لبنى شعبان، شاعرة وقاصة سورية تقيم في كندا
مجلة أوراق العدد 13
قصص
في مدخل الحمراء كان لقاؤنا ما أطيب اللقيا بلا ميعاد
ردّدتها وقلبي يلفظ كل حرفٍ على نوتةٍ من السلّم الموسيقي… أنفاسي تتسارع مبهورة والتاريخ يسرقني في مركبةٍ تتنقل بين العصور كادت تصيبني بالدوار…
هل أنت إسبانيّةٌ… سألتها قالت وفي غرناطةٍ ميلادي
غرناطةٌ! وصحت قرونٌ سبعةٌ في تينك العينين …بعد رقاد
وأميّةٌ … راياتها مرفوعةٌ وجيادها موصولةٌ بجياد
لم أتمالك نفسي من إقفال عيني رغم بهاء المنظر وجلاله. تمنيته معي، أولا تملك إحدانا حتى حق التمني؟
وأخذت أجوب القاعات متنقلّة ً بالمراحل الزمنية لبناء هذا الصرح العظيم… فجأة، لا… لا يمكن:
ما أغرب التاريخ.. كيف أعادني لحفيدةٍ سمراءَ من أحفادي
وجهٌ دمشقيٌ… رأيتُ خلاله أجفانَ بلقيس َ.. وجيدَ سعادِ
ورأيتُ منزلنا القديمَ …وحجرةً كانت بها أمي تمدّ وسادي
والياسمينة! رُصِّعت بنجومها والبركة الذهبيّة الإنشادِ
ويربت على كتفي بحنان غريب. هذه المرّة لقاؤنا كان أمراً محتوماً، في مكانٍ لابد لنا من عشقه. عانقتني زرقة عينيه بصفاءٍ لم أعهده فيه منذ زمن. ولم أتمالك نفسي عن الارتماء في أحضانه وقد انهمرت دموعي…
يا صغيرتي أتبكين؟ وهو يقهقه ضاحكاً، أتفضّلين رحيلي؟
لا … لا … أمسح دموعي، إنما هو الفرح بلقائك، لقد تمنيت اجتماعنا الآن… لم أتمنّى وجود أحدٍ غيرك معي هنا…
كفكف دمعتي وحاول رسم ابتسامتي من جديد بإصبعه.. وكالطفلة التي استلمت قطعة حلوى لمع وميض الفرحة في عينيّ..
لم أردتني أن أكون معك هنا؟ سألني ونحن نتمشى باتجاه بركة السباع.
لأنها المدينة الأقرب لدمشق… كم حلمت أن تجمعنا دمشق، أن يصهرنا حبنا لها. أردت أن أراها في عينيك لوحةً تنافس روائع مايكل أنجلو…
ودمشقُ أين تكون؟ قلتُ ترينها في شعرك المنساب نهرَ سوادِ
في وجهك العربيِّ، في الثغر الذي مازال مختزناً شموس بلادي
في طيب (جنّات العريف) ومائها في الفُلِّ، في الريحان، في الكبّادِ
– يا الله ما أروع الفن المعماري والإتقان، ويا لشوقي لشوارع دمشق، لحارات وزواريب دمشق، والنارنج والكبّاد، ولتعريش الياسمين على أصابعي… نزار بتُّ أخشى جفاف الخيال، والابتعاد، الموت…. فالصمت واعتياد الألم هو الموت، المنيّة بحد ذاتها، نسيان الجمال وانعدام القدرة على رؤيته هو الموت.
– صغيرتي، أي صغيرتي هاتِ يدك للحظة. يمسكها ويضعها موضع القلب….. أتشعرين به؟
– نعم
– دمشق باقيةٌ هنا مادام هو ينبض… أتفهمين؟
قالت هنا الحمراء.. زهو جدودنا فاقرأ على جدرانها أمجادي
أمجادها!! ومسحتُ جرحاً نازفاً ومسحتُ جرحاً ثانياً بفؤادي
ياليت وارثتي الجميلة أدركت أن الذين عنتهم أجدادي
وقفنا على قمة التلّة نراقب المدينة عند غروب الشمس… وشعرنا بجراحنا تنزف … وتنزف.. ودموعنا تكوي الفؤاد، نظرت إليه:
– أتدري، لي صديقة زارت الأقصى وباحاته المقدّسة ومسجد قبّة الصخرة وقالت لي ما استوطن فؤادي ولم يغادره. قالت بأنها وقفت على جبل الزيتون وراقبت الأراضي المقدسة وشعرت براحة نفسيّة وطمأنينة لم تشعر بمثلها من قبل. وجعلت تقلّب الطرب حولها بأن كل أمم الأرض تستميت بالاقتتال لأجل هذه الرقعة المربعة من الأرض. وعلى جانب الجبل هناك مقابر إسرائيلية، وبالرغم من محاولاتها بأن تكون حيادية قالت لي: لم أتمكن من أن لا أغضب وأشعر بأنهم مستمرون وبأنهم لا ينتمون لهذه الأرض، فالمفروض أن هذه الأرض لي وأنا منها نبتُّ وإليها آنتمي. وما أشبه القدس بالأندلس.. يانزار وبغداد ودمشق.
هم يغتالون بلادنا، ويستبيحونها، يزوجونها، يتفاوضون عليها، ويقررون مصيرها ونحن لاهونَ بألعابنا بعقولٍ قاصرةٍ قاصرة.
يشدُّ قبضته على يدي:
مضت قرونٌ خمسةٌ
مذ رحل (الخليفةُ الصغيرُ) عن إسبانية
ولم تزل أحقادنا الصغيرة
كما هي
ولم تزل عقليّة العشيرة
في دمنا كما هي
حوارنا اليومي بالخناجر
أفكارنا أشبه بالأظافر
مضت قرونٌ خمسةٌ
ولاتزال لفظةُ العروبة
كزهرةٍ حزينةٍ في آنية
كطفلةٍ، جائعةٍ… وعارية
نصلبها …. على جدار الحقد والكراهية
وأستيقظ لأجد قطتي تشدّ غطاء سريري محاولةً إيقاظي لأنها تتضور جوعاً…. وأبحث عن نزار في طيّات ديوانه من جديد….