في اللحظة التي أكتبُ فيها هذه المقالة، يخسرُ آلاف المدنيين (كرد/ عرب/ سريان/ أشور..) في شمال شرق سوريا بيوتهم ومدنهم وقراهم، تخسرُ النساء هناك مطابخهن الممتلئة بالمؤونة الشتوية، لقد صنعنا كل شيء بأيديهن، مونة المخلل والبرغل والدبس والمربيات، كل شيء جاهز ومكتمل وموضوع بمرطبانات زجاجية مغلقة بانتظار الشتاء، لم تعرفن أن مآل تعبهن سيذهب سدى تحت غبار دبابات الحرب، الحرب التي لم تتوقف يوماً منذ ثماني سنوات، كانت هناك دوماً تطلُّ بظلها على حيوات الناس وتنتظر اللحظة التي يقرر فيها الديكتاتور التركي بدء المعركة.
قد يبدو للبعض هذا الهجوم الذي افتعلتهُ تركيا وساندته قوات تدعى الجيش الوطني، لأسبابٍ متعلقة فعلاً بإنشاء منطقة أمنة للاجئين السوريين، لكن تحت هذه الشعارات والبيانات الرسمية تكمنُ حقيقة ثانية يعرفها الكرد جيداً، الخوف التركي القديم من وجودهم بالقرب من حدودها، فعلى امتداد الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا، تمتد مدن وقرى غالبية سكانها كُرد، حيث بإمكان الجنود الأتراك رؤية حبال غسيل المنازل، الثياب البيضاء التي غسلنها بمنظفات معطرة، ونشرنها بانتظار أن تجففها الشمس، على مرمى من بندقية الجندي الذي على الحدود، لم يخطر لهن أن السماء يمكن أن ترمي غسيلهن المبلل والخيوط التي علقن عليها البامياء والثوم والبيتنجان بوابلٍ من الرصاص والموت.
الآلاف يفترشون الأراضي، يتمسكون بالهواء والفراغ بعيداً عن الجدران التي يمكن أن تقع فوق رؤوسهم إن هم بقيوا بمنازلهم، الآلاف يعيدون حكاية الهجرة التي لم تتوقف، الهجرة التي يخاف منها دول الاتحاد الأوروبي، حيث يهددهم أردوغان بفتح الحدود لدخول ٣،٥ لاجئ من بحر إيجه، يصمت الضمير الأوروبي الخائف من بعبع اللاجئين، دون أن يدركوا أن ما يحدث اليوم من مآس ومجازر وقتل وتهجير يؤسس للغد الأسود، الغد المليء بالكراهية والحقد وعدم الصفح، الذي سوف يطالهم أيضاً. فما حدث في ١١ أيلول عام ٢٠٠١ كان نتيجة ممارسات مثل هذه.
في إحدى الصور القادمة من سريه كانيه/ رأس العين، امرأة قروية تهربُ من المدينة على رأسها بقجة حريرية ملونة، فكرتُ بالأشياء المهمة التي حملتها داخل تلك البقجة، وتذكرتُ أنهُ كانت في خزانة أمي بقج عديدة من جهاز عرسها، بعضها حريريّ ملون، وبعضها الأخر أبيض مطرز برسومات يدوية جميلة… تركتها أمي خلفها حين هروبها هي الأخرى في بيتيها في كوباني وحلب، تلك البقج التي كانت مرتبطة في ذاكرتي بأشياء وذاكرة النساء فقط، كن يخفين داخلها الذهب، البخور، حبات عقيق أسود تتوارثنهُ من أمهاتهن، النقود والمسدسات الممنوعة لأزواجهن… داخل تلك البقج كانت أسرارهن وحياتهن، وتلك المرأة في الصورة كانت تحملُ بقجتها وتهرب على عجالة.
ربما النساء فقط، حين يحلّ السلام وتغادر الحرب إلى غير رجعة، سيكن يوماً قادرات على رواية الحكاية كاملة، الحكاية التي يخبّئنها داخل بقجتهن الحريرية، وهن هاربات من الموت والدبابات والقصف والفناء.
*المصدر: موقع حكاية ما انحكت