يارا نحلة: الذكاء الاصطناعي كاستعارةٍ لغبائنا وجدلية السيّد والعبد

0

في تعريفه للذكاء الاصطناعي، يقول جون بودريار أن “الروبوت مصنوع على هيئة الإنسان، مع استئصال أكثر جوانب الإنسان خطورةً، أي جنسانيته”.

الروبوت اذاً ليس بالخطورة والشرّ الذي تحذرنا منهما السينما وأدب الخيال العلمي. ففي رأي بودريار، الذكاء الاصطناعي ليس على قدر الذكاء الذي يدّعيه صناعه، وذلك ليس بسبب نقص في المعرفة- والمعرفة هي بحسب جان جاك روسو مصدر فساد النفس البشرية- بل لأنه “محصّن ضدّ الإغواء الذي تجسّده هذه المعرفة”. إنه الإغواء الذي وقع البشر في شركه حين حرّضت الأفعى، آدم وحواء، على تذوّق الفاكهة المحرّمة، فتفتّحت عيون البشرية جمعاء على المعرفة الجنسية.

بناءً على هذه السردية الخيالية لسفر التكوين، استنتج كانط سرديةً فلسفية لسقوط البشرية، يساوي فيها بين الذكاء والشرّ، فمَلَكة الذكاء تدفع بالبشر الى تطوير كافة قدراتهم، بما فيها القدرة على الشرّ. لكن إن جرّدنا هذا الذكاء/المعرفة من دوافعه الرغبوية والليبيدية، هل يمكننا الإستمرار في الحديث عن الشرّ المفترض الذي يجسّده الذكاء الاصطناعي؟

إنه السؤال الذي تطرحه منظّرة الفلسفة والتحليل النفسي ايزابيل ميلر في كتابها “التحليل النفسي للذكاء الاصطناعي” الصادر العام 2021. كما يشير عنوانه، يقارب هذا الكتاب مسألة وعي الذكاء الاصطناعي من منظار التحليل النفسي، وإن كانت ثمة وظيفة للتحليل النفسي فهو تحوير الأسئلة وحرف مسارها.

وعليه، تنقل ميلر النقاش حول طبيعة الذكاء الاصطناعي، من مسألة الوعي، الى مسألة المتعة وذلك عبر تحوير الأسئلة الفلسفية التي طرحها كانط وديكارت وغيرهما حول طبيعة التفكير البشري. فبدلاً من “هل يفكّر الروبوت؟”، يجد القارئ نفسه أمام سؤال “هل يستمتع الروبوت؟”

فالمتعة هي، بحسب النموذج الفرويدي-اللاكاني، ذلك الجزء الضائع من أحجية المعرفة. إنها موضوع الرغبة الذي لا سبيل إليه. وطالما أن معرفة الروبوت كاملة، فإن رغبته ناقصة، وهنا الفارق الأساسي بينه وبين الذات البشرية، أي الذات الجنسية المتكلّمة. فتحوّل الإنسان من جهاز ذي وظائف بيولوجية، إلى ذاتٍ، أي دخوله النظام الرمزي للتواصل اللغوي والقانون الاجتماعي الذي يحكم كافة العلاقات والتفاعلات البشرية، يستدعي تخليه عن جزء من وجوده الواقعي، هو المسافة الفاصلة بين الحاجة وإشباعها. في تلك الثغرة المعرفية، ذلك الفقد أو النقص الذي يشكّل جوهر الذالت البشرية، تولد الرغبة وتنمو. وهو ما يفتقد إليه الروبوت، وما يجعله بالتالي خارج اعتبارات الخير والشرّ، وكذلك الفكر بأشكاله الواعية وغير الواعية.

تتحدّث ميلر عن “العنصر الغبي من الذكاء” والذي تجسّده الذاتية، أو الهوية الفردية، التي تشكّل بدورها بقعة عمياء في وعينا ومعرفتنا. فنحن نولد في فراغٍ -في عدمٍ معرفي وفكري- لكن علينا أن نصدّر الـ”أنا” الى العالم بموجب اللغة. تعود ميلر الى مقاربة لاكان للاشكالية الديكارتكية “أنا أفكر.. إذن أنا موجود” والتي تلاعَب بها لاكان، المعروف بمدّه جسوراً بين علم النفس وعلم اللغويات الانشائية، لتصبح: “ثمة تفكير.. لذا ثمة شيء موجود”. فالتفكير لا يحدث ضمن حدود الـ”أنا”، بل ضمن هيكلية اللغة، أي الـ”أنا” المتكلّمة حصراً، وكلّ ما وراء اللغة هو مجرّد عدم.

