“وجوه تملأ ساعة المحطة” عنوان مجموعة شعرية جديدة للشاعر السوري عبد الله الحريري، صدرت حديثاً عن دار ابن رشد للطباعة والنشر . وهي المجموعة الشعرية الثالثة للحريري.
جاءت المجموعة في مئة وإحدى عشرة صفحة، متضمنة ثلاثا وعشرين قصيدة يحاول الشاعر من خلالها التقاط التحولات النفسية في ظرف الصدمة، وما يرافقها من هشاشة واضطراب، ولعله ينجح في ذلك إلى حد بعيد، فيرصد شخصية السوري، وربما العربي، المغترب بما يحمله من خيبات وانكسار في حربه المستمرة منذ عمق الزمان، فهي قديمة بقدر ما هي دائرة في لحظة الشعر ذاتها. وعلى الرغم من قوة اللغة ومتانة العبارة فقد وفق في عصرنة الصورة وحررها من نمطيتها مطوعاً مفردات زمنه الرائجة في صور شعرية شفيفة لا يدانيها التكلف أو الابتذال.
ينوس الشاعر بين لحظتي الماضي والحاضر، مستحضراً ذاكرة وفيّة للأماكن والأشخاص، فتحضر المدن والقرى ويحضر الأصدقاء والغائبون، ومن خلال ذلك كله يبني تصوراً فكرياً واضحاً للعالم والحياة. لكنه يقف أمام قساوة اللحظة وجلافة الغربة وتنكر المدن فينظر إلى الآتي من وراء زجاج مغشى ويبث الضباب في كل تصور له.
على غير عادته في مجموعاته السابقة فقد كانت جميع قصائد المجموعة قصائد نثر، لكنها لا تخلو من مس بعبارات منفلتة هنا وهناك تذكرنا ببدايات تجربته مع قصيدتي التفعيلة والعمود.
من أجواء المجموعة
“لقاء أعمى على طاولة حمراء:
لوّحتُ له، حين مشى،
بأصابعَ تتوّجُها أسماء المدن؛
كان قد أهدر آخر الوقت بالكبرياء
ولم يقلْ ما أراد قولَه:
“ليتَهُ لم يُهدِنا النّار
لعلّ خصومتنا كانت أقلّ شراسة”
. . .
حين كنّا في المقهى
وضعت قبّعتي على الطّاولة،
بشعره الطّويل وذقنه الّتي كذقني
وضع البلاد على الطّاولة..
مرّت الشّام من بيننا
كالأرملة
رفعنا لها الأنخاب كالقرابين
ثمّ تبادلنا الذّكريات
مع السّجائر
والشّتائم
. . .
معًا تفاجأنا بالكلاب الأليفة
والميترو
والمولات المكتظّة بالأزياء..
والنّساء سريعات المرور
وأنّنا نتّسع للغةٍ طارئةٍ
في البلاد الطّارئة
. . .
حدّثته عن امرأةٍ حجريّة
تنسلّ إلى سريري
بعد كلّ مجزرة
حدّثني عن زرقة الحليب
في وشيجة السّور العجوز
والرّعشة المتكسّرة
قلتُ له:
لا امرأة إلّا حبيبتي
قال لي:
باب الأرض أحمر
باب المدينة أحمر
باب البيت أحمر
مذ هجرتْ أمانيك الصّغيرة عشَّها
ولم تعدْ لقيامةٍ متأخّرة
. . .
نسي لحيتَه
حين ظنّ البلادَ مريضةً بالأنبياء
نسيتُ قبّعتي
حين ظننتُ البلادَ مصابةً بالغرباء
سألته:
هل أنت نادم
أجاب:
أنتَ ندمي
قلتُ: وأنتَ كذلك
. . .
حمل البلاد
في كيسٍ من الخيش
وأدار لي ظهره
همهم أحدُنا بالأغاني
واختنق الآخرُ بالسعال
ليتني قلت له غير ذلك
ليته قال لي غير ذلك”.
سيرة..
عبد الله الحريري، كاتب وشاعر وطبيب سوري من مواليد ريف درعا عام 1983. صدرت أولى مجموعاته الشعرية تحت عنوان: “الشهيق إلى الرئة الحرام” عن دار فضاءات عام 2016 في أثناء حصاره في منطقة جنوبي دمشق ما بين عامي 2012-2018 حيث عمل طبيباً ميدانياً في مشفى فلسطين في مخيم اليرموك، وساهم في تأسيس وإدارة عدة مشاريع أدبية وثقافية هناك، كما كان له دور سياسي واجتماعي بارز خلال الثورة السورية اعتقل على إثره مرتين . وبعد تهجيره قسراً إلى الشمال السوري عام 2018 صدرت مجموعته الشعرية الثانية عن نفس الدار بعنوان: “لا تنس قلبك حافياً”.
*تلفزيون سوريا