ولاء صالح: إعاقة وخيمة في لجوء لبنان

0

لا تخفى الظروفُ المعيشيّة السيئة التي يقاسيها اللاجئون السوريون في لبنان، وكيف أنّهم يكافحون من أجل البقاء على قيد الحياة فقط، خاصّةً في السنوات الثلاث الأخيرة، ولكن ثمة هشاشة مضاعفة يختبرها اللاجئون السوريون من ذوي الاحتياجات الخاصة ومصابي الحرب. بحسب الدراسة التقييمية التي أعدتها المفوضيّة السامية لشؤون اللاجئين عام 2021، نجد أنّ 9 بالمئة من اللاجئين واللاجئات السوريين في لبنان لديهم-ن إعاقة، وأنّ 30 بالمئة من العائلات السورية اللاجئة في لبنان لديها فردٌ واحدٌ على الأقل من ذوي الإعاقة. غير أنّ الدراسة التي أعدتها Humanity and Inclusion، وهي مؤسسة مستقلة غير ربحية تركّز عملها على الأوضاع الإنسانية خلال الحروب والكوارث وبخاصة أوضاع الأشخاص ذوي الإعاقة، أظهرت أن 22.8 بالمئة من اللاجئين السوريين في لبنان لديهم إعاقاتٌ مختلفة، وأنّ 38.9 بالمئة منهم ربطوا أسباب إعاقتهم بالصراع المستمر في سوريا منذ أكثر من عشر سنوات. 

إعاقة، خيمةٌ ولغم

آخر ما كان عالقاً في ذاكرة مريم يومها هو صورة خيمتها التي ستعود إليها في البقاع بعد أن سلكت طريقاً غير شرعية لإجراء عمليّةٍ جراحيّةٍ لابنها في إحدى مستشفيات دمشق، وذلك بسبب عدم قدرتها على تحمّل  تكلفتها المرتفعة في لبنان. عبرت مريم جبالاً وتلالاً عديدةً ووعرةً في طريق عودتها، لتصل مجدداً إلى خيمتها في كانون الثاني (يناير) 2018، ولكن قبل وصولها إلى الحدود اللبنانية داست بقدمها على أحد الألغام المزروعة في الأراضي السوريّة الحدوديّة، لينفجر هذا اللغم مُتسبّباً ببتر ساقَيها بالإضافة إلى كسورٍ في عظام الحوض.

يذكرُ تقريرٌ نشرته هيومن رايتس ووتش عام 2012 بعنوان «الجيش السوري يزرع ألغاماً محرمة»، أنّ النظام السوري زرع في ذلك العام ألغاماً محظورةً دوليّاً على الحدود السورية مع لبنان وتركيا، ويرجّح التقرير أنّ هذه الألغام روسيّة الصنع.    

مريم لاجئةٌ سوريةٌ تسكن في أحد مخيمات بر الياس في البقاع اللبناني، متزوجةٌ ولديها طفلان، لجأت إلى لبنان بعد دخول داعش إلى قريتها في دير الزور. تقول مريم: «قبل اللجوء إلى لبنان كنّا نعمل مزارعين-ات في أرياف دير الزور. هذه مهنتنا التي ورثناها عن أجدادنا، نزرع القمح والشعير والقطن، وكانت الزراعة مصدر رزقنا الأساسي، وكنّا مستوري الحال». ظلّت مريم تعمل مزارعةً في السهول القريبة من مخيم بر الياس بعد لجوئها إلى لبنان، وقبل الانفجار كانت مدركةً تماماً لحجم المأساة الإنسانية التي تعيشها وجميع قاطني المخيمات في لبنان وساخطةً عليها، لكن سرعان ما تحوّل هذا السخط إلى رضىً ممزوجٍ ببعض الأمل، لا سيما عندما تجد عائلتها متجمّعةً حولها وأنّها قادرةٌ على العمل مع زوجها لتأمين كفاف حياتهم، لكنّ كلّ شيءٍ سينقلب بعد الحادثة: «بعد أن فقدتُ ساقَي، قلتُ الحمد لله، هذا نصيبي وقدري. لا أحد يعترض على أقدار الله، ولكنّ زوجي هجرني وتزوج امرأةً ثانية». أكل الخذلانُ قلبَ مريم بعد أن تخلّى عنها زوجها وترك المخيم دون رجعة، كما أنّه لم يعد يُنفق على طفلَيه الصغيرين. أخبرتني السيدة عن آلامها النفسيّة بسبب عدم قدرتها على تلبية احتياجات طفليها بعد أن أُلقيت جميع الأعباء الاقتصاديّة وحتى العاطفيّة عليها. تستخدم مريم كرسياً متحركاً للتنقّل، لكنّ استخدامها للكرسي لا يؤثر كثيراً في حقيقة صعوبة الحركة أو استحالتها أحياناً نظراً إلى الأضرار الجسدية الجسيمة التي لحقت بها. تتسبّب حركة مريم الكثيرة بالألم، حتى لو كانت لمسافاتٍ قريبة بغرض إنجاز بعض المهام المتعلقة بإدارة أمور الخيمة. 

