكماً تتغنى بها وترفعها في مكانة الوصايا الموجبة لحياة أفضل.

أما التأثير الأعمق، فهو ديمومة دور العالم الأدبي الموازي في قراءة المجتمعات وتوصيفها وتصنيفها والتأثير في أعرافها وقوانينها ما فوق المؤسساتية، ونستشهد هنا بدور الأدب في التصنيف الاجتماعي لفئات المجتمع، ونخص (المتلصصين) الذين احترفوا مراقبة الناس وأذيتهم، ومنهم (المُخبر: الجاسوس الأمني السياسي، والعاذل: الجاسوس العاطفي، والحسود: الجاسوس الاقتصادي والاجتماعي)، إذ تمكنت الآداب والفنون على مر الأزمان من تحقير هؤلاء وإدامة فضحهم وهجائهم حتى تبنى المجتمع نظرة متحدية لهم، وإن كانوا محميين من السلطات السياسية أو الاجتماعية.

ولعل قصيدة “المُخبر” لبدر شاكر السياب، هي من أعظم ما كُتب في هذا الباب، إذ جاءت على لسان المُخبر وصفاً لحاله، بطاقِةٍ تعبيرية تجعل النص كل مرة يبدو وكأنه كُتب تواً، وليتجاوز السياب طاقة الكلمة بأن يجعلها صورة أو صوراً ترتسم في الأذهان بأشكال مختلفة توافق حال القارئ وتصوراته الخاصة لشخصية المخبر.

يقول السياب على لسان المخبر:

أنا ما تشاء أنا الحقير

صبّاغ أحذية الغزاة وبائع الدم والضمير

للظالمين أنا الغراب

يقتات من جثث الفراخ أنا الدمار أنا الخراب

شفة البغيّ أعفّ من قلبي وأجنحة الذباب

أنقى وأدفأ من يديّْ…

أما المتلصص الآخر الذي لاحقه الأدب وثابر على فضحه والدعاء عليه وتمني موته، بل وتوعده بجهنم، فهو العذول، الذي ما فتئ يراقب العشاق ويقض مضاجعهم ويؤذي قلوبهم الحالمة.. وتحفل كتب النوادر واللطائف منذ العصر العباسي إلى يومنا هذا بقصص وقصائد وأخبار لا تنتهي عن أحوال العشاق ومكابداتهم من العذّال، أولئك الذين كايدهم الشعراء أيضاً، ومن المشهور في هذا الباب قول الشاعر:

قولي لعذولي مذ لاما

مت أنت بغيظك آلاما

بجهنمَ تلقى آثاما

وأنا وحبيبي في عدْنِ

ومثل ذلك كثير جداً في شعر العرب قديمه وجديده.

ولا يقل المتلصص الثالث بشاعة عن النموذجين السابقين، أعني الحسود، الذي لم ولن يسود، وفق ما روت وحفظت الذاكرة الشعبية، التي أوغلت في بغض الحاسد فتمنت لعينه العمى (عين الحاسد تبلى بالعمى)، وعلى أن التفكير العلمي في العصر الحديث قد حد من التوغل في الماورائيات، إلا أننا نجد مئات القصائد الحديثة تتخذ من الحسد والحساد موضوعاً لها، فهو متلصص قميء على أرزاق الناس ومكاسبهم ومراتبهم ووظائفهم وكل ما في أيديهم!..

وعلى أن الشاعر سلم الخاسر، بشرنا بأن المتلصصين يموتون هماً

من راقب الناس مات همَّاً

وفاز باللذة الجسورُ

إلا أن قوله يقع في باب التمني كما يبدو، وفي باب التحذير والتحقير للمتلصصين وتمني غيابهم عن ساحة الحياة، وإن بالموت.

(سوريا)