تتزايد في الآونة الاخيرة مخاوف البشر من اكتساب الآلة لوعي شعوري وإعلانها حرب ابادة ضدّ البشر. وقد تم استثمار هذا القلق في انتاجات أدبية وسينمائية كثيرة، بل حتى في الدراسات والأبحاث العلمية، التي تظهر احتمالية تفوق التقنية علينا وتدميرنا. لكن، هل مِن شرعية لهذه المخاوف؟ تتساءل ميلر. ماذا لو لم تكن الروبوتات تهتم لأمرنا أصلاً؟

إن رَيبتَنا حيال التكنولوجيا، تقول ميلر، لها علاقة بطبيعتنا البشرية أكثر من فهمنا لطبيعة الذكاء الاصطناعي وقدراته المفترضة. فنظرتنا الى الذكاء الاصطناعي نابعة من جدلية السيّد والعبد التي تشكّل أساس فَهمِنا للعلاقة مع الآخر، وهو ما تدلّنا عليه مفردة “روبوت” المشتقة من كلمة robotta التشيكية، والتي ترمز الى العمل الإجباري/المجاني، أو السُّخرة.. بمعنى آخر: العبودية. حتى اللغة التقنية التي يستخدمها المهندسون والمبرمجون لوصف أجزاء الآلة فهي تقسّمها بين سيّد وعبد. إن تفكيرنا في الآلة متأصل في الذهنية الكولونيالية التي تدخّلت حتى في تسميتنا لأجزاء الآلة ووظائفها. وكما كان يُخشى سابقاً من اكتساب العبيد لوعي سياسي، وكانت تُحظَر عليهم القراءة تجنباً لهذه الكارثة -أي كارثة المعرفة، ثمة خوف اليوم من ثورة عبيد مشابهة. لكن الكارثة في هذه الحالة ستكون مضاعفة، كما يخشى البشر، كونها حرباً بين معرفة كاملة وأخرى ناقصة.

لكن الكارثة الحقيقية، في رأي ميلر، ليست في النقص وإنما في الكمال. فإكتمال الرغبة، أي احتكاكنا المباشر مع هواماتنا بشكلها الخام، هو “رعب خالص” بحسب تعبيرها. تقدّم المؤلفة مثالاً من عملٍ درامي، هو سلسلة “black mirror” التي تنتمي الى نمط الخيال العلمي الديستوبي، حيث تروي إحدى حلقاته قصة امرأة يموت شريكها فتقوم بشراء روبوت مبرمج لمحاكاة شخصيته بحذافيرها. لكن بناءً على معرفته الكاملة، يضحي الروبوت نسخة منقحة من حبيبها الراحل الذي عرفته بهفواته وعيوبه. في البداية، تسعد البطلة بروبوتها، فهو مصمّم لتلبية كافة رغباتها، خصوصاً الجنسية منها، وهو ما لم يكن حبيبها ينجح فيه دائماً. لكن، شيئاً فشيئاً، يغدو وجود حبيبها كثيفاً لدرجة أنه لم يعد متواجداً حقاً، فهي ظلّت تبحث عن ذلك الجزء المفقود في حبيبها، الذي يشكّل موضوع رغبتها، وهو ما لم تجده في الروبوت الكامل المتكامل الذي لا يعاني أي نقصان.

تستخدم ميلر هذا المثال للقول بأن أدوات الذكاء الاصطناعي تؤثّر في تفكيرنا ووجودنا بطرق نجهلها، ومن دون أن نلحظها أحياناً، وذلك بسبب قصور في فهمنا للتفكير البشري، وهو ما يتمّ إغفاله لصالح المخاوف البارانوئية التي يسقطها البشر على الآلة. وترى ميلر أن في هذه الإسقاطات شيئاً من السذاجة، هي السذاجة نفسها التي تجسّدها مشاريع ورؤى شخصيات مثل إيلون ماسك، والتي تصفها ميلر بـ”خيالات ذَكَرية قضيبية” حول مستقبل العالم. فكيف لهذه التكهنات عن مستقبل التفكير الاصطناعي أن تصيب، في حين أنها عاجزة عن فهم حاضر تفكيرنا ومعرفتنا البشرية؟

في ظلّ هذه الفجوة المعرفية، التي تحيلها ميلر الى فقرٍ فلسفي، باعتبار أن الذكاء هو موضوع فلسفي وليس علمياً، تظلّ الابتكارات التكنولوجية والخوارزمية محدودة وغير كافية لمحاكاة التفكير البشري بكل تعقيداته. أما قمة السوريالية، فتتجسّد في الذهاب في الاتجاه المعاكس، أي خلق تفكير بشري يحاكي الذكاء الاصطناعي الذي صمّم أصلاً على هيئة الفكر البشري، وكأنها “محاولة لعكس استعارة قُمنا باختراعها في المقام الأول”.

بالعودة الى تعريف الروبوت كعبدٍ، فإن هذه الوضعية تشترط تجريده من الجنسانية وحصره في حدود العمل، من دون الحاجة للاستمتاع أو قضاء وقت خاص. لكن هذه القاعدة لم تعد سارية على الروبوتات فحسب، تقول ميلر، بل تمّ تعديلها بطرق مبتكرة لتنطبق على الإنسان الذي أضحى وجوده، بأبعاده الرغبوية، مرادفاً لعمله. فبدلاً من تدمير الجنسانية (أي إخصاء العبيد) أو تحييدها (كما في حالة الذكاء الاصطناعي)، تتجسّد أذكى إنجازات نظامنا الاقتصادي في إلغاء تلك المسافة بين العمل والمتعة أو الذاتية، التي يتمّ امتصاصها بالكامل من قبل عجلة الإنتاج، وتوظيفها في خدمة العمل. فمنذ أن أصبح من واجب الإنسان أن “يستمتع بعمله”، لم يعد قادراً على إنتاج أنماط من المتعة خارج أطر الرأسمالية. إنها الخديعة الرأسمالية الأكثر دهاءً؛ اذ لا حاجة لخلق روبوتات عاملة، ما دمنا نحن هذه الروبوتات.

*المدن