تحيلنا أوضاع مريم إلى التفكير في مدى مرئية اللاجئين ذوي الإعاقة عند تجهيز المخيّمات وفي بنيتها وهيكلتها هندسياً. بشكلٍ عام، تفتقد المخيمات لأدنى شروط الحياة الصحيّة والمساعِدة على تنقّل الأشخاص ذوي الإعاقة، ممّا يُصعّب عليهم-ن حياتهم-ن اليوميّة، مثل الحجارة المنتشرة بطريقةٍ عشوائية والأرض التي تتحوّل إلى مستنقعاتٍ من الوحل والطين خلال الشتاء، بالإضافة إلى وجود الحمامات ضيقة المساحة خارجَ الخيام، وفي أماكن بعيدة عنها أحياناً.

تدفعُ مريم إيجار خيمتها نحو مليون ليرة لبنانية شهرياً، وهناك مطالباتٌ بالدفع بالدولار مع مطلع السنة الجديدة، بالإضافة إلى 600 ألف ليرة لبنانية لاشتراك الكهرباء والخدمات الأخرى. فيما كانت تعتمدُ بشكلٍ أساسي على المساعدات التي تقدّمها لها المفوضيّة السامية، قبل أن يتمّ فصلها مؤخراً من برنامج المساعدات دون مراعاةٍ لأوضاعِها. الجدير بالذكر أنّ مفوضية شؤون اللاجئين فصلتْ آلافَ العائلات السورية المستفيدة من برامج المساعدات المالية والغذائية، وقلّصت المساعدات على عائلاتٍ أخرى. أما عن أسباب إيقاف المساعدات الإنسانية، فذكرت المفوضية في تقريرٍ نشرته مؤخراً أن الأزمة الاقتصادية في لبنان تدفعُ الجميعَ إلى حافّة الهاوية، وتسعة من كل عشرة لاجئين في حالة فقرٍ مدقع، مما يضطرهم إلى الحد من استهلاك الغذاء وتعليقِ طلب الحصول على الرعاية الطبية. وبالرغم من ذلك، ونظراً للعجز في التمويل، اضطُرت المفوضية في الآونة الأخيرة إلى الحد من البرامج الأساسية المُقدّمة للاجئين السوريين. 

تجد الأمهات ذوات الإعاقة تحدياتٍ مضاعفة، كونهنّ في أغلب الأحيان مُقدِّمات الرعاية الأساسية للعائلة، في الوقت الذي يغيب فيه التوزيع العادل لأعمال الرعاية بين المرأة والرجل عن كثيرٍ من المجتمعات، لا سيما بين اللاجئين في لبنان. وفي حالة مريم، أحدثتْْ هذه الفجوة تداعياتٍ جسديةً ونفسيةً واقتصاديةً عليها وعلى طفليها، لكنّ الأكثر قسوةً عليها، كما تقول، هو محاولةُ بعض الرجال في المخيم استغلالَ حاجتها من خلال ابتزازها جنسياً. قالت مريم هذا بوضوح: «لا شيء دون مقابل». قالت مريم أيضاً أشياء كان يصعب علينا تخيّلها من فرط قسوتها ومرارتها، وتفتح كلماتُها أسئلةً عن العدالة وعمل المنظمات الإنسانية المعنية بشؤون اللاجئين عموماً، وبشؤون النساء اللاجئات وحمايتهنّ خصوصاً، وتلقي الضوء على مدى استغلال الأجساد والكرامة الإنسانية في مخيمات اللاجئين السوريين في لبنان. 

تقول مريم: «أخاف أروح أشتكي عليهم يصيروا بالأمن العام بدهم يرجعوني على سوريا، لأنّه ما عندي إقامة وداخلة تهريب». هشاشة وضع مريم القانوني وعدم حيازتها للأوراق يعرّضها لأن تكون هي في مرمى المساءلة القانونيّة، وذلك عوضاً عن أن تكون في موضع الحماية. 

تُعدّ النساء اللاجئات ذوات الإعاقة من أكثر الفئات قابليةً للتعرّض للاستغلال بسبب طبقات التمييز المتداخلة، فهنّ يواجهن عنفاً مزدوجاً على أساس الجنس والإعاقة، وفضلاً عن ذلك هنّ يفتقدن لأدوات الحماية في المخيّمات، ويشعرن بالتهديد، وتغيب عنهنّ فرص التمكين الاقتصادي التي يمكن أن تجعلهنّ أكثر استقلاليّةً ماديّةً وقدرةً على مواجهة الصعوبات.

الآن، يُلازم مريم إحساسٌ بالضياع و«قلّة الحيلة» بحسب تعبيرها، وتحار في مواجهة «كارثتها الفجائية»، مفتقدةً إلى وجود دعمٍ ومساندةٍ لها، بدءاً من محيطها الاجتماعي وليس انتهاءً بالجمعيّات والمنظمات الإنسانية والطبية والإغاثية. الأمر السيء الإضافي أنه لا يوجد بروتوكول دعمٍ صحي واجتماعي واضحٍ ومخصصٍ للنساء اللاجئات ذوات الإعاقة ضمن برنامج مفوضية شؤون اللاجئين في لبنان.

إعاقات بسبب إصابات الحرب

في إطار النزاع والاقتتال في سوريا، دفع اللاجئون السوريون الذين تعرّضوا لإصابات أثماناً باهظة، فقد خسروا مكانَهم في بلادهم وأجزاءً من أجسادهم، وسط تجاهلٍ مستمرٍّ لأوضاعهم الإنسانية، وبالتحديد أولئك الذين لجؤوا إلى دولٍ مجاورة تعاني من أزماتٍ اقتصاديّة؛ مثل لبنان الذي يفتقر إلى سياساتٍ صحيةٍ واجتماعيةٍ دامجةٍ وداعمةٍ للأشخاص ذوي الإعاقة.

التقينا بداود الحريري، وهو لاجئٌ سوري مقيمٌ في حي الكرنتينا ببيروت وأحد مصابي الحرب. أخبرنا أنّه بسبب قصف النظام السوري على بلدة بصر الحرير في درعا عام 2012، اخترقت قذيفةٌ منزلَه مُتسبّبةً بإصاباتٍ بالغةٍ في ساقه وفي فقدان جزءٍ من يده. حينذاك، وبسبب القصف العنيف على البلدة، استمرّ نزفُ الدماء من جسده لساعتين، ليتمّ إسعافه بعدها إلى إحدى المستشفيات الميدانيّة. تنقّل داود بين درعا والأردن للعلاج، إلا إنّ طول الفترة الزمنية بين مراحل العلاج أدّت إلى انتكاس حالته الصحية، لتُبتر قدمه بالكامل بعدما انتشرت فيها الغرغرينة. 

قرّر دواد أن يأتي إلى لبنان بعد أن ضاقت به سبل الحياة في درعا: «بقيتُ على لائحة الانتظار عاماً كاملاً لتسجيلي كلاجئٍ سوري في المفوضية». يقفُ داود مذهولاً من الآلية التي يجري فيها التعامل مع الأشخاص ذوي الإعاقة دون الأخذ بعين الاعتبار لحالتهم التي تتطلب إجراءاتٍ أكثر سرعةً وفعاليّة. يُضيف: «احتجتُ إلى عكّازات لتسهيل تنقّلي والبحث عن عمل، فذهبت إلى إحدى الجمعيّات التي تُعنى بشؤون ذوي الإعاقة، فعُوملتُ فيها بطريقةٍ غير لبقة، وطُلب مني تقريرٌ لإثبات حاجتي للعكّازات والانتظار ستة أشهر للرد على طلبي. شيءٌ واحدٌ كنت متأكّداً منه، هو الانصراف دون عودةٍ إلى أيٍّ من هذه الجمعيّات». 

استطاع الحريري بعدها شراء العكازات بمساعدة بعض الأشخاص، لكن ما حصل معه في الجمعية ترك غصةً في قلبه: «تخيّلي أن يقف أمامك شخصٌ مبتور القدم واليد، ثم تسأليه عن إثبات أحقيّته بعكازاتٍ يتّكئ عليها لتُسهّل عليه مشقّات الحياة وطرقاتها المعوجّة والأرصفة المتكسّرة والحفريّات المنتشرة على طول الشوارع وعرضها والأبنية الطابقية الخالية من المصاعد. هذا المكان غير مهيَّئٍ لأنْ يعيشَ فيه أشخاصٌ ذوو إعاقة».

قبل أن تُفقده القذيفةُ يده وساقه، كان داود يعملُ فرّاناً في درعا، وقد بحث كثيراً عن عملٍ في الأفران الموجودة ضمن منطقته والمناطق المجاورة بعد اللجوء إلى لبنان، لكن دون جدوى، نظراً لما يتطلّبه هذا العمل من سرعةٍ وحركة. يخبرنا كيف يقوم أحياناً بالخَبْزِ في منزله مدفوعاً بالرغبة والاشتياق لهذه المهنة ولمَلمَس الطحين والعَجْن ورائحته، لكنّ هذا لا يخفّف من حاجته للعمل حتى بغير هذه المهنة لكسب لقمة العيش. في أكثر من موضعٍ تحدّثَ الرجل عن كرامته التي بات يكابد للحفاظ عليها، وردّد كلاماً كثيراً عن الكرامة الإنسانيّة وعن كرامة اللاجئ السوري المصاب بإعاقة وحقوقه: «يللي ماعندو عزّة نفس بلاله هالحياة كُلها، بعدْ يخسْرونا عزّة نفسنا. ضلت حيلتنا هالكرامة».  

تُشيرُ الدراسة التي أعدتها humanity and inclusion أن 85 بالمئة من اللاجئين السوريين ذوي الإعاقة في لبنان عاطلين-ات عن العمل.

في السياق ذاته، قابلنا عبد الكريم، وهو لاجئٌ سوريٌّ لديه إعاقةٌ بسبب إصابة حرب ومتزوجٌ ولديه خمسة أطفال. حدث هذا في أيلول (سبتمبر) 2012 أثناء تأدية عبد الكريم عمله الإعلامي بتوثيق قصف النظام السوري على مدينة تلبيسة بريف حمص، إذ سقطت قذيفةٌ تسبّبت ببتر ساقه اليمنى. زوّدنا عبد الكريم بمقطع فيديو موجود على يوتيوب يوثّق لحظة إصابته، لكنّنا قرّرنا عدم إضافته نظراً إلى المشاهد القاسية فيه. وبسبب سوء الأوضاع في سوريا، وعلى الرغم من إدراكه لسوء الأحوال في لبنان، قرّر عبور الحدود مُتعلّقاً بأمل إيجاد فرصة عمل. وضع عبد الكريم بعد إصابته طرفاً صناعياً لتسهيل حركته، علماً أنّ الأطراف الصناعيّة تحتاج إلى تبديلٍ كلّ عام، ويبلغ متوسط سعر الأطراف الصناعيّة العادية غير الكهربائية، والتي يستخدمها عبد الكريم، نحو 2500 دولار أميركي. أصبح هذا الطرف تالفاً وغير صالحٍ للاستخدام، مما زاد من التقرّحات في ساقه المُصابة، وهو يحتاج للجوارب المخصّصة للأطراف الصناعيّة، والتي تحتاج بدورها إلى التغيير كلّ ستة أشهر تقريباً، ويبدأ سعرها من 60 دولارٍ أميركي.

يستطيع عبد الكريم أحياناً تأمينَ الجوارب عبر بعض الجمعيات، لكنّه لا يستطيع في أحيان أخرى بسبب محدوديّة موارد الجهات المانحة. في الفترة الأخيرة راسلَ جهاتٍ إعلاميّة لمساعدته على السفر من أجل العلاج، ولكنّه ما زال يتلقّى وعوداً لم تُترجم بعدُ إلى استجابةٍ حقيقيّة.

ولفهم احتياجات اللاجئين السوريين ذوي الإعاقة، قابلنا إياد (اسم مستعار)، وهو متطوعٌ في المجال الإنساني لدعم ذوي الإعاقة، كما أنّ لديه إعاقةٌ حركيّةٌ ناتجةٌ عن إصابته بحادث. سألتُه عن دوافع عمله في هذا المجال، خاصّةً أنّه يعمل بشكلٍ تطوعي في ظلّ ظروفٍ معيشيةٍ قاسية. قال: «درستُ فصلاً دراسيّاً واحداً في كليّة الطب في سوريا، لكن ساءتْ الأحوال ووجدتُ نفسي في لبنان أحاول البدء من جديد. في أحد الأيام تعرضتُ لحادث سيرٍ فقدتُ على إثره قدمي، وصرت إنساناً آخر. بحثتُ حولي كثيراً لأجد مجتمعاً أنتمي إليه، كما أردتُ أن أعرف كيف يعيش الأشخاص ذوي الإعاقة في لبنان. من هذه النقطة بدأتُ عملي وصِرتُ أبحثُ عن الجمعيات والمنظمات التي تُعنى بذوي الإعاقة».

الكثيرون من اللاجئين السوريين لا يعلمون بأماكن وجود الجمعيات، وليس لديهم معرفةٌ بالخدمات التي تقدّمها، ومن خلال معرفة إياد باللاجئين السوريّين أنشأ مبادرةً تُعنى بالأشخاص ذوي الإعاقة يُقدّمُ فيها معلوماتٍ عن الجمعيّات والخدمات المُتاحة: «لا أحد يعلم مدى سوء أوضاع ذوي الإعاقة إلّا نحن أنفسنا. مبادرتنا صغيرة وجميعنا من ذوي الإعاقة». يجمَعُ إياد ورفاقُه أحياناً بعض الأموال من بعضهم البعض ويشترون بها أساسيّات الطعام ويقدّمونها للأشخاص الأكثر حاجةً بينهم في هذه الأوضاع الصعبة. يعلّق إياد: «قوينا ببعض». وفقاً للدراسة التي أشرنا إليها سابقاً، فإنّ 49 بالمئة من العائلات السوريّة اللاجئة في لبنان، والتي لديها فردٌ واحدٌ على الأقل ذو إعاقة، تُعاني من انعدام الأمن الغذائي. 

من خلال عمله كمتطوع في الصليب الأحمر الدولي ومؤسساتٍ أخرى سابقاً، أخبرنا إياد أنّ أكثر احتياجات اللاجئين ذوي الإعاقة هي العكّازات والأطراف الصناعية، وهذه الاحتياجات يقدّمُها الصليب الأحمر الدولي بالإضافة إلى مساعدةٍ ماليّةٍ بمبلغ مليون ليرة لبنانية، أي نحو 22 دولار شهرياً بحسب سعر الصرف في السوق السوداء يوم أمس الأحد، ولمدّة سنةٍ واحدةٍ فقط، وهي تُقدّم للأفراد «الأكثر احتياجاً» وفقاً لمعاييرَ يضعُها الصليبُ الأحمر. لكن ثمّة احتياجاتٌ أخرى يصعب تأمينها بسبب ارتفاع تكلفتها، مثل جلسات العلاج الفيزيائي، إذ تقدّمُ بعض الجمعيّات نحو عشر جلساتٍ مجانيّة، يمكن أن تزيد جلستين أو تنقص، وتحقّق هذه الجلسات تحسّناً مرحليّاً، لكن بالتأكيد هي لا تكفي تماماً، إذ غالباً ما يحتاج الأمر إلى برامج علاجيّة طويلة الأمد، وتبلغ تكلفة الجلسة الواحدة -وسطياً- نحو عشرين دولار أميركي. 

من جهةٍ أخرى، يصعب تأمين الأجهزة التقويميّة لشلل الأطفال، فضلًا عن الأحذيّة الطبيّة التي تبلغ كلفة تفصيلها نحو 300 دولار أميركي. ويبرز أيضاً في هذا الإطار مشكلةُ صيانة المُعينات الطبية؛ كالكراسي المدولبة (المتحركة) والنظارات والسماعات الطبية وغيرها من المُعينات التي تختلف باختلاف نوع الإعاقة، والتي لا تقوم أيّ جهةٍ بتغطيتها، مما يدفع البعض إلى الاستغناء عنها نهائياً بسبب عدم قدرتهم على صيانتها. تُشير الدراسة أنّ 95 بالمئة من العائلات التي لديها على الأقل فردٌ واحدٌ ذو إعاقة، لا تصل إلى الخدمات الصحيّة بسبب ارتفاع تكلفتها.

إعاقات مختلفة

عند مناقشة المواضيع المتصلة بالإعاقة، لا يمكننا إلّا أن نتطرق إلى الجوانب المتعلقة بالوصم الاجتماعي والمعاناة النفسيّة التي يتعرّض لها الأشخاص أصحاب الإعاقة، وخاصّةً في سياق اللجوء. سامر لاجئٌ سوريٌّ خمسيني يقيم في إحدى مناطق الجنوب اللبناني، وتردّد قليلاً في تلبية طلبنا لمقابلته، موضحاً: «التّردّد والقلق أشياءٌ عاشت معي. يمكن أن تقولي إنّنا كبرنا سويةً». لجأ سامر إلى لبنان قبل خمسة أعوام حين أصبح العيش في إدلب «جحيماً لا يُطاق»، وكان يعمل بالتجارة، أمّا إعاقته فهي ناجمةٌ عن خلعٍ أثناء الولادة.

في إدلب رسمَ أحلاماً كثيرةً وحقّق منها ما يكفي لأن يكون راضياً عن نفسه، إلى أن قرّر الزواج، وحينها تعرّض للرفض كثيراً. الأسباب جميعها كانت مرتبطةً بمعايير الذكورة المفروضة على الرجال في المجتمع، كالقوّة البدنيّة والتشكيك بقدرته الجنسيّة. وصل إلى لبنان  مُثقلاً بالهموم، وزادت رغبته بالعُزلة عندما لم يُسمح له بفتح محلٍّ تجاريٍّ بحسب قانون العمل اللبناني. لم يجد «أُلفةً» ليندمجَ في المجتمع، ولا «تقبّلاً لاختلافه» يُخفّف من اغترابه، حتى بدأ الاكتئابُ يُسيطر عليه أكثر. يقول سامر: «قرّرتُ البدءَ بالعلاج النفسي بعد أن صار الخروج من المنزل أمراً نادر الحدوث معي. لم أعد راغباً في أن يراني أحدٌ على وضعي هذا، وحتى عندما أُضطر للحركة، فأنا أنتظر اختفاء الجميع من أمامي كي أتحرك، لكنّ صدمتي كانت حين أخبرتُ المعالجة النفسيّة التابعة لإحدى المنظمات التي تُعنى بشؤون اللاجئين عمّا أواجهه في لبنان بسبب إعاقتي وعن أوضاعي المعيشيّة، فقالت لي: ‘إذاً عُد إلى سوريا’».   

بحسب الدراسة التقييمية لأوضاع اللاجئين السوريين في لبنان التي سبق لنا ذكرها، فإنّ 34 بالمئة من الأشخاص ذوي الإعاقة أخبروا عن شعورهم بالقلق والتوتر، أقلّها مرةً واحدةً في الشهر، كما أنّ 20 بالمئة منهم يُعانون من حالة اكتئاب. 

تبذلُ العديدُ من الجمعيّات والمنظمات غير الحكومية جهوداً للإحاطة ببعض متطلّبات اللاجئين-ات ذوي الإعاقة، غير أنّ «محدوديّة الموارد» وكثرة أعداد المتضررين-ات، بالإضافة إلى تحويل بعض البرامج بسبب وباء كورونا إلى برامج أخرى مُخصّصةٍ له، أزاحت في طريقها العديد من الخدمات، كما أنّها قلصت من أعداد المُتلَقّين-ات، بينما آخرون حُرموا من الاستفادة منها.

تبرز هنا الإعاقة السمعيّة كإحدى الإعاقات التي يجد اللاجئون صعوبةً في علاجها والتكيّف مع متطلّباتها. أخبرتني أم خالد، وهي لاجئةٌ سوريةٌ وأمٌّ لشابةٍ وشاب لديهما صممٌ منذ الولادة، أنّ ابنتها (25 عاماً) بحاجة إلى زراعة حلزون، لكنّها غير قادرةٍ على دفع تكاليفها، وتضيف أنه كان يجب إجراء عملية زراعة الحلزون في عمرٍ مبكر، والآن بعد تأخّرها فمِن غير المؤكد إذا كانت العمليةُ ستحقّقُ النتائجَ المطلوبة وهي في هذا العمر. أمّا خالد، فقد أجرى العمليّة ذاتها في مرحلةٍ عمريّةٍ مُبكرة، لكنّه ظل محتاجاً إلى سمّاعةٍ طبيّة.

تختلف أسعار السماعات الطبية باختلاف جودتها، ووفقاً للمصادر التي سألناها، يبدأ سعرُ السماعة ذات الجودة الجيدة بـ500 دولار أميركي. استطاعت أم خالد شراء واحدة، بيد أن ارتفاع تكاليف المعيشة منعها من مواصلة شراء البطاريات اللازمة للسماعة، والتي يلزمُ تبديلها كل ثلاثة أو أربعة أيام، ويتراوح سعر البطاريات بين 150 و200 ألف ليرة لبنانية، أي بحدود 4.5 دولار أميركي وفق أسعار الصرف الحالية. تُتابع: «قام ابني بنزع السماعة نهائياً، وهو الآن لا يسمع إلّا بشكلٍ خفيفٍ جداً».

تحدثت الجمهورية.نت مع أكثر من عائلةٍ لديها على الأقل طفل-ة واحد-ةٌ يُعانون من مشكلاتٍ في السمع والنطق، مثل مرام التي تواجه صعوبةً في علاج ابنتها ذات الثمانية أعوام، وهي الأخرى بحاجةٍ إلى عملية زراعة حلزون، لكنها اصطدمت بارتفاع تكلفتها في لبنان، ولدى الطفلة أيضاً مشاكل في النطق. تُخبرنا الأم أنّها تسعى جاهدةً لإجراء العملية لابنتها، منتظرةً رد إحدى المؤسّسات على طلبها بقليلٍ من الأمل، نظراً لعدم وجود جمعيات أو منظمات تُغطي تكاليف مثل هذه العملية إلا في حالاتٍ قليلةٍ. 

من جهةٍ ثانية، يتطلّب وضع الطفلة أن تكون في مراكز تعليمية مُخصّصة لعلاج مشاكل النطق، وهذا متعذرٌ بسبب الأحوال المادية، فاضطرت أمها إلى إلحاقها بمدرسةٍ عادية، غير أنها تعرّضت للتنمّر من قِبل أقرانها بسبب طريقتها في الكلام، فقامت والدتُها بإخراجها من المدرسة، وهي تحاولُ تعليمها الحروف وبعض الكلمات في المنزل. تنطبق حالة ابنة مرام على الكثير من الأطفال السوريين في لبنان ممّن لديهم المشاكل ذاتها.في النهاية، يُجمع كلّ من قابلتهم-ن على مفهومٍ واحد، هو الاستخفاف المجتمعي والقانوني بحقوقهم كلاجئين ذوي إعاقة في لبنان، ويروون الكثير عن خيباتهم المتلاحقة جرّاء ما يتلقّونه كـ«إحسان» عوضاً عن أن يكون حقوقهم الأساسيّة، علماً أنّ الاتفاقيّة العالميّة لذوي الإعاقة نصّت في موادها على احترام كرامة الأفراد ذوي الإعاقة وأولوية حماية النساء ذوات الإعاقة وضمان مستوى معيشة لائق بهم، وهذا ما قلّ أن عوّلَ عليه اللاجئون السوريون في لبنان، إلا أن الأمر لا يقتصر على أوضاع ذوي الإعاقة منهم-ن، فهذا وجهٌ من أوجه الأوضاع الكارثية التي يعيشها اللاجئون السوريون في لبنان عموماً، وعلى ما يبدو هي أحوالٌ من العسير تفكيكها وحلّها في المستقبل القريب.  

“الجمهورية”