موفق قره حسن
مجلة أوراق- العدد15
أوراق القصة
لقد كنت في دمشق حينها، ولم أعد أذكرُ أين كنتُ أقف على وجه التحديد، متعباً .. مرهقاً بعد سهرةٍ طويلةٍ.. رافعاً سبابتي .. مشيراً إلى تكسي قادمة من بعيد:
– على شارع بغداد معلّم؟
– طلاع.
نعم، كنتُ أقيم حينها في شارع بغداد في بيت دمشقيّ قديم، هو أشبه “بقارورة العطر” كما قال (نزار قباني) واصفاً بيته، وصعدتُ التكسي وانطلقنا.
كان السائق -ولمحضِ الصدفة- يضعُ أغنية عراقيّة تراثيّة، والتي تقول في مطلعها (عونك يا وطن يابو الحضارات)، ولأنّني أحسب نفسي شاعراً، ومهمة الشاعر “أن يبكي وردة تموتُ في آخر العالم”؛ هوت دمعتي وأنا أتذكّر مظفّر النواب ووجعه مع المنفى، أتذكّر قصائده وحزنه مردّداً قوله “شباكِ في الشامِ وشباكيَ بغدادُ”، أتذكّر لياس خضر ومطولاته الحزاينيّة، وليلة سقوط بغداد، والأميركي الجبان، والمواطن العراقي الذي أسقطَ طائرةً أميركيّة ببندقيّة للصيد، كانت جلّ ما أسقط في الحرب وقتها، ومحاكمة صدام حسين، فعلى الرغم من كرهي له ولكنّني قلتُ إنّه يجب أن يعدم رمياً بالرصاص كما يليق بعسكريّ، لا شنقاً صباح عيد الأضحى، تذكرت أصدقائي العراقيين (محمد الشمري).. (ومحمد المغربي).. أين هم؟ ماهي أخبارهم؟ هل عادوا إلى العراق؟ أم أنّهم ما يزالون في سوريا؟ أم أنّهم اتجهوا إلى القارة العجوز؟ هناك حيث يستطيعون أن يعيشوا في عراق آخر، ولكن دون دجلة، دون كركوك، ودون الموروث الثقافي العباسي، ودون أن يكون هنالك أثرٌ لحوافر جيوش المغول، وهوت دمعة أخرى والسائق يشاهد حزني الكبير ولكنّه لم يكتفِ بهذا القدر بل رفع مستوى الصوت أكثر وأكثر وهو يضرب على الدركسيون متأثّراً ومتمتماً مع الأغنية كلماتها.
كم أحسدكم أيها العراقيون على هذا الحزن! على هذه المشاعر الفياضة! لو أنّني كنت عراقيّاً مثلكم، لو أنّني شاطرتكم وجع التجربة، وألم الشتات؛ فتجربتي الشعرية ستكون أغنى بكثير، كيف لا أكون عراقيّاً؟ وأنا الذي استمعتُ إلى (سعدون جابر) مراراً، وحفظتُ أشعار (السياب) عن ظهر قلب، ودرست أبا نواس تراجم ونقداً، والسائق بدأ يترنح ويميل برأسه ذات اليمين وذات الشمال، والمطرب يصرخ (بكيت لوحدك ما حدا بكى وياك)، لا بدّ وأنّه من الشعب العراقي الحزين في منفاه الآن، وربّما ترك حبيبة هناك، ولا بدّ من أنّه شاعرٌ أيضاً؛ فكما يقولُ (لقمام ديركي) “بأنّك إن تسأل أي عراقي عمّا يفعل في حياته يُجِب: شاعر ..كاتب .. ماجستير بالإخراج المسرحي من بلغاريا”، نعم، لا بدّ وأنّه شاعر، ولو أنّني أحفظ شعري أو أملك دفتري لكنتُ أخذت رأيهُ بقصائدي؛ فمن المؤكّد أنّه شاعرٌ فَذٌّ عراقيٌّ أصيل.
ولوهلة عدتُ إلى وضعي الطبيعي بعد أن جفّت دمعاتي التي أهرقتها في سبيل حبي للعراق، إلا أنّ السكرة ذهبت وأتت الفكرة، فقد انمقتّ وبت أحسّ بالضجر؛ يعني راجع من السهرة مبسوط انضرب أبو المزاج، وهنا فقط بدأ الصراع.. كيف سأسكتُ المذياع؟ فكما أعرفُ أن الشعب العراقي شعبٌ حساسٌ جداً، وأخافُ لو طلبتُ منه أن يسكتهُ أو أن يوطي الصوت أن يحسّ بأنّني أتنمّر عليه، كيف لا وهو الشاعر العطوف المرهف جياش المشاعر ومترف الحنان والحنين لعراقه الحبيب، والذي يكسب قوته ليطعمَ أولاده الجياع .. لا لا يا موفق لا عشتَ لتفعل هذا.
ما هي إلا لحظات قليلة حتى بدأ الصداع ينخر رأسي، بحق لم أعد أقوى على سماع همسة واحدة من (حسام الرسام)؛ أي المطرب الذي يسلخ الموال والذي وصل فيه إلى مراحل التصعيد والجوابات أكثر من الرز؛ يعني الصوت اخترق طبقة الأوزون، فما بالكَ بطبلة أذني عزيزي القارئ؟ وبينما كان موفق الشاعر الذي في داخلي يقول لا، كان لساني يصرخُ بأعلى صوت: حضرتك عراقي معلّم؟ قال لي بلهجةٍ شاميّة والتي تدلّ على أنّه شاميٌ أبّاً عن جد؛ فالياء التي نترني إياها وصلت إلى العراق: لا والله شامي، فأجبته باللهجة الحمصيّة القديمة والتي توحي لمن يسمعها بأنّني حجرُ أساسٍ من حجارة باب الدريب السود: لَكن طفّيلي هل المسجلة يرحم أبوك، وعدتُ إلى المنزل الذي يشبه “قارورة العطر” كما قال (نزار قباني).
21/09/